الشيخ المُجَدِّد محمد المراغي
الخميس 22/أغسطس/2024 - 11:00 ص
طباعة
هو محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي القاضي الحسيني المولود في 7 ربيع الآخر سنة 1298 هـ 9 مارس سنة 1881م مركز المراغة، محافظة سوهاج بصعيد مصر وينتهي نسبه الشريف إلى الحسين بن علي وفاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله وعليه وسلم، وتوفى في ليلة 14 رمضان 1364 هـ الموافق 22 أغسطس 1945 وصلي عليه بالأزهر، وأجريت له المراسم الرسمية، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة حضرها العامة والخاصة من العلماء، ودُفِنَ ليكون بذلك الشيخ الثالث والثلاثين والخامس والثلاثين للجامع الأزهر للجامع الأزهر على المذهب الحنفي، وعلى عقيدة أهل السنة.
نشأته وتعليمه
نشأ في مراغة التي نُسِبَ إليها وتربَّى فيها، وحفظ القُرآن الكريم على يد أبيه وفي أحد كتاتيبها تعلَّم مبادئ المواد الأساسية التي تُؤهِّله للالتحاق بالأزهر، ثم أرسله أبوه للقاهرة، للالتحاق بالأزهر، ودرس علوم الأزهر المقررة حينئذ مثل: التفسير، والحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والصرف، والعروض، والمعاني والبيان، والبديع والأدب، والتاريخ، والسيرة النبوية، على يد كبار مشايخ عصره وتأثر بأصحاب التيار المجدد وكان الأزهر وقتها يعيش نهضة إصلاحية واسعة النشاط؛ فقد حضر إلى مصر جمال الدين الأفغاني، واستقطب رجال الإصلاح وأقطاب الثقافة، وعلى رأسهم الإمام محمد عبده، وكان الرواق العباسي هو مجلسه، وكان يستمعُ فيه للمحاضرات، وأيضًا لشيخه الشاب علي الصالحي وهو من شباب علماء الأزهر المستنيرين المحقِّقين، الذي درس عليه علوم العربية، وتأثر بأسلوبه في البيان وتأثَّر بأسلوبه في البلاغة، ثم اتصل بالشيخ محمد عبده وتعلم منه التجديد والإصلاح وتتلمذ على محاضراته في تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه من ضرورة التنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى، وتأثَّر بمنهج الإمام محمد السلوكي ودعوته الإصلاحيَّة، ومواقفه الوطنيَّة، وسار على نهجه في التجديد.
وكان معروفًا بين أقرانه وزملائه من الطلبة بالأخلاق الكريمة والحِرص على طلب العلم وقدوة التحصيل، واعتاد هو ونخبة من زملائه أن يقرءوا الدروس قبل إلقاء المدرسين لها، ويقرءوا معها كتبًا أخرى وكل مصادر المعرفة، ونجح المراغي في امتحان العالمية، وكان ضمن أعضاء اللجنة الشيخ محمد عبده، ورأى المراغي وهو يُؤدي الامتحان مريضًا مرتعشًا من الحمَّى، ومع ذلك أجاد في الامتحان، بل كان الأوَّل على زملائه، ودعاه محمد عبده إلى منزله تكريمًا له.
وقد حصل على العالمية من الدرجة الثانية، وهي نفسها التي حصل عليها أستاذه محمد عبده، وهذه الدرجة تُؤهِّله للتدريس في الأزهر والمدارس التابعة له، ومن أجل هذا عقد الشيخ المراغي لنفسه حلقةً، وراح يُلقي فيها الدروس، ولأنَّه كان جميل العبارة ولطيف الإشارة، غوَّاصًا في بحور المعاني، فقد اشتدَّ الإقبال عليه، وتزاحم عليه الطلاب والعلماء لسماعه.
وأصبح حديث أهل العلم على اختلاف مذاهبهم ثم حصل على شهادة العالميَّة "الدكتوراه" وهو في سن الرابعة والعشرين من عمره، وهي سن مبكرة بالنسبة لعلماء الأزهر، غير أنَّه لم يبقَ في حلقات درسه غير ستَّة أشهر غادَر بعدها إلى السودان، ليتولَّى فيها القضاء أولاً في مديرية دنقلة، ثم مديرية الخرطوم، وفي هذه الفترة كان دائم الاتِّصال بأستاذه الإمام محمد عبده، تولَّى الإمام المراغي مناصب كثيرة قبل تولِّيه مشيخة الأزهر، نوجزها فيما يلي:
1- رئيس التفتيش الشرعي بوزارة الحقانيَّة "وزارة العدل" 1919.
2- رئيس محكمة مصر الكلية الشرعية 1920.
3- عضو المحكمة العُليا الشرعية.
4- رئيسً المحكمة العُليا الشرعية.
وفي هذه المناصب قام بعدَّة إصلاحات مهمَّة؛ منها
1- عدم التقيُّد بمذهب إذا وجد في غيره ما يُناسب المصلحة العامَّة للمجتمع، وكان القضاة قبلها مُقيَّدين بمذهب معيَّن، وقال لأعضاء للجنة القضاء: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافقٌ للزمان والمكان، وأنا لا أحتاج أنْ آتيكم بنصِّ المذاهب الإسلامية يطابقُ ما وضعتم، إنَّ الشريعة الإسلاميَّة فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجدُ في تفريعاتها وأحكامها من القضايا المدنية والجنائية كلَّ ما يفيدنا وينفعنا في كلِّ وقت وحين، ولقد اختلف الأئمَّة في الآراء الشرعية والفقهية".
2- استنتج الشيخ المراغي أنَّ التجديد في الأحكام الشرعية ميسور لنا، وأنَّ المسائل الفقهية ما دامت غير قطعية فهي قابلة شرعًا للتجديد والتغيير.
3- اقتبس الإمام المراغي من كلِّ المذاهب والمجتهدين، وأصدر سنة 1920 "قانون الأحوال الشخصية"، فعدل قانون الطلاق والمواريث.
4- كان يُراعي في فتاويه وآرائه التيسير في الأمور، آخذًا بنصيحة الإمام محمد عبده: "العلم هو ما ينفعك وينفع الناس".
5- نادى بفتح باب الاجتهاد.
6- دعا إلى توحيد المذاهب بقدر الإمكان، فقال: "يجب العمل على إزالة الفروق المذهبية، وتضييق شقَّة الخلاف بينها؛ فإنَّ الأمَّة في محنةٍ من هذا التفريق، ويجب أنْ يدرس الفقه دراسةً بعيدةً عن التعصُّب لمذهبٍ معيَّن، وأنْ تدرس قواعده مرتبطةً بأصوله من الأدلة المنصوص عليها من الكتاب والسُّنَّة.
7- أوصى بوجوب أنْ يترفَّق الفقهاء بالناس في أمور شرعية كثيرة.
8- حاول التقريب بين المذاهب الطائفية، وتأكيد روابط الصداقة بين المسلمين والعالم، وإيجاد تضامن بين الهيئات العلمية والتعليمية في البلاد الإسلامية.
5- تولى بعدها عدد من الوظائف القضائيَّة وفي سنة 1937 عُيِّنَ مفتشًا للدروس الدينيَّة بالأوقاف، ولكنَّه عاد للتدريس بالأزهر، مع الاحتفاظ بوظيفته في الأوقاف وكان دائمَ الحنين للرُّجوع إلى الأزهر للإسهام في إصلاحه.
ونظرًا لمكانة الأزهر في العالم الإسلامي والعربي اتجه التفكير إلى إنشاء منصب عالمي كبير يُسمَّى "منصب شيخ الإسلام"، يكون اختصاصه ومجاله أوسع من منصب شيخ الأزهر؛ حيث إنَّ لكل ديانات العالم رئيسًا أعلى يتميَّز بامتيازاتٍ تتيحُ له أداء رسالته العالميَّة، ورُشِّحَ لهذا المنصب الإمام المراغي لمكانته.
فترة ولايته
تولَّى الشيخ المراغي منصب شيخ الأزهر مرتين: الأولى لمدة عامين من (22/5/1928 1928 حتى استقالته في 1930) والثانية لمدة 10 سنوات من (1935) إلى وفاته (14 رمضان 1364 هـ الموافق 22 أغسطس 1945م) وكان سنُّه وقتها 48 سنة، فأقبل بعزيمة قويَّة على النهوض بالأزهر، وقام على إصلاح أحواله واستبدل نظام الدعم لطلابه من نظام "الجراية" من الطعام والخبز، واستطاع تعيين راتب يصرفُ شهريًّا بالجنيه للطالب الأزهري، وقام بتأليف لجان برئاسته لدراسة قوانين الأزهر ومناهجه الدراسيَّة، كما اهتمَّ بالدراسات العُليا فيه، فاقترح إنشاء ثلاث كليَّات عُليا هي: كلية اللغة العربية، كلية الشريعة، وكلية أصول الدين، مع إنشاء أقسام عديدة لكلِّ تخصُّص،، وفي أكتوبر سنة 1929 احتدم الخلاف بين المراغي والملك فؤاد؛ فقدَّم استقالته، وحاول رئيس الوزراء منعه، لكنَّه أصرَّ على الاستقالة، واختير الشيخ الظواهري شيخًا للأزهر.
وبعد استقالته قضى أكثر من خمس سنوات عاكفًا في بيته على البحث والدراسة ومراجعة آراء المصلحين من قبلُ، وبخاصَّة آراء أستاذه الإمام "محمد عبده"، كما راجع الأسس التي وضعها للإصلاح وما تَمَّ تحقيقُه منها، وما ينبغي تعديله، وذلك في ضوء دراساته العميقة للنهوض بالأزهر.
ثم عاد شيخًا للأزهر مرَّةً ثانية في سنة 1935 مؤيَّدًا من آلاف العلماء والطلبة، ومؤيَّدًا من الحكومة ومن الرأي العام، وأُقيم احتفال كبير لتكريمه لعودته مرَّة ثانية للأزهر، وخطب فيه كثير من الزعماء، ووقف الشيخ فيه قائلاً: "إنما يُنسب الفضل إلى أستاذي محمد عبده، وذكر أنَّه هو المصباح الذي اهتدى به".
وباشَر أولاً تنفيذ ما استقرَّ عليه رأيه من وجوه الإصلاح في الأزهر، وما رآه في فترته الأولى، وقد حدَّد مهمَّة الأزهر أنَّه هو المعهد الإسلامي
الإسلامي الأكبر، وأنَّ الغرض منه هي
6- القيام على حفظ الشريعة؛ أصولها وفروعها، واللغة العربية، وعلى نشرهما.
7- تخريج علماء لتعليم الشريعة وأصولها وفروعها، واللغة العربية، ونشرها في مختلف المعاهد والمدارس، ويتقلَّدون الوظائف الشرعيَّة.
8- ومن آثاره العلمية برامجه الإصلاحية في الأزهر: وجوب تدريس القُرآن الكريم تدريسًا جيدًا، وتدريس السُّنَّة النبويَّة على وفق ما تتطلبَّه اللغة العربيَّة ومعانيها، تهذيب العادات الجتماعية؛ بحيث تتَّفق وقواعد الإسلام الصحيحة.
9- يجب أنْ نأخُذ بما عرفه الإجماع والعُرف من عدم المساس بما اتَّفق عليه الفقهاء، وبما نصَّ عليه كتاب لله وسنَّة رسوله.
10- دراسة الأديان والملل واجبة، وكذا تاريخها وفرقها، وتدريس أصول الفقه والمذاهب قديمًا وحديثًا، ثم استقرَّ رأيه على تقسيم التعليم الديني إلى قسمين: قسم عام ليسدَّ حاجة مَن يريد التفقُّه في الدِّين ومعرفة اللغة العربية، القسم يؤهل للتعليم الثانوي، والثانوي يؤهل للدراسات العُليا، وكلاهما مشابه لمنهج التعليم في المدارس المدنيَّة.
11- كان الشيخ المراغي يرى أنَّ الإسلام هُوجِم أكثر من غيره من الديانات السماوية السابقة، وهُوجم من أتباع الديانات السابقة، وهُوجم من ناحية العلم، وأهل القانون؛ ولهذا كانت مهمَّة العلماء مهمَّة شاقَّة تتطلَّب معلومات ودراسات كثيرة، وتتطلَّب معرفة المذاهب والأديان والبحث العلمي، وفهم الإسلام من منابعه؛ الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ الأمَّة المصرية إذا أرادت النهوض والمجد يجب أنْ تتذكَّر دينها وتضعه في المكان اللائق.
12- أنشأ الشيخ المراغي مجموعةَ لجانٍ؛ منها: لجنة الفتوى، الوعظ والإرشاد، جماعة كبار العلماء "مجمع البحوث الإسلامية"
13- رأى قبل وفاته أنْ يُنشئ مراقبةً خاصَّة للبحوث والثقافة الإسلاميَّة، تختصُّ بالنشر والترجمة والعلاقات الإسلاميَّة، والبعوث العلميَّة، والدُّعاة، فصدر قرار بإنشائها سنة 1945م، وبعد شهرٍ لقي وجه الله الكريم.
14- كان هدف الإمام المراغي أنْ يخرج الأزهر الشريف من النِّطاق المحلي إلى المجال العالمي؛ من أمثلة ذلك أنَّه انتهز فرصة انعقاد "المؤتمر العالمي للأديان" في يوليو 1936م، ودعوة الأزهر لهذا المؤتمر، فأرسل رسالةً للمؤتمر ألقاها نيابةً عنه عبدالعزيز المراغي؛ فلقيت استحسانًا عظيمًا، وتُرجِمت إلى عدَّة لغات، وانتخبه المؤتمر نتيجةً لذلك رئيسًا فخريًّا، وكان موضوع البحث الزمالة الإنسانية، دعا فيها إلى تعاون أصحاب الأديان جميعًا لمقاومة الماديَّة العمياء التي تُوشك أنْ تُدمِّر العالم.
ويقول عنه الإمام د.عبدالحليم محمود: عالم ذكي، وشخصيَّة خارقة، مهيب، صاحب رأي في العلم والسياسة، ونزلوا على رأيه في مواقف كثيرة مهمة، وكثيرًا ما استمع الملك فاروق إلى رأيه، وكان يحضر مجالسه العلميَّة، وينصره على بعض الأحزاب المناوئه، والجميع يعرف مكانة الإمام المراغي؛ لجرأته في قول الحق، وإنْ أغضب ذلك ذوي السلطان.
مواقفه
للشيخ المراغي العديد من المواقف الوطنية، منها:
الشيخ المراغي الملك جورج الخامس
كان الشيخ يعتزُّ بكرامته ومنصبه ووطنه، ويبدو هذا جليًّا في موقفه حينما أرادت بريطانيا تتويج ملكها جورج الخامس إمبراطورًا للهند، ورتَّبت حكومة السودان فأصدرت الأوامر إلى الأعيان وكبار الموظفين في السودان أن يسافروا إلى ميناء سواكن لاستقبال باخرة الملك وهي في طريقها إلى الهند؛ حيث تتوقف لبعض الوقت وكان في مقدمة المدعوين قاضي السودان وقتئذ الشيخ المراغي، وكان البروتوكول يقضي بألا يصعد إلى الباخرة أحد غير الحاكم الإنجليزي، وأما من عداه فيمكثون بمحاذاة الباخرة ويكفي أن يشرفهم الملك بإطلالة عليهم، فغضب المراغي وأخبر الحاكم الإنجليزي بأنه لن يحضر لاستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته، فتحرج الإنجليز وكثفوا اتصالاتهم ومن ثم غيروا الترتيب، وصعد الشيخ المراغي السفينة وقابل جورج الخامس فقال بعض الإنجليز والمراسلين مستنكرين: "كان ينبغي أن تنحني للملك كما ينحني كل من يصافحه" فرد عليهم قائلا: "ليس في ديننا الركوع لغير الله".
المساواة بالقضاة الإنجليز
رفض الشيخ المراغي الاستمرار في القضاة بعد منحه زيادة قدرها ستَّة جنيهات، على راتبه البالغ وقتها 14 جنيهًا تعادلُ الآن ستة آلاف جنيه فرفض قبولها، واحتجَّ على ذلك قائلاً: إنَّ القاضي الإنجليزي يتقاضى راتبًا قدره خمسون جنيهًا، وتستكثرون على القاضي المصري عشرين جنيهًا، وعاد إلى مصر، وطلب منه العودة لكنَّه رفض وقدَّم استقالته
في عام 1908.. إنه عندما عرض عليه منصب قاضي القضاة في السودان من قبل لاجان باشا، وكيل حكومة السودان، اشترط أنْ يكون تعيينه بأمر من الخديوي في مصر، وأن يختار بنفسه لائحة المحاكم الشرعيَّة بالسودان، واختيار القضاة، واختيار الآراء الفقهيَّة التي يحكمون بها، وطلب من كلِّ محاكم السودان أنْ ترسل إليه بيانًا شهريًّا بالقضايا، وأن يُراجع وينفذ ما يَراه صوابًا، وعمل على ترقية القضاء في السودان، فأشرف على القسم الشرعي بالكلية، وزوَّده بأساتذة من علماء الأزهر، ورفع من كرامة القضاء.
المشاركة في ثورة 1919
شارك في ثورة 1919، وقاد المصريون الموجودون بالسودان، ولمَّا اشتدَّت الثورة بمصر، والتفَّ المصريون بالسودان حول الشيخ الإمام، قاد جموعَهم في مظاهرة كبيرة، وأخذ يجمع التوقيعات لتأييد زعامة سعد زغلول لزعامة الأمَّة، ودعا كلَّ مصري لأنْ يُسهم بما تجودُ به نفسه لتخفيف المصائب التي أنزلها الإنجليز بالشعب المصري، واعترض الحاكم الإنجليزي بالسودان، ودار حوار بينهما قال له: إني أكلمك كرئيسٍ، وكان المراغي سريعَ البديهة، قويَّ الحجَّة في شجاعة، فردَّ عليه وقد التهب غاضبًا: كنت أفهم أنَّك تعلم واجبك، إنَّه ليس لي رئيس هنا، فأنا الحاكم العام معيَّن بأمرٍ ملكي، وهو حاكم سياسي وأنا قاضي القضاة، ولا إشراف لأحدٍ منَّا على الآخَر، وتركه وانصرف، فأرسل الحاكم العام إليه يدعوه لتناوُل الشاي معه، وبعد نقاشٍ طويل بينهما أجابه الشيخ المراغي بكلامٍ خلاصته: "إنَّني حوَّلت تيار ثورة المصريين والسودانيين ضد الإنجليز من تيار دموي إلى تيار مالي؛ أي: يجب على الإنجليز إرجاع كافَّة الأوقاف والمباني"، وأجراها لهم الإمام بمبالغ شهرية يعود ريعها على الشعب السوداني نفسه.
ردَّ عليه الحاكم قائلاً: "افعل ما تريد، وقد قلت للإنجليز: إنَّ الشيخ المراغي لا يمكن مناقشته أو التغلُّب عليه، ومن الصعب إقناعه "وهنا ثار حكَّام الإنجليز، واقترحوا أخيرًا بمنحه إجازة من السودان، ورجع إلى مصر مكرمًا"
الشيخ المراغي والملك فاروق
حاول الملك فاروق أن يجعل الشيخ المراغي يصدر فتوى يحرم على زوجته الأولى "فريدة" الزواج من غيره، بعد تطليقها، وكان الشيخ يُعالج بالمستشفى فرفض الاستجابة؛ فضاق الملك به، وذهب إليه بالمستشفى، فقال له الإمام عبارته الخالدة: "أمَّا الطلاق فلا أرضاه، وأمَّا التحريم فلا أملكه"، وطال الجدل، فصاح المراغي قائلاً: "إنَّ المراغي لا يستطيع أنْ يحرم ما أحلَّ الله".
مقاومة الفساد
لقي الإمام المراغي في حياته متاعب عديدة؛ سواء من الأحزاب والاستعمار وبعض ذوي النُّفوذ، وتغلَّب على كلِّ ذلك بقوَّة إيمانه بالله، وكان حريصًا على الأمانة، صادقًا لا تأخذُه في الحق لومة لائم، ولو كلَّفَه ذلك حياته؛ مثل ما فعل بعض المجرمين في قضيَّة رشوة، وألقوا عليه ماءَ النار، ولكنَّ لله لطَف به، وقد انتكست صحَّة الإمام بعدها، وتروي "مجلة المصور" داخل المستشفى قبل وفاته بأيَّام، وكان يقضي وقته في كتابة وتفسير سورة القدر؛ ليُلقي عنها حديثًا في ليلة القدر القادم، ورأته الممرضة ليلة وفاته منكبًّا على كتابة التفسير، فطلبت منه أنْ يستريح فرفض، ثم زاره الطبيب فوجده يتمتَّع بصحَّة جيدة ونبض حسن، ولكنَّه ما كاد ينصرف حتى فاضت روحُه إلى بارئها في ليلة الأربعاء 14 رمضان 1364هـ- 22 أغسطس 1945م، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير في جنازةٍ مهيبة، وحزن عليه العامَّة والخاصَّة.
الشيخ المراغي والحرب العالمية الثانية
في الحرب العالمية الثانية أعلن كلمته المشهورة في مسجد الرفاعي أثناء خطبته: "أسأل الله أنْ يجنِّبنا ويلات حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل"؛ لأنَّ الإنجليز أرادوا أنْ يزجُّوا بالمصريين معهم في حرب الألمان، ولقد أحدث تصريح الإمام ضجَّة كبرى هزَّت الحكومة المصرية وأقلقت الإنجليز، واتَّصل رئيس الوزراء بالشيخ محاولاً تهدئة الموقف، والإنجليز يعرفون مكانته الدينية ومنزلته عند الشعب، ونادى الإمام باحترام العلم والعلماء فهم صفوة القوم وعليتهم، وأمر رئيس الوزراء بأنْ يُصدر مرسومًا بتصدُّر العلماء واجهة كلِّ الاحتفالات الرسميَّة.
مؤلفاته
وعلى الرغم من كثرة مشاغل الإمام المراغي والمتاعب والخصومات السياسيَّة إلا أنَّه توجد له مؤلفات ومذكِّرات وخطب كثيرة في الإذاعة والصحف والمجلات في ذلك الوقت، منها:
1- الأولياء والمحجرون بحث فقهي في موضوع الحجر على السفهاء- مكتبة الأزهر.
2- تفسير جزء تبارك، لا يزال مخطوطًا.
3- بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم.
4- رسالة الزمالة الإنسانية، مؤتمر الأديان بلندن.
5- بحوث في التشريع الإسلامي في الزواج.
6- تفسير بعض سور القرآن في مناسبات دينيَّة في ليالي رمضان، منها سور لقمان والحديد والعصر، ونشر أغلبها في مجلة الأزهر.