جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة
الخميس 23/يونيو/2016 - 05:55 م
طباعة
اسم الكتاب: جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة : رشيد رضا ومجلة المنار
المؤلف: أحمد صلاح الملا
الناشر: مصر العربية للنشر والتوزيع 2012
يعد كتاب أحمد صلاح الملا من أهم الكتابات التي تناولت رشيد رضا ومجلته المنار بالبحث والتحليل
وهي دراسة عن الفكر السياسي والاجتماعي في مجلة المنار "1898- 1935"، باعتبار المنار تشكل جذرًا من أهم الجذور الفكرية للأفكار الأصولية المعاصرة في بلادنا، ويقوم الملا في هذه الدراسة بتتبع الرؤى والمواقف السياسية والاجتماعية لهذه المجلة منذ بداية صدورها حتى توقفها عام 1935 بوفاة صاحبها محمد رشيد رضا.
وعلى الصعيد المنهجي، فقد تعامل الملا بمنهج التحليل التاريخي لنصوص المنار، لربط هذه النصوص بالواقع الذي أنتجها، والوصول في النهاية إلى تقييم لدور المنار في تطوير- أو تثبيت- هذا الواقع.
وثمة مسألة منهجية مهمة ينبغي توضيحها منذ البداية، حيث يلاحظ القارئ على امتداد هذه الدراسة نوعًا من التداخل بين المنار كمجلة وبين صاحبها رشيد رضا، وهذا التداخل طبيعي وموضوعي في واقع الأمر، كما يؤكد على هذا أحمد الملا، فرغم أن المنار قد استضافت على صفحاتها أحيانًا كتابات لآخرين كثر غير رشيد رضا- وهو ما سنوضحه في مواضعه- إلا أن رضا ظل هو الكاتب الأساسي في كل القضايا التي ناقشتها المنار، بل أنه انفرد في كثير من الأحيان، بالكتابة في قضايا سياسية واجتماعية عديدة.
والدراسة مقسمة هذ إلى تمهيد وستة فصول وخاتمة، وفي التمهيد يناقش الملا أهم أفكار الإصلاح الإسلامي السابق على المنار في إطارها التاريخي، كما يناقش ملابسات إصدار المنار، ومفهومها للإصلاح الإسلامي وعلاقة هذا الإصلاح لديها بالإصلاح السابق عليه. وفي الفصل الأول، يناقش رؤية المنار لأهم المفاهيم السياسية النظرية التي أثارت جدلًا فكريًا في هذه المرحلة. وفي الفصل الثاني، يتتبع علاقة المنار بالدولة العثمانية، ثم في عهد مصطفى كمال. وفي الفصل الثالث، يقوم الملا بتوضيح مواقف المنار من القضايا السياسية العملية في العالم العربي. وفي الفصل الرابع، يتتبع رؤية المنار لقضايا المرأة. وفي الفصل الخامس، يناقش الملا رؤى المنار لقضايا التربية والتعليم وموقفها إزاء المؤسسات التعليمية القائمة في زمنها. أما في الفصل السادس، يناقش رؤى المنار لبعض تجليات الحداثة التي ظهرت في العالم الإسلامي بفعل احتكاكه بالغرب، منذ بداية القرن التاسع عشر، وأبرزها العلم الحديث والاقتصاد الحديث والفنون الحديثة، والمنتجات التقنية الغربية التي اقتحمت الحياة اليومية للمسلمين وصارت جزءًا لا يتجزأ منها، منذ بداية القرن العشرين. وفي النهاية، يقدم خاتمة استخلاصية للدراسة، تحمل أهم نتائجها العامة وتؤكد على بعض قضاياها المنهجية الرئيسية.
وما نركز عليها هنا علاقة رشيد رضا بالوهابية وكيف كان البوق الإعلامي لها في مصر ومن ثم تم التأسيس للوهابية السعودية في مصر، فمع وفاة محمد عبده وتحرر رشيد رضا من تأثيره، بدأ رضا يستعيد العناصر التقليدية المحافظة من تكوينه الديني، وهو ما انعكس سريعًا على صفحات المنارـ التي ما لبثت أن ظهرت فيها- بقلم رضا وبأقلام أخرى- كتابات منازئة للعقل تميل إلى الحد من دوره في فهم الدين وتضعه في مرتبة أدنى في إطار العلاقة مع النصوص، مؤكدة عدم اختصاصه بمناقشة أصول الدين وأحكامه، وعجزه عن ذلك أيضًا، ورغم ان المنار حاولت في بعض الأحيان الإيحاء بوجود علاقة متساوية وتكاملية بين العقل والشرع، فإن الأفضلية لديها كانت للشرع بشكل قاطع على حساب العقل الذي بدا دومًا عاجزًا وقليل القيمة.
لم يكن هذا التحول العميق في رؤية المنار وصاحبها للعقل، نتاج وفاة محمد عبده وانحسار تأثيره فقط، بل كان أيضا نتاجًا لتحولات المجتمع المصري- والإسلامي عامة- في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، والتي اتسمت بدرجة عالية من التحرر الفكري والسلوكي وقبول المؤثرات الغربية والطابع العلماني، فهذه التحولات جعلت المنار تبدو وكأنها صوت وحيد يدافع عن قيم إسلامية تقليدية في مواجهة مجتمع يتجه- خاصة في مصر- نحو علمنة ولبرلة واضحة، ويشكل ما كان هذا المعنى الدفاعي لوجود المنار في هذه الفترة سببها في تخليها رويدً رويدًا عن طابعها التوفيقي واتجاهها. خاصة بعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924. وتأسيس مصطفى كمال جمهوريته العلمانية في تركيا. نحو سلفية صارمة ومتشددة، وجدت في منتصف العشرينيات دعمًا قويًّا لها بانتصار الوهابيين الذين دعمهم رشيد رضا طويلًا كما سنرى فيما بعد في الحجاز.
في إطار هذا التصور العريض، يمكننا أن نؤكد أن رشيد رضا قد فقد- خاصة في سنواته الأخيرة- كل مظهر توفيقي في تفكيره الديني، وفقد بالتالي. وفقدت مع المنار بالطبع المغزى التوفيقي لدوره التاريخي، كاستمرار الظاهرة الإصلاح الإسلامي الحديث، وفي هذا السياق يمكن أن نلاحظ مثلا أن مفهوم "السلف الصالح" الذي حاول عبده خاصة، استخدامه لإنجاز مواءمة ما بين الإسلام وبين العالم الحديث، قد اكتسب لدى رضا معنى تكفيريًّا جذريًّا يرتبط مباشرة بابن تيمية، يكرس فيه الرجل المختلفين مع توجهاته السلفية باعتبارهم عصاه ومبتدعة وضالين، كما يمكن أيضًا ملاحظة أنه في هذه الفترة، خفتت عند رشيد رضا كثيرًا الجوانب العقلانية الاستنباطية. وقد كانت خافتة من الأساس. مفسحة المجال للاتجاهات النقلية الاتباعية، بحيث أصبحت أهم ميزة لديه للوهابيين مثلا، هي أنهم "أشد شعوب المسلمين في هذا العصر اتباعًا".
وقد شهد موقف المنار منذ صدورها كمنبر للإصلاح الإسلامي السلفي، اختلافا واضحا في تقييم الصعود الوهابي في نجد، بين صاحبها رشيد رضا وبين استاذه محمد عبدة، فبينما اتخذ عبده من الوهابيين موقف التحفظ والحذر لتمسكهم بظواهر النصوص ورفضهم مبدأ التأويل لها، ولعدائهم للعلم والمدنية الحديثة، كان رضا منذ البداية مؤيدا قويا لهم بتأثير تكوينه المحافظ، ومن هنا وجدناه – في مواجهة حملات العثمانيين لتشويه فكر الوهابية الديني – يدافع بقوة عن معتقدات الوهابية ويؤكد انتسابها لصحيح القرآن والسنة.
كما تابع رشيد رضا بتعاطف بالغ انتصارات عبد العزيز سعود الأولى على خصمه ابن الرشيد في نجد، وطالب الدولة العثمانية مرارا بالكف عن دعمها لابن الرشيد ضده، محاولا تأكيد ولاء عبد العزيز للدولة العثمانية ونفى تهمة التعامل مع بريطانيا عنه.
ومع بداية القرن العشرين، تواصل دعم المنار لعبد العزيز بن سعود، حيث استمر رشيد رضا يقوم على صفحاتها بالدعاية له ضد خصومه من آل الرشيد، كما أيد رضا في هذه الفترة جهود عبد العزيز لتوسيع ملكه في نجد، التي توجت باستيلائه على منطقة الاحساء عام 1913 وطرده الحامية العثمانية منها، ورغم أن ما دفع عبد العزيز لهذا التصرف كان بالأساس رغبته في الحصول على منفذ يصل نجد بالبحر ويربطها بالعالم الخارجي وينهي عزلتها داخل الجزيرة العربية، الا ان رضا اضفى على عبد العزيز صورة جهادية بطولية، حين اعتبر استيلائه على الاحساء معاقبة منه للدولة العثمانية لمنحها امتيازات بحرية للإنجليز في هذه الفترة، في السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية، وفي واقع الأمر، كانت هذه الصورة البطولية غير ذات موضوع، لأن العلاقة بين عبد العزيز بن سعود وبين الإنجليز كانت في أوجها في هذه الفترة، كما أن الاستيلاء على الاحساء قد تم بالتنسيق الكامل مع الإنجليز.
فهكذا كان رشيد رضا من أهم الداعمين للوهابية ودولتها السعودية في بدايات القرن، ليس هذا فقط بل كانت المنار تقوم بدور اعلامي مهم جدا في التصدي لأعداء الوهابية في العالم العربي فقد فتحت صفحاتها على مدار فترة زمنية كبيرة للدعاية لهذه الدولة وقائدها.