في ذكرى مرور عام على سقوط سهل نينوي.. تفاصيل الهروب من جحيم "داعش"
الخميس 06/أغسطس/2015 - 12:12 م
طباعة

اليوم 6 أغسطس تاريخ لا ينسى أبدًا في عقل أي عراقي كان يعيش في أمان في منطقة سهل نينوي بالعراق، والذي تحول فجأة من مقيم إلى نازح أو مهجر؛ حيث سقطت بلادهم في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام "داعش" الإرهابي؛ حيث تقول إحدى راهبات الدومينيكان واصفه التهجير:
"لقد كان المسيحيون في كل مكان على الطريق، غير عالمين أي طريق سيسلكون. خيّم ظل حقد داعش على كل شيء، ولم نفهم إلّا القليل مما يحدث حولنا. عندما وصلنا في النهاية إلى كردستان بقي الكثير من الناس مشردين في الشوارع، لقد كانوا كخراف دون راعٍ. وبعد بضعة أيام لنا في إربيل أدركنا أن مدننا في سهل نينوي قد وقعت في قبضة داعش، وأصبحت عودتنا لها حلماً بعيد المنال. ومما زاد الطين بلّة هو أن داعش لم تكن المسبب الوحيد لألمنا فقد شاركها جيراننا من غير المسيحيين وأصدقاؤنا في القرى المجاورة ممن خدمناهم وعلمناهم وعاملناهم أفضل معاملة، فما كان منهم إلّا أن خذلونا في أوقات الشدة والأزمات.
لم يكن من السهل علينا تقبل حقيقة أننا نازحون، تخلت عنا الحكومتين العراقية والكردية فلم تكن مبادراتهم بالمستوى المتوقع والمطلوب. أخذت الكنيسة المسئولية على عاتقها في محاولة لجمع ودعم النازحين الذي كانوا منتشرين في جميع أنحاء منطقة كردستان.
مع إدراكنا لمدى سوء الأوضاع فكرنا في طرق لتخفيف الأزمة ومساعدة الناس في تلبية احتياجاتهم الأساسية. بدأنا مشاريعنا من الصفر، لكن بمساعدة الإخوة والأخوات الدومينيكان وأصدقائنا والمنظمات المختلفة، فقد كنا قادرين على تزويد النازحين بالمواد الغذائية وغير الغذائية. وزعنا البطانيات والفرشات لـ5000 أسرة، والحليب والحفاضات والملابس والصابون والمناشف وأغطية صيفية لنحو 10000 أسرة، وأحذية على 740 تلميذ، إضافة إلى 5000 مبرد هواء و600 ثلاجة و400 مبرد مياه. على الرغم من أن بعض هذه المواد قد وزعت على النازحين بشكل عام إلّا أن تركيزنا كان على من استأجروا منازلاً فهم يدفعون الإيجار والكثير منهم لا دخل لديه.
كما فكرنا في الأطفال الذين ضاعوا وسط هذه الفوضى. لقد افتتحنا روضتي أطفال مجانيتين، وتعاونّا مع بعض المنظمات لفتح عيادة خيرية للنازحين. كما حصلنا للتو على رخصة لفتح مدرسة ابتدائية مجانية أيضاً. استأجرنا مكاناً ونأمل أن يلاقي احتياجات النازحين. وهدفنا من ذلك إظهار رعاية ومحبة الكنيسة للنازحين.
وبعد قولنا هذا، علينا أن نعترف أن العمل مع النازحين لم يكن سهلاً دائماً. فقد واجهتنا بعض التحديات التي أثقلت كاهل مهمتنا حقاً. هناك عدد كبير من اللاجئين وشعرنا أحياناً أن عملنا غير منطقي. كما أننا لم نكن مستعدين لمثل هذا النوع من العمل وكانت تنقصنا المهارات اللازمة للتعامل مع هذا الوضع. وكان ما سبب لنا الصدمة الأكبر هو الوفاة الغير متوقعة لعشرة من أخواتنا معظمهم في السبعينيات من العمر خلال فترة قصيرة جداً.. ثلاثة أشهر. وفي سياق متصل نشر موقع عنكاوا تقرير مفصل يصف ليلة سقوط سهل نينوي عن طريق تتبع حياة شخص يدعى (أبو متى).
"أبو متى" يروي تفاصيل الهروب الكبير

لم يكن (أبو متي) ليدري أن رحيله في تلك الليلة عن داره وبلدته سيطول، بحيث أخذ ينتهر زوجته؛ لأنها لم تتأكد من غلق جميع نوافذ البيت؛ لئلا تدخل الأتربة إلى الدار فتفسد أثاثه ومحتوياته بعد أن كان قد أغلق هو باب الدار. فخروجهم جاء على عجل بعد انتشار خبر انسحاب (البيشمركة) القوة العسكرية التي كانت تتولى حماية بلدتهم ومناطق سهل نينوي جميعها. وهو لا يعرف أن ريحًا صفراء ستكتسح المنطقة بأكملها وتأتي على الأخضر واليابس فيها.
كان ذلك في ليلة الأربعاء 6 أغسطس 2014 .
لم يكن مسلحو تنظيمات الدولة الإسلامية المعروفة إعلاميا بـ(داعش) تبتعد عن مناطق سهل نينوي سوى كيلومترات قليلة لا تزيد في أغلبها عن خمسة كيلومترات وربما أقل بعد سقوط مدينة الموصل في 10 / 6 / 2014 أي قبل شهرين من سقوط سهل نينوي بيد مسلحي داعش؛ ولهذا كانت المنطقة طيلة الشهرين تلك محط أنظار وسائل الإعلام العالمية، وهي تنقل تقاريرها من تلك المنطقة؛ سيما وأن أغلب سكانها من المسيحيين، أي من انتماء ديني يثير حفيظة تنظيم داعش ويعرضهم إلى إبادة جماعية إذا ما تقدم المسلحون إلى هذه المناطق كما تعرض إخوتهم من الإيزيديين إلى جرائم يندى لها جبين الإنسانية عند احتلالهم لمناطقهم في 3 / 8 / 2014 . إذن ما سر تمسك هؤلاء الناس بمناطقهم وعدم تركهم لها والمسلحون على مشارف بلداتهم .

لقد عمد مسلحو داعش إلى قطع مياه الشرب عن قرى وبلدات سهل نينوي منذ الأيام الأولى لاحتلالهم المواقع التي تقع فيها المصادر التي تؤمن المياه لهذه المنطقة، والكهرباء أيضًا، فعاش سكان سهل نينوي في ظروف أشبه ما تكون إلى جرائم الابادة الإنسانية؛ حيث توجه الناس إلى استغلال مياه الآبار السطحية العالية الملوحة والغير الصالحة للشرب مما وصلت الإصابات في بلدة برطلة وحدها وخلال شهر يونيو إلى (618) إصابة بالإسهال و(661) إصابة بالأمراض الجلدية، هذا بالإضافة إلى حالات الوفيات التي ارتفعت خلال هذين الشهرين بسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع درجات الحرارة . وبالإضافة إلى تعرض أحياء في بلدة بغديدا (قرة قوش) إلى قصف بالهاونات من قبل تنظيم داعش وسقوط شهداء وجرحى. ورغم كل هذه الظروف الصعبة إلا أن السكان لم يتركوا بلداتهم وقراهم في سهل نينوي .
الأربعاء 6 أغسطس صباحًا
استيقظ سكان برطلة وبغديدا وكرمليس والقرى المجاورة في الساعة الخامسة من صباح الأربعاء 6 / 8 / 2014 على دوي انفجار هائل ناتج عن قصف جوي لمواقع داعش المتمركزين على مشارف هذه البلدات وأعمدة الدخان تصاعدت من موقع الانفجار، هذا مما زاد من ثقة الناس من أن القوات المتمركزة على خطوط التماس مع داعش للدفاع عن المنطقة والمتمثلة بقوات البيشمركة والطائرات التي جالت في سماء البلدات كافية لصد أي هجوم متوقع من قبل داعش، علمًا أن هذه القوات قد تم تعزيزها عددا وعدة بالأسلحة والأفراد، حتى بدأت تحركات هذه القوات ملفتًا للنظر؛ خصوصًا بعد التهديد الأول الذي حصل لبلدة بغديدا .

الأربعاء 6 أغسطس قصف بالهاونات
تواردت الأنباء عن قصف بالهاونات في حدود الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم أدى إلى سقوط ثلاثة شهداء لتشيعهم البلدة في عصر نفس اليوم .
كان الخبر سببًا في نزوح أعداد من العوائل من بلدات سهل نينوي إلى آربيل ودهوك لكن التكدس في السيطرات المؤدية إلى هاتين المدينتين وطمأنة من أفراد هذه السيطرات دفع ببعض العوائل للعودة إلى مناطقها.
الأربعاء 6 أغسطس ظهرًا
حركة غير طبيعية في هذه البلدات توجس لدى البعض وطمأنة من آخرين وشعور مشوب بالخوف وعدم الاطمئنان هو سيد الموقف، فالذي حدث للإخوة الإيزيديين قبل أيام لا زالت جراحه تنزف. لا صوت للقصف، لا حركة للقطعات واستمر كذلك حتى المساء ولم يكسر سكونه في بغديدا غير صلوات تشييع الشهداء وبكاء النسوة والأقرباء على رحيل أعزائهم .
الأربعاء 6 أغسطس مساء
تنسحب الشمس خلف الأفق لينشر الليل ظلامه في أرجاء المنطقة واتصالات متواصلة بين الذين خرجوا وبين المتبقين في البلدات ليطمئنوهم بأن هدوءًا تامًّا يسود المنطقة وقوات البيشمركة وقوات الحماية المحلية (الحراسات) تجوب شوارع البلدات وأزقتها، وتبث العزيمة في المتبقين منهم .
الأربعاء 6 أغسطس ليلًا
الساعة تشير إلى الواحدة ليلًا.. سكون تام.. لا صوت حركة ولا صوت إطلاقات؛ حتى إن أصوات بعض الحشرات الليلية تكاد تسمع أصواتها بوضوح، ولكن أخبار تصل عن اقتحام داعش لمناطق أخرى، وأنباء عن كر وفر بين داعش وقوات البيشمركة في قواطع أخرى تدفع بتلقي المتبقين اتصالات بضرورة الخروج وترك كل شيء، لكن سر التعلق بالأرض والمدينة هو الذي كان يجعل منهم أن يعطوا آذانًا غير صاغية تجاه نداءاتهم، بل يدفعهم هذا السكون إلى النوم بعد يوم من القلق وترقب الأوضاع .
الأربعاء 6 أغسطس ليلة سقوط سهل نينوي
الساعة تشير إلى الثانية والنصف ليلًا والسكان نيام لكن خبرًا يتسرب في أرجاء مناطق سهل نينوي وبين سكانه بأن أمر انسحاب قد صدر للقوات العسكرية المكلفة بالدفاع عنها؛ مما يسمح لمسلحي داعش بالتقدم نحو المنطقة إن لم يكونوا في طريقهم نحوها.
هذا الخبر خلق خوفًا ورعبًا بين العسكريين قبل المدنيين، حركة بلا وعي وبلا تفكير الهدف واحد النفاذ بالأرواح ولا تفكير سواه، سيارات تنطلق من بين الشوارع وأحياء المدينة بأقصى سرعتها وكأنها في مضمار سباق السيارات، أصوات منبهاتها تتعالى تطلب من سابقاتها إفساح الطريق للفرار، فالوضع لا يحتمل التأخير، والكل باتجاه المناطق الآمنة في إقليم كوردستان.
مشاهد من ليلة السقوط

امرأة تجر أطفالها خلفها وأصوات بكاء وصراخ من آخرين طالبين النجدة ولا سبيل لهم غير الهروب سيرًا على الأقدام .
أفواج من البشر تقطع الطريق هاربين من الجحيم القادم، لا أمان لهم قبل الوصول إلى أقرب سيطرة عسكرية لقوات البيشمركة، تكدس الآلاف من البشر والآلاف من السيارات عند نقطة التفتيش الأولى باتجاه مدينة آربيل، وكذا الأمر باتجاه مدينة دهوك. الموقع ليس بعيدًا عن الخطر، فالكل يحاول المرور وأصوات الطلقات تنتشر في المكان؛ مما يزيد الرعب في نفوس الهاربين، عجلات عسكرية منسحبة تطلب المرور. لا أحد قادم بالاتجاه المعاكس، الطريق بممريه أصبح باتجاه واحد بل لم تعد السيارات تميز الطريق من غيره والناظر إليها يظنها قطعة واحدة تتحرك لشدة التصاق بعضها ببعض. وعطب إحداها يعني تركها في مكانها والترجل منها وإكمال طريق الهروب سيرًا على الأقدام .
عربات ودراجات هوائية ونارية مشهد من مشاهد الهروب من داعش، ولن يبالغ أحدهم إذا ذكر لك بأنه خرج بعائلته على دراجة نارية .
عريس مع عروسه لم يكملوا ليلتهم فاستقلوا الحوض الخلفي لإحدى السيارات أرحم من وقوعهم بأيدي داعش، نسوة لم يكن في بالها يوما أن تستقل الحوض الخلفي للسيارات ولكن النجاة بالأرواح أرحم .

سيارة أخرى في مشهد لا يُشاهد إلا في دول مثل دول شبه القارة الهندية، لم يبق مكان في حوضها فتدلى ركابها من جوانبها.
في الطريق يتفقد المهجرون الواحد الآخر ويبحثون عن المتبقين الذين غلبهم النوم أو لم يسمعوا بالانسحاب، تبدأ الاتصالات وتكون المفاجأة لهم منهم من لحق بركب المهجرين ومنهم من وقع بأيدي داعش .
الطريق إلى آربيل ودهوك ليس بعيدًا، ولكن في هذا اليوم أصبح كطريق الحرير طويلا، ينكشف الضوء ولا زالت نقاط تفتيش أخرى والطريق وعلى مدى النظر على جانبيه بشر يتحرك وعلى طوله الترحيب بالسلامة من أيدي داعش، فالتلقي بالأحضان والتحيات وكل وسائل الترحيب بالنجدة كانت سائدة بين الناجين ثمان ساعات بل وعشرة كانت تلزم الناجين للوصول إلى آربيل مثلا، ومن المهجرين من واصل طريقه حتى أبعد قرية على الحدود، لتبدأ هناك مأساة التهجير".