الأب بطرس عواد ...راهب في معبد اللغة العربية
الأحد 07/يناير/2024 - 11:09 ص
طباعة
روبير الفارس
يظلم الكثيرون اللغة العربية عندما يضعونها في إطار ضيق باعتبارها لغة دينية. فثراء اللغة العربية جذب اليها العديد من رجال الدين المسيحي والرهبان فكرسوا حياتهم لدراستها وخدمتها ومن بين هذه الشخصيات تلمع شخصية الاب بطرس جبرائيل يوسف عواد، والمعروف بالأب أنستاس ماري الكرملي (5 أغسطس 1866 - 7 يناير 1947) والذي يعد من اهم الشخصيات الأدبية والفكرية المعروفة في العراق حيث خدم اللغة العربية وآدابها والفكر العربي والثقافة العربية، لا سيما من خلال مجلته المتميزة لغة العرب..
خدم أنستاس الكرملي اللغة العربية وآدابها أكثر من خمسين عاما بما وضع من كتب مهمة، وأبحاث جديدة، ومقالات مبتكرة، وتعليقات مستفيضة، وهو غزير الإنتاج فيما يكتب، وقل أن تجد مجلة عربية ذات شأن في عصره إلا وله مشاركة فيها باسمه الصريح أحيانا أو بأسماء مستعارة أحيانا أخرى، وبلغ عدد المجلات والصحف التي وافاها بمقالاته وأبحاثه أكثر من ستين صحيفة، كانت تصدر في العراق وسوريا ولبنان ومصر وفلسطين والأستانة، فضلا عن مقالاته الفرنسية التي نشرها في بعض المجلات الأوربية.
وعرف بغيرته الشديدة على اللغة العربية والدفاع عنها والعناية بألفاظها واستعمالاتها، وكان يرى في الخروج على العربية خطًّا لا يمكن قبوله أو التساهل فيه
حياته:
ولد الأب أنستاس الكرملي في بغداد في (5 من أغسطس سنة 1866م) لأب لبناني وأم بغدادية، فأبوه ويدعى جبرائيل يوسف عواد من بحر صاف من قرى لبنان قدم إلى بغداد في نحو سنة (1850م) وأقام بها، وتزوج من فتاة من بغداد تسمى مريم مرغريته، وأنجب منها خمسة بنين وأربع بنات، وكان ابنه بطرس الذي عرف بعد ذلك بأنستاس الكرملي الرابع بين أولاده
تلقى الكرملي تعليمه الابتدائي في مدرسة الآباء الكرملين، وبعد أن أتم دراسته بها انتقل إلى مدرسة الاتفاق الكاثوليكي، وتخرج فيها سنة (1882م) وبدأ حياته معلما للعربية في مدرسته الأولى، وكان آنذاك في السادسة عشرة من عمره، وأخذ ينشر وهو في هذا العمر الغض مقالات لغوية في العديد من الصحف المعروفة في ذلك الوقت مثل: الجوائب والبشير والضياء.
ولما أكمل العشرين غادر بغداد سنة (1886م) إلى بيروت، وعمل مدرسا بكلية الآباء اليسوعيين، وفي الوقت نفسه أكمل دراسته في تعلم العربية واللاتينية واليونانية، وأتقن الفرنسية، وتوفر على دراسة آدابها.
ولم يكتف الأب أنستاس الكرملي بهذا القدر من الدراسة، حيث سافر إلى بلجيكا سنة (1887م) والتحق بدير شفرمون قرب مدينة لييج، ودخل في سلك الرهبنة، وتسمى باسم أنستاس ماري الكرملي، وهو الاسم الذي لازمه وعرف به بين الناس
ثم دفعته رغبته في التزود من المعرفة إلى السفر إلى مونبلييه بفرنسا سنة (1889م) لدراسة اللاهوت والفلسفة وتفسير الكتاب المقدس والتاريخ الكنسي، وظل هناك حتى رسم قسيسا سنة (1894م) ثم غادر فرنسا إلى أسبانيا، وأقام بها فترة زار معالمها الإسلامية، ثم عاد إلى العراق ليتولى مدرسة الآباء الكرمليين
راهب في معبد العربية:
شغف الأب أنستاس باللغة العربية شغفا ملك عليه قلبه فانكب عليها قارئا ودارسا ومتذوقا ومنقبا، وحرص على خدمتها ونصرتها بكل ما يملك، ودفعه حبه لها أن يلمّ باللغات السامية الأخرى ويقف عليها كالسريانية والعبرانية والحبشية، فضلا عن دراسته للفارسية والتركية وإتقانه للإنجليزية والفرنسية
وقد هيأت له ثقافته الواسعة وتضلعه في اللغات أن يبحث في أصول بعض الألفاظ العربية واشتقاقها وقرابتها من لغة سامية أخرى أو غير سامية، بحيث لا يفوته استعمالها ووجه الفصاحة فيها، وما شاع من الخطأ في استعمال العامة لها، إلا أن بعض الباحثين يرى أنه انطلق من فلسفة أصالة هذه اللغات، وأن العربية أخذت عنها، ومن ثَم أصبح معظم ألفاظ العربية مستمدًّا من هذه اللغات، في حين أن الحقيقة هي أن هذه اللغات هي التي استعارت من العربية وليس العكس
وكان من إسهاماته أيضا أنه أخذ يضع مقابلا عربيا للمصطلحات الحديثة، وكان يقول إنه يوجد في العربية ألفاظ تكفينا مئونة الاستعارة من غيرها من اللغات الأجنبية، وإن لغتنا مفتقرة إلى تحرير ألفاظها العلمية والإشارة إلى ما يقابلها في اللغة العربية وفي اللغات الأخرى حتى يهتدي الكاتب إلى استعمالها في مواطنها؛ ولذلك أثنى على معجم الحيوان الذي ألفه أمين معلوف
وكان أنستاس الكرملي من رواد التصحيح اللغوي، والداعين إلى الحفاظ على اللغة وعلى أصولها، والابتعاد عن كل ما ينأى بها عن الاستعمال الصحيح؛ ولذلك نبه الكتاب إلى ما يقعون فيه من أخطاء، فانتقد كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" ل-جورجي زيدان وقال: كان يحسن بأن ينزه عن كل ما يشوه محاسنه، من ذلك ما ورد في قوله: "وقد تعاصر البابليون والمصريون، والأصح: وقد عاصر البابليون المصريين؛ لأنه لا وجود للتفاعل في مادة عصر"
الاستدراك على المعاجم العربية:
رأى الكرملي أن المعاجم العربية لا تحتوي جميع المفردات، وأن كثيرا منها موجود في كتب الأقدمين وأشعارهم، وفي مؤلفات المولدين، وأن عدم وجودها في المعاجم اللغوية لا ينفي ورودها على ألسنة الأقدمين؛ ولذلك عزم على تأليف معجم يتدارك هذا الخلل، وبدأ في تأليفه منذ سنة (1883م) وظل يعمل فيه حتى قبل وفاته بعامين، وسمى معجمه أولا "ذيل لسان العرب"، ثم عدل عن هذه التسمية واتخذ بدلا منها اسم "المساعد"، ويحدثنا عن دوافع تأليفه بقوله: "منذ أخذنا نفهم العربية حق الفهم، وجدنا فيما كنا نطالع فيه من كتب الأقدمين والمولدين والمعاصرين ألفاظا جمة ومناحي متعددة، لا أثر لها في دواوين اللغة... ولهذا رأينا في مصنفات السلف نقصا بينا، فأخذنا منذ ذلك الحين بسد تلك الثغرة..."، وقد ظل هذا الكتاب مخطوطا سنوات طويلة بعد وفاة مؤلفه، ولم ير النور إلا في سنة (1972م) حيث صدر المجلد الأول منه.
رائد الصحافة اللغوية:
اتخذ الأب أنستاس من الصحافة وسيلة لنشر الثقافة اللغوية ووضع المصلحات الجديدة لما استجد من مستحدثات، فأصدر مجلتين وجريدة، أما المجلة الأولى فهي مجلة "لغة العرب"، وكانت شهرية، فيها اللغة والأدب والمصطلحات والتاريخ وما يتصل بعلم الاجتماع وعلم الإنسان، وقد صدر منها تسعة مجلدات فيما بين سنتي (1911-1931م) وقد ضمت أعداد هذه المجلة مئات المصطلحات العربية وما يقابلها في الفرنسية، والمجلة الثانية هي "دار السلام" وكانت نصف شهرية تبحث في الأدب والاجتماع والتاريخ وتعنى بشئون العراق، وظلت تصدر لمدة أربعة أعوام 1918-1921م أما الجريدة فهي "جريدة العرب"، وكانت يومية سياسية إخبارية، صدرت لمدة أربع سنوات ببغداد 1917-1920م
صالونه الثقافي:
وكان للأب أنستاس مجلس يعقد في يوم الجمعة من كل أسبوع في دير الكرمليين، يحضره كثير من أهل اللغة والأدب والفكر من العراقيين وغيرهم ممن يفدون إلى العراق، ويستمر هذا الاجتماع من الصباح حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، يناقشون فيه شئون اللغة والأدب والتاريخ، ولكن كان هناك شيئان لم يكن مباحا الكلام فيهما في هذا المجلس وهما الدين والسياسة
واشتهر الكرملي بمراسلاته لأعلام الفكر واللغة في عصره حول بعض القضايا العلمية واللغوية، من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي باشا ومحمود شكري الآلوسي، وقد نشرت مجلة المورد مراسلاته مع أحمد زكي باشا
وكان الكرملي يستعين في كتابة مؤلفاته وبحوثه وتعليقاته بمكتبة ضخمة حوت أمهات المصادر العربية القديمة في اللغة والأدب والتاريخ والبلدان والتراجم، وجمعت هذه المكتبة ما يقرب من عشرين ألف مجلد، بينها 1335 مجلدا مخطوطا. وهذه المكتبة التي كانت من أعظم المكتبات الخاصة في العراق أنفق الكرملي سنوات طويلة في تكوينها، وقد آلت بعد وفاته إلى الحكومة العراقية
إنتاجه الفكري:
ترك الكرملي عددا هائلا من الكتب لا يزال معظمه مخطوطا لم ير النور، ومن أهم كتبه المطبوعة:
أغلاط اللغويين الأقدمين، ونشر في بغداد سنة 1932م، ونشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها، ونشر في القاهرة سنة 1938م، والنقود العربية وعلم النميات، ونشر في القاهرة سنة 1939م، وحقق عددا من الكتب، في مقدمتها: معجم العين للخليل بن أحمد، لكنه لم يكمله بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، ونخب الذخائر في أحوال الجواهر لابن الأكفاني، والإكليل للهمداني. وبالإضافة إلى ذلك خلّف ما يزيد على أكثر من 1300 مقالة تمثل جزءا كبيرا من إنتاجه
وقد حظي الكرملي بتقدير كثير من الهيئات والمجامع العلمية واللغوية، فانتخب عضوا في مجمع المشرقيات الألماني سنة 1911م والمجمع العلمي العربي في دمشق سنة (1920م) واختير ضمن أول عشرين عالما ولغويا من مصر وأوربا والعالم العربي يدخلون مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1932م
وفاته:
وبعد حياة طويلة قضاها في خدمة اللغة العربية توفي الأب أنستاس الكرملي في بغداد في (7 يناير 1947م)، ورثاه شعراء عدة، منهم أحمد حامد الصراف، ومما قاله:
وعشنا وعاشت في الدهور بلادنا *** جوامعنا في جنبهنَّ الكنائس
وسوف يعيش الشعب في وحدة له *** عمائمنا في جنبهنَّ القلانس