أول تقرير وثائقي يرصد أقليات العراق بعد داعش "في مهب الريح"
الإثنين 28/سبتمبر/2015 - 11:44 ص
طباعة

كالريشة في مهب الرياح أصبح حال أقليات العراق بعد أن سيطر تنظيم داعش على مدينة الموصل في يونيو 2014 تحملهم الرياح في اتجاهات المسكونة الأربعة مهجرين ونازحين، يحملون الوطن والشهداء في قلوبهم الجريحة التي أصبحت خارطة للحزن الكبير والوجع الذي لا يبرد، وتوثيقًا لواقع الأقليات العراقية المر صدر عن مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية في بغداد تقرير شامل باللغتين العربية والانكليزية عن انتهاكات حقوق الاقليات حمل العنوان التالي (في مهب الريح: أقليات العراق بعد تسونامي داعش)، في 144 صفحة ليكون بذلك وحسب المؤلف الرئيسي الاكاديمي المتخصص بالأقليات (سعد سلوم) "التقرير الأشمل في توثيق الانتهاكات، وهو التقرير الأول في سلسلة تقارير سوف تصدر تباعًا كل ثلاثة أشهر لتوثيق مأساة الأقليات العراقية بعد الأحداث الدامية التي أعقبت اجتياح تسونامي داعش لمحافظة نينوي وأجزاء أخرى من العراق.
الأسباب

وقد خصص التقرير مساحة كبيرة لانتهاكات حقوق المسيحيين، وحسب سلوم فإن مقاربة التقرير سعت للإشارة إلى انتهاكات داعش الإجرامية الموثقة من قبل جهات دولية ومحلية عديدة، إلا أنها بالدرجة الأساس ركزت على توثيق الانتهاكات من قبل الأطراف الأخرى داخل البلاد؛ لأسباب عدة، منها: أنه حتى قبل احتلال داعش الذي هدد التنوع في مناطق الأقليات كان وضع الأقليات في العراق في خطر، وما يزال وضع الأقليات في مناطق العراق المختلفة غير مستقر ومهدد بشكل أساسي، والانتهاكات لحقوق الأقليات وتهميشهم مستمر في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد أضافت جرائم تنظيم داعش تعقيدًا على وضع معقد بالأصل. وثانيًا: أن التفكير في مرحلة ما بعد داعش، يستدعي إعادة بناء للثقة على مستوى (اجتماعي /افقي) بين الجماعات الاثنية المختلفة، وعلى مستوى (سياسي/عمودي) بين الأفراد والنظام السياسي، ولا يمكن تصور وضع خطة إعادة بناء الثقة دون وضع حد لانتهاكات حقوق الاقليات وتوفير خطة لإنهاء السياق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يسمح/أو يشجع على التمييز ضد الأقليات.
كما يؤكد سلوم أن إعادة بناء دولة المؤسسات يتطلب التأكيد على مبدأ سيادة القانون؛ من أجل تعزيز المواطنة على صعيد الافراد وتعزيز التنوع على صعيد المجتمع وتصميم (سياسات لإدارة التنوع) تقوم على قوة وجذور تاريخ التنوع في العراق، واستعداد النخب السياسية لتقبل اصلاحات جذرية ومنهجية لمقاومة التمييز وحماية حقوق الأقليات.
انتهاك

تناول التقرير بشكل مفصل انتهاكات حقوق المسيحيين، وأشار فيه إلى تهديد التوازن الديموغرافي للمسيحيين، فمن أصل مليون وأربعمائة ألف مسيحي قبل العام 2003 لم يتبق اليوم سوى 250-300 ألف مسيحي، والرقم الأخير مهدد بالذوبان التدريجي بسبب الهجرة اليومية.
ويؤكد التقرير أن المسيحيين ما يزالون يعيشون في خوف في مناطق أخرى من العراق على الرغم من عدم تعرضها لهجمات تنظيم داعش، إذ يتعرضون لانتهاكات تطال سلامة الأفراد، وعقاراتهم تتعرض للاستيلاء غير القانوني في بغداد كما تستمر مظاهر التمييز ضدهم وعلى نحو يهدد من تبقى منهم ويجبره على الهجرة.
ومن أمثلة انتهاكات حقوق المسيحيين في الحياة وسلامة الأفراد والتي تمثل عنفًا واستهدافًا لم يتوقف حتى بعد ما ارتكبته داعش من انتهاكات لا يمكن تخيلها، ومن أبرز الانتهاكات في التي يوثقها التقرير: عودة حالات الخطف للمسيحيين، والاستيلاء على عقاراتهم، الامر الذي ينضم إلى أثر انتهاكات داعش في تهديد ما تبقى من الوجود المسيحي في البلاد.
وتتوفر شكاوى عديدة لمؤسسة مسارات خلال السنوات الخمس الماضية تم تلقيها من قبل مسيحيين في بغداد توثق لحوادث ضد المسيحيين يقف خلفها أناس عاديون ركبهم الطمع في الاستيلاء على ممتلكاتهم جيرانهم أو كانت حركة منظمة من قبل بعض تجار العقارات الذين يطلق عليهم محليا تسمية "دلالون". كنا يشير التقرير بشجاعة إلى ان حالة الفوضى تسمح بشيوع هذه الظاهرة، لا سيما في حال عسكرة المجتمع وشيوع المظاهر المسلحة فيه، وهو ما يسمح للعديد من الأفراد والمنظمات الإجرامية أن يتخذ غطاء سهلًا ويُظهر سلاحه دون خوف. وهو ما أصبح عليه الحال بعد اجتياح داعش لمحافظة نينوي وصلاح الدين والأنبار، وتكاثر التنظيمات المسلحة في الشارع العراقي والتي تتنشر لافتاتها الدعائية في شوارع بغداد والمحافظات، وتتخذ أسماء وعناوين لا حصر لها.
ويوثق التقرير حالات خطف المسيحيين وحالات قتلهم في بغداد. وفي سياق مقابلات مؤسسة مسارات كان من السهل رصد مشاعر القلق والحذر التي تحيط بمن تبقى من مسيحيي بغداد التي يسجل قصصها التقرير .
يرى التقرير أن عودة حالات الخطف وتكرارها على هذا النحو، وعدم تحرك الحكومة الاتحادية والأجهزة الأمنية لوضع حد للعصابات الإجرامية التي تحترف الخطف، مع شيوع المظاهر المسلحة التي قد تشكل غطاء لجميع العصابات المذكورة، تدفع من تبقى من المسيحيين للتفكير بخيار الهجرة من أجل الحفاظ على سلامتهم وسلامة أبنائهم.
ويفتح التقرير حالات الاستيلاء على عقارات المسيحيين في بغداد، التي يؤرخ لها التقرير منذ مغادرة المسيحيين إلى خارج العراق؛ بسبب ارتفاع مستويات العنف والتهديدات التي يتعرضون لها خلال السنوات الماضية، وبقاء منازلهم دون إشغال. ولا سيما في المناطق التي تسكنها الطبقة الوسطى والوسطى العليا في منطقة الكرادة ببغداد التي تمتاز بارتفاع أسعار عقاراتها. ويرى التقرير في ذلك تعديًّا على حق أفراد الأقليات بحماية ملكياتهم الخاصة، إذ إن من الأساسي حماية الملكية الخاصة بالنسبة لأفراد الأقليات، ولا يجوز حرمان أي منهم من وسائل معيشته استنادًا إلى هذا الحق، فقد نصت الاتفاقيات والإعلانات الدولية على حماية هذا الحق. ويؤكد التقرير أن عملية الاستيلاء على عقارات المسيحيين تتم من قبل جهات تدعي انتماءها، أو أن لها علاقة بتيارات سياسية نافذة، وحتى لو تمت عملية النقل بصورة قانونية، فإنها غالبا ما تكون بالإكراه، إذ أن الكثير من الناس اضطروا نتيجة لتردي الأوضاع الامنية لترك محال سكناهم في بغداد واتجهوا إلى دول أخرى وبقيت أملاكهم بلا شاغل، وسهل ذلك عمليات الاستيلاء عليها.
وهناك شهادات يذكرها التقرير عن تعرض مسيحيين إلى ضغوط من جهات مسلحة لبيع عقاراتهم بأثمان بخسة، فيضطر هؤلاء إلى التخلي عن عقاراتهم وتتم عملية البيع بشكل قانوني مع أنها تقع تحت الإكراه.
وحسب شهادات مراقبين لملف الاستيلاء على عقارات المسيحيين في بغداد، فإن معظم المسيحيين يتجنبون رفع شكوى؛ خوفًا من خطف أحد أفراد العائلة، ولأنهم بلا حماية، وعلى الرغم من لجوئهم إلى القضاء، إلا أن محاولاتهم تبوء بالفشل بسبب تعاون بعض عناصر الشرطة التي تخشى سطوتهم أو التعاون معهم على أسس حزبية. فضلا عن أن أفراد الشرطة، غالبا ما يقبضون رشاوى لغض النظر عن القضية، وهو ما يترك المسيحيين المستولى على عقاراتهم أمام طريق مسدود.
ويوجه التقرير انتقادات إلى تعامل القضاء العراقي مع الملف مؤكدا أنه على الرغم من الإجراءات التي يقوم بها القضاء، إلا أنه من الناحية العملية ما تزال مثل هذه العمليات تجري دون عقوبات أو رادع.
ويتطرق التقرير في محور مستقل إلى معالجة مظاهر التمييز ضد المسيحيين، إذ يشير إلى أن التمييز الذي يتعرض له المسيحيون بسبب انتمائهم الديني أو القومي، ظاهرة تكاد تكون عامة ولا يتم استثناء منطقة من العراق منها. ويشير إلى الانتهاكات في هذا المجال في إقليم كردستان ومناطق العراق الأخرى. ويرى التقرير أن مظاهر التمييز تشكل ضغوطا لا يمكن مقاومتها للهجرة، وأحيانا يصبح من الصعب على أفراد الأقليات أن يقاوموا الرغبة في الهجرة التي تأتي من المحيط العائلي الأقرب بعد أن شاهدوا في جرائم داعش تطورًا مؤسفًا لتمييز كانوا يتعرضون له يوميا.
التقرير عالج أيضا حرمان المسيحيين من الحق في التعليم، ففضلا عن قصص التمييز داخل الجامعات في كردستان بالنسبة للنازحين المسيحيين من محافظة نينوي، فإن هناك قصصًا أخرى تمثل انتهاكًا لحق المسيحيين في مواصلة تعليمهم، وتضمنت حرمانا لهم من حق مقرر قانونا، ويروي التقرير قصصا عن حرمان المسيحيين وبقية الأقليات التي نزحت من محافظة نينوي بعد هجوم داعش عليها من حق أساسي مقرر للأقليات هو الحق في التعليم الذي أقرته الاتفاقيات الدولية، ومنها الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم.
وشكا العديد من النازحين من تعقد وصعوبة الإجراءات المتبعة لاستخراج الأوراق الثبوتية وجوازات السفر، وأضفى تعقد الإجراءات والمصاعب التي وضعت في استخراجها وتبديلها في عرقلة حياة النازحين، وأضافت عبئًا كان من الممكن تجنبه لو تم تسهيل الإجراءات.
وشرح التقرير الأوضاع المأساوية للنازحين المسيحيين؛ بسبب تبعات كارثة إنسانية بعد نزوح أعداد كبيرة منهم خارج مدنهم إلى مناطق أكثر أمانا، وهي معاناة سوف تترك أثرًا لا يمحى على شعورهم بهويتهم وإحساسهم بالمساواة والمواطنة، لا سيما إذا تعرضوا للتمييز في أماكن نزوحهم الجديدة وتُركوا بلا حول ولا قوة في كثير من الأحيان لمواجهة مصيرهم لوحدهم.
قوات مسلحة

وأخيرًا يخصص التقرير فصلّ مستقلًّا عن تشكيل قوات مسلحة من المسيحيين، ويرى التقرير فيها مؤشرًا خطيرًا على خروج المسيحيين عن التقاليد الهادئة التي تبنوها طوال تاريخهم، فهذه التقاليد قد تغيرت تماما بعد اجتياح داعش للقرى والأراضي المسيحية في سهل نينوي، حيث بدأ المسيحيون جديًّا بالتفكير في إنشاء قوات مسلحة مسيحية. وفي ضوء تراجع ثقتهم بالحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بات عليهم التفكير بخيارات مستقلة من دون استبعاد التعاون مع الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بالطبع، فالمسيحيون يدركون أن للآخرين (العرب أو الأكراد) أهدافًا في أراضيهم لا تتطابق في النهاية مع أهداف المسيحيين، فمناطقهم هي جزء من الأراضي المتنازع عليها بين المركز والإقليم، ينظر إليها الأكراد على أنها مناطق كردية لا بد أن تكون ضمن خريطة الإقليم، بينما تنظر إليها الحكومة الاتحادية على أنها مناطق تابعة إداريًّا للحكومة الاتحادية حتى لو خضعت عمليًّا لنفوذ كردي.
ويختتم التقرير بتوصيات شاملة منها وضع حزمة من التشريعات التي تحافظ على التنوع وتعزز الحفاظ على هوية وثقافات الأقليات، ومن ثم حماية الهوية التعددية للمجتمع.
وتبني سياسات تمييز إيجابي لغرض مناهضة التميز في مجال التعليم، ولعل أول خطوة يمكن البدء بها هو وضع قانون خاص للمنح الدراسية والكوتا للأقليات في العراق وإقليم كردستان يوفر زمالات دراسية خاصة بأفراد الأقليات للقبول داخل كليات وجامعات البلاد، كما لغرض الابتعاث إلى الخارج. أما فيما يخص أوضاع النازحين فيشير التقرير إلى ضرورة وضع خطة لمعالجة كارثة النزوح الإنساني وما يترتب عليها من أخطار تنال أفراد الأقليات على المستوى الصحي (الأمراض الانتقالية) والاجتماعي (التفكك الأسري) والنفسي (انهيار الصحة النفسية)، وأن تتحول الخطة إلى سياسات قابلة للتنفيذ لمعالجة حالة الطوارئ الراهنة وتزويدها بأطر مؤسسية لمواجهة اية أزمة مستقبلية، والأهم من ذلك توفير الموارد الكافية لجعلها قابلة للحياة والتطبيق والديمومة.
ومن الجدير بالذكر أن مؤسسة مسارات تعمل على إصدار تشريع لحماية النازحين يتصدى لانتهاكات حقوقهم في المناطق التي نزحوا اليها، ويوفر لهم ضمانات لحقوقهم الأساسية في عدم التمييز والحق في التعليم والحق في التنقل والسكن، وأن لا يجبروا على تقييد حرياتهم الأساسية تحت أي مبرر كان، وسوف تعقد نهاية الشهر ورشة داخل البرلمان تقدم فيها نصها لمشروع القانون.