مؤتمر "التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة"
الثلاثاء 18/أكتوبر/2016 - 02:50 م
طباعة

انطلقت صباح أمس الاثنين فعاليات مؤتمر "التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة"، الذي تنظمه دار الإفتاء المصرية في الفترة من 17إلي 18 أكتوبر الجاري، تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، بهدف مواجهة التطرف والإرهاب الفكري والتصدي لفوضى الفتاوى وتصدر غير المتخصصين للفتوى.

يشارك في المؤتمر قيادات دينية ومفتون وممثلو 80 دولة على مستوى العالم، ويناقش المؤتمر عددا من القضايا المهمة التي تتعلق بالجاليات المسلمة في الدول الغربية وكيفية تأهيل أئمة المساجد هناك لمعالجة قضايا التشدد في الجالية المسلمة والتحديات التي تواجهها.
بدأ الجلسة الرئيسية للمؤتمر بتلاوة الشيخ ياسر الشرقاوي، أعقبها فيلم قصير عن الأمانة العامة دور الإفتاء، ثم كلمة الدكتور شوقي علام، اعقبها كلمة المستشار محمد حسام عبد الرحيم وزير العدل، وكلمة الجاليات المسلمة للدكتور مصطفى سيرتش رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة والهرسك السابق، ثم كلمة الوفود للشيخ محمد حسين مفتى القدس ، واختتمت الجلسة بكلمة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر .
ويصدر المؤتمر وثيقة القاهرة للجاليات المسلمة، حيث تقترح حلولاً عملية وعلمية لكل المشكلات التي تواجهها تلك الجاليات في الخارج، وسيعلن أيضًا عن إنشاء مرصد عالمي يرصد أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في الخارج على مدار 24 ساعة، لمساعدة المفتين وعلماء الدين والخبراء في التعامل مع القضايا التي تخص الجاليات الإسلامية.

وتنحصر المحاور العلمية للمؤتمر المتمثلة في عدد من العناصر والمرتكزات وهي؛ دورُ المؤسسات الإفتائيِة في العالم تُجاهَ الأقلياتِ المسلمة، والأصولُ المنهجيةُ للتأهيلِ الإفتائيِ للأقلياتِ المسلمة، والتحدياتُ التي تُواجهُ الأقلياتِ المسلمةَ، والتهديدات الاجتماعيةَ والسياسيةَ والقانونية للأقلياتِ المسلمة، وكيفيةَ التعاملِ معها، كما سيعقد خلال المؤتمر ثلاث ورش عمل يجتمع فيها نخبة من السادة العلماء ضيوف المؤتمر للعمل على وضع معالجة دقيقة لموضوعات ورش العمل، وهي كالتالي: الاحتياجات التأهيلية لدعاة التجمعات المسلمة ومكونات البرامج التدريبية، ومكونات المساق المعرفي المساعد في تأهيل المفتين، وأهم القضايا التي يجب تناولها عند تأهيل المفتين.
ودشنت دار الإفتاء المصرية "هاشتاج" على موقع التدوينات القصيرة "تويتر" وموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" باسم ( #مؤتمر_الإفتاء_العالمي ) ، للتيسير على جميع رواد شبكات التواصل الاجتماعي متابعة أخبار وفعاليات المؤتمر العالمي الذي تقيمه دار الإفتاء المصرية تحت مظلة "الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم" ...

وقد أشاد فضيلة أ.د عباس شومان وكيل الأزهر، بالجهود التي تبذلها دار الإفتاء المصرية، واختيارها لموضوع مؤتمر التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات الإسلامية، والذي جاء في وقته لمواجهة أصحاب الفتاوى المتشددة التي ساهمت في تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وأكد خلال مشاركته في الجلسة الثانية لمؤتمر دار الإفتاء المصرية أن الأمة الإسلامية تعاني من جراح مؤلمة نتيجة انتشار الفتاوى المتشددة من غير المؤهلين والمتخصصين، واصفا ذلك بالطامة الكبرى التي يجب أن يتم مواجهتها سواء بالتشريعات أو من خلال العلماء المتخصصين، مطالبا من يتصدى للإفتاء بغير علم أن يبتعد عن هذا الطريق رحمة بنفسه من عقاب الله تعالى.
كما أكد وكيل الأزهر على ضرورة الاستفادة من النماذج المشرفة في التاريخ الإسلامي من عهد الرسول والصحابة والتابعين والفقهاء، لتوضيح الأحكام التي تساعد على مواجهة التشدد في الفتوى وتؤكد على التيسير، داعيا إلى ضرورة الاستفادة من النصوص الشرعية وعدم إعمال العقل في المسائل المحسومة بالنصوص الشرعية .
فيما أثارت كلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، في مؤتمر دار الإفتاء غضب بعض الوفود المشاركة، والتي تُقدر بأكثر من 80 دولة.
وانتقد شيخ الأزهر في كلمته، عنوان المؤتمر، قائلًا إن مصطلح الأقليات المسلمة وافدًا جديدًا على ثقافتنا الإسلامية، يتجنبه الأزهر في كل بياناتها ووثائقها، مشددا على أنه يحمل في طياته بذور الإحساس بالعزلة والدونية.
وأضاف الطيب، أن ثقافتنا الإسلامية ترفض مصطلح الأقلية وتنكره وتعرف بدلًا منه معنى المواطنةِ الكاملةِ"، مشيرا إلى أن المشيخة لم تذكر هذا المصطلح في أي بيان أًصدرته قبل ذلك.
وأكد شيخ الأزهر، أن مصطلح الأقلياتِ المسلمة، يُمهد الأرض لبذور الفتن والانشقاق، بل يصادر هذا المصطلح ابتداء على أية أقلية كثيرًا من استحقاقاتها الدينية والمدنية، مشيرًا إلى أن "ثقافتنا الإسلامية تنكر هذا المصطلح وترفضه، وتعرف بدلًا منه معنى المواطنةِ الكاملةِ كما هو مقرَّر في وثيقة المدينة المنورة، لأنَّ المواطنةَ –في الإسلام- حقوق وواجبات ينعم في ظلالها الجميع، وفق أُسس ومعاييرَ تحقِّق العدل والمساواة".

ومن بين أوراق المؤتمر بحث بعنوان "كيفية مواجهة الإفتاء ظاهرة الخوف من الإسلام هو الإسلاموفوبيا"، للشيخ محمد حسين مفتي القدس والديار الفلسيطنية، والثاني حمل العنوان نفسه للشيخ عبد اللطيف دريان مفتي لبنان.
وجاء عنوان البحث الثالث "التهديدات الاجتماعية والسياسية والقانونية للأقليات المسلمة وكيفية التعامل معها" للدكتور جعفر عبد السلام، الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية، أما "التعايش في الإسلام" فعنوان البحث الرابع للشيخ عبد الكريم الخصاونة، مفتي عام اللملكة الأردنية الهاشمية.
ويلقي الدكتور وليد الأنصاري، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة زيفير بأمريكا، البحث الخامس بعنوان "وسائل مواجهة التحديات الاقتصادية للأقليات الإسلامية عبر الإفتاء.
ويستعرض الدكتور محيي الدين عفيفي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، البحث السادس بعنوان " ظاهرة الإسلاموفوبيا وعلاقتها بالفتوى".
فيما أكد مرصد الإسلاموفوبيا التابع لدار الإفتاء المصرية، أن مؤتمر "التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي للأئمة المساجد للأقليات المسلمة" يتصدى لتزايد التهديدات الاجتماعية والسياسية والقانونية للأقلياتِ المسلمة.
وأشار المرصد إلى أن من أحدث الوقائع الدالة على تلك التهديدات الخطيرة ما قام به رئيس بلدية مدينة "بيزييه"، جنوبي فرنسا من تعليق لافتات "عنصرية" ضد المهاجرين في شوارع مدينته، وقد أطلقت بلدية "بيزييه" حملة معادية للمهاجرين وُصفت بأنها "غير مسبوقة" في البلاد، وفي إطار هذه الحملة، تم تعليق لافتات في الشوارع تحمل عبارات رافضة للمهاجرين، ومن بين هذه اللافتات واحدة تقول: "لقد وصلوا- أي: المهاجرين- إلى قلب مدينتنا.. الدولة تفرضهم علينا". ويظهر في خلفية اللافتة ذاتها صورة لعدد من الشباب الملتحين، وكنيسة تبدو وكأنها محاصرة بالمهاجرين، ووضعت تلك اللافتات في أماكن دعاية قانونية تابعة لبلدية المدينة.

وأضاف المرصد أن اللافتات- التي علقها رئيس بلدية بيزييه- تحمل رسائل كراهية صارخة وتندرج في إطار استهداف ممنهج لفئة معينة بسبب أصولها أو معتقداتها، وهو أمر غير مقبول كما أوضحت "اللجنة الحكومية لمقاومة العنصرية" والتي ذكرت أن الحكومة دعت النيابة العامة إلى التحرك ضد "روبير مينار"، رئيس بلدية مدينة "بيزييه".
وأوضح المرصد أن "روبير مينار" معروف بمواقفه "العنصرية" ضد الأجانب والمسلمين بشكل خاص، وكان قد انتخب رئيسًا لبلدية "بيزييه" في 2014، بدعم من حزب "الجبهة الوطنية" المتطرف المعادي للمهاجرين والمسلمين.
ولفت المرصد أن مثل هذه الأحداث والوقائع الخطيرة تؤكد أهمية ما يطرحه مؤتمر "التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة" من محاور وورش عمل ومبادرات تسهم في مواجهة التهديدات الاجتماعية والسياسية والقانونية للأقلياتِ المسلمة.

وقد أكد الدكتور إبراهيم نجم - مستشار مفتي الجمهورية - أنه تم اعتماد كلمة فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب - شيخ الأزهر الشريف - التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية بالمؤتمر العالمي الأمانة العامة لدور وهيئات الافتاء في العالم الذي بدأت فعالياته بالأمس في خارطة الطريق الكلية للاسترشاد بها في جميع أعمال الأمانة العامة لدور وهيئات الافتاء في العالم.

واليكم نص كلمة فضيلة الإمام الأكبر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، والصَّـلاةُ والسَّلامُ على سيدِنا رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه.
السادةُ العلماءُ الأجلَّاءُ من أهلِ الفَتوى والعِلمِ والفِكْرِ:
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه؛
أهلًا ومرحبًا بحَضَراتِكم، في بلدِكم مصرَ، وفي الأزهرِ الشريفِ بكلِّ مُؤسَّساتِه العِلميَّةِ والدَّعْويَّةِ، وأتمنَّى لمؤتمرِكم هذا أن يُكلَّلَ بالنجاحِ في تحقيقِ شيءٍ ممَّا يَنتظرُه المسلمون، الذين يُعلِّقون آمالًا كبرى على أهلِ الفتوى ودُورِ الإفتاءِ؛ في التخفيفِ من هذا الانفصامِ الذي بدأ يتَّسعُ ويزداد اتِّساعًا يومًا بعد يومٍ، بين حياتهم المُعاصِرةِ وحاجاتها وضروراتها من جهةٍ، وبين هذا التِّيهِ من الفقهِ العَبَثيِّ –إن صحَّت هذه التسميةُ- ذلكم الفِقْه الذي يطرُقُ أسماعَ الناس ليلًا ونهارًا، ويُطاردُهم حيثما كانوا، ليردَّهم لا إلى يُسرٍ في الشريعةِ ورحمة في القرآنِ والسُّنَّةِ؛ وإنَّما إلى أخلاطٍ من الآراءِ المُتشدِّدةِ التي قيلت في مناسباتٍ خاصَّةٍ، وتحت ضغط ظروفٍ طارئةٍ، ليس بينها وبين واقعِ الناسِ الآنَ صِلةٌ ولا نَسَبٌ.
وقد وَجَدَ هذا الفقهُ العبثيُّ كتائبَ موازيةً من المُفتينَ؛ نَجَحوا –للأسفِ الشديدِ!-في أن يتغلَّبوا على كثيرٍ من دُورِ الإفتاءِ في عالَمِنا العربيِّ، وأكادُ أقولُ: على كلِّ مَجامِعِ الفقهِ والتشريعِ، وأوَّلُها مَجمَعُ البحوثِ الإسلاميةِ هنا في الأزهرِ.
ولم يكن هذا النجاحُ أو هذه الغَلبةُ بسببٍ من عقلانيَّةِ هذا الفقهِ أو يُسرِه، أو قُدرتِه على جعلِ الحياةِ أيسرَ ممَّا هي عليه، وإنَّما بلغَ هذا النجاحُ ما بلغَ بالقدرةِ على التحرك والنزولِ إلى الناسِ بدُعاةٍ وداعياتٍ، ودُخولِ البيوتِ في القُرى والكُفُورِ، عِلاوةً على اعتلاءِ بعض المنابرِ، والتحدُّثِ إلى الناسِ بما يُريدون، في الوقتِ الذي ظلَّت فيه فتاوى دُورِ الإفتاءِ، وفتاوى المَجامِعِ ولجانِ البحوثِ الفقهيةِ، فتاوى فرديَّةً راكدة، قاصرةً على المُستفتي، أو حبيسةَ مُجلَّداتٍ عِلميَّةٍ لا يفيد منها ملايين الجماهير مِن المسلمين، أو رَهْنَ مؤتمراتٍ يُحدِّثُ فيها بعضُنا بعضًا، ونتواصَى في نهاياتِها بما شاءت لنا أحلامُنا من آمالٍ وأمانٍ لا تَجِدُ من المُختصِّين مَن يرعاها أو يتابعُها أو يسعى إلى تنزيلِها على واقعِ الناسِ.

واسمحوا لي -شُيوخَنا الأجِلَّاءَ- في مكاشفاتي الصريحة هذه، وأرجو؛ بل أُلِحُّ في رجائي ألَّا يَسبِقَ إلى أذهانِكم أنني أقِفُ منكم موقفَ المعترض أو المنتقد، فمَعاذَ اللهِ أن أكونَ كذلك! ومَعاذَ اللهِ أن يسبق إلى نفسي شيء من ذلك؛ فأنا أعي جيدًا أنني أتحدَّثَ إلى النُّخْبةِ والذؤابةِ من أهلِ العِلمِ والحِجَا في عالَمِنا العربيِّ والإسلاميِّ، وأنا قبلَكم أوَّلُ مَن يتحمَّلُ نصيبَه من المسئوليَّةِ أمامَ الله وأمامَ المسلمين، ولكني ربَّما كنتُ أكثرَكم التصاقًا بالجماهيرِ والبؤساءِ والبائساتِ، ومعرِفةً بما يَلحَقُهم من مُشكلاتٍ أُسَريَّةٍ تبلُغُ حدَّ الدَّمارِ والتشريدِ؛ بسببٍ من جُمودِ الفتوى، وتهيُّبِ الاجتهادِ، والعجزِ عن كسرِ حاجزِ الخوفِ من التجديدِ، حتى ظننتُ أنَّنا -كأهلِ علمٍ وإفتاءٍ- إن كنَّا على علمٍ دقيقٍ بما نُفتي به نصًّا؛ فإننا مُغيَّبون قليلًا أو كثيرًا عن محلِّ النصِّ، وإدراكِ الواقعِ الذي يُفتيَ بتنزيلِ النصِّ عليه. لا نتوقَّفُ عنده، ولا نتأمَّلُ مُلابساتِه ولا وزنَ الضررِ الذي يترتَّبُ عليه، ولا حجمَ المُعاناةِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ التي تأخُذُ بتلابيبِ الناسِ من جرائه.
وأَضرِبُ لحضراتكم مثلًا مُشكِلةً حيَّةً تتعلَّقُ بظاهرةِ فوضى تعدُّدِ الزواجِ، وفوضى الطلاقِ أيضًا، وما يَنشأُ عن هذه الظاهرةِ من عَنَتٍ يَلحَقُ بزوجةٍ أو أكثرَ، وتشريدٍ يُدمِّرُ حياةَ الأطفالِ، وضياعٍ يُسْلمهم إلى التمرُّدِ والإجرامِ.
وأبادِرُ بالقولِ بأنَّني لا أدعو إلى تشريعاتٍ تُلغي حقَّ التعدُّدِ، بل أرفُضُ أيَّ تشريعٍ يَصدِمُ أو يَهدِمُ تشريعاتِ القرآنِ الكريمِ أو السُّنَّةِ المُطهَّرةِ، أو يَمسُّهمَا من قريبٍ أو بعيدٍ؛ وذلك كي أقطعَ الطريقَ على المُزايِدِينَ والمُتصيِّدين كلمةً هنا أو هناك، يَقطَعونها عن سِياقِها؛ ليتربَّحوا بها ويتكسَّبوا من ورائها. ولكنِّي أتساءلُ: ما الذي يَحمِلُ المُسلمَ الفقيرَ المُعوِزَ على أن يتزوَّجَ بثانيةٍ -مثلًا- ويتركَ الأولى بأولادِها وبناتِها تُعاني الفقرَ والضَّياعَ، ولا يجدُ في صَدْرِه حَرَجًا يردُّه عن التعسُّفِ في استعمالِ هذا الحقِّ الشرعيِّ، والخروجِ به عن مقاصدِه ومآلاتِه؟!
والإجابةُ في نظري: أن الدعوةَ إلى شريعةِ الإسلامِ في هذه القضيةِ لم تَصِلْ لهؤلاء على وجهِها الصحيحِ، وأنَّ الفتاوى –في هذه القضية- تراكَمَتْ على المشروطِ الذي هو إباحةُ التعدُّدِ، وسكتت عن شرطَ التعدُّد، وهو: العدلُ وعدم لُحوقِ الضررِ بالزوجةِ. ومعلوم أن عدم الشرط يستلزم عدد المشروط لأن الشرطَ هو الذي يَلزَمُ مِن عَدَمِه العدمُ، ولا يَلزمُ مِن وُجودِه وُجودٌ ولا عَدَمٌ، نعم لقد ترسَّخ هذا الفهم حتى باتت العامة تتصوَّرَ أنَّ التعدُّدَ حقٌّ مُباحٌ بدونِ قيدٍ ولا شرطٍ، وترسَّخَ في وِجدانها أنه لا مسؤوليةَ شرعيةً تقف في طريقِ رَغَباتِها ونَزَواتِها، ما دامت في الحلالِ كما يقولون!
وأحكامُ الشريعةِ التي تعلَّمْناها، ولا نزالُ نتعلَّمُها، مِن كتبِ الفقهِ في أوَّلِ بابِ النكاحِ، تُقرِّرُ أنَّ الزواجَ تعتريهِ الأحكامُ الخمسةُ، ومنها الكراهةُ والحُرمةُ، وأن الأحنافَ يُحرِّمون الزواجَ إن تيقَّنَ الزوجُ أنه سيَجُورُ على زوجتِه؛ لأنَّ حِكمةَ الزواجِ في الإسلامِ أنه إنَّما شُرِع لتحقيقِ مَصلَحةٍ؛ هي تحصينُ النفْسِ، وتحصيلُ الثوابِ بجَلْبِ الولدِ الذي يعبُدُ اللهَ، فإذا خالَطَ ذلك ظُلمٌ أو جَورٌ أو ضَرَرٌ؛ أَثِمَ الزوجُ وارتكبَ محرَّمًا، ويخضَعُ ثَمَّتَئِذٍ لقاعدةِ: دفعُ المَفسدةِ مُقدَّمُ على جلبِ المصلحةِ.

أنهم يَشترطون معه عدمَ الخوفِ من الضررِ، حتى قال الحنفيَّةُ: إنْ تعارَضَ خوفُ الوقوعِ في الزنى لو لم يتزوَّجْ، وخوفُ الجَورِ وإلحاقِ الضررِ بالزوجةِ؛ قُدِّمَ خوفُ الضررِ، وحَرُمَ الزواجُ، قالوا: «لأنَّ الجورَ معصيةٌ متعلِّقةٌ بالعبادِ، والمنعَ من الزنى حقٌّ مِن حقوقِ الله تعالى، وحقُّ العبدِ مُقدَّمٌ عند التعارُضِ؛ لاحتياجِ العبدِ، وغِنى المولَى سبحانه وتعالى»، والشيءُ نفْسُه نجدُه في فقهِ المالكيةِ والشافعيةِ.
والدرْسُ المُستفادُ هنا -فيما أَفهَمُ – أنَّ الجورَ على الزوجةِ جريمةٌ تَفوقُ جريمةَ الزنى، وأن الزنى ضررٌ أصغرُ بالقياسِ إلى ظلمِ الزوجةِ الذي هو ضررٌ أكبرُ. وهذا في الزواجِ لأولِ مرَّةٍ، ومع الزوجةِ الواحدةِ، فكيفَ بالزواجِ الثاني والثالثِ مع خوفِ الجورِ، بل مع نيةِ الجورِ وتعمده وقصدِ الإضرار بالزوجةِ الأولى؟
ولعلَّ قائلًا يقولُ: إذا وقع الضررُ على الزوجةِ فمِن حقِّها طلبُ الطلاقِ، فإن تعسَّفَ الزوجُ خالعَتْه؛ فاترُكِ الزوجَ ينتقلُ بينَ مَن يَهوَى ويريدُ، واترُكِ الزوجةَ: إمَّا أن ترضى، وإمَّا أن تُخالِعُ.
وإجابتي: أنَّ هذا القولَ يَجمَعُ على الزوجةِ ضررَيْن: ضررَ الهَجْرِ، وضررَ الاضطرارِ بالتضحيةِ بكلِّ حقوقِها كما هو حُكمُ الخُلعِ، وفي الوقتِ نفسِه يجمع للزوجِ منفعتين: تمكينُه مِن تحصيلِ رغبتِه التي أمَرَه الشرعُ بتهذيبِها، وأخذ حقوقِ الزوجةِ التي اضطرَّها الجورُ إلى التنازُلِ عنها.
ولعلَّ هذا هو السببُ في أنك لا تجدُ في كلامِ الفقهاءِ في هذه المسألةِ إشارةً من قريبٍ أو بعيدٍ إلى إباحةِ الزواجِ مع خوفِ الجورِ، ومع تخييرِ الزوجةِ بعدَ ذلك بينَ الرِّضا أو الانخلاعِ، وإنما تَرِدُ عباراتُهم على مَورِدٍ واحدٍ هو: تحمُّلُ المسئوليةِ الأخلاقيةِ تِجاهَ الشريكِ قبل البَدءِ في مشوارِ هذه الشَّراكةِ، انطلاقًا من أنَّ الزواجَ حقوقٌ قبلَ أنْ يكونَ نَزْوةً أو رغبةً عارِضةً، وأنَّهُ مسئوليةٌ كُبرى عبَّر عنها القُرآنُ الكريمُ بالميثاقِ الغليظِ في قولهِ تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21] ، وأنه لم يُشرَعْ أبدًا لمُكايَدةِ العَشيرِ، وأن تشريعاتِ الزواجِ إنما فُرِضَتْ لمصلحةِ الأسرةِ والمجتمعِ معًا.

هذا وأثبتت الإحصائياتِ التي أُجرِيَتْ على أطفالِ الشوارعِ أنَّ ما لا يقلُّ عن 90% منهم إنما كانوا ضحايا أُسَرٍ عبثَتْ بها فوضى الزواجِ وفوضى الطلاقِ، وأنَّ كلَّ أنواعِ الجرائمِ الخُلُقيَّةِ والاجتماعيَّةِ التي يُفرِزُها مجتمعُ أطفالِ الشوارعِ، إنما مردُّه إلى تعسُّفٍ في استعمالِ حقٍّ شرعيٍّ، أو فهمٍ لنِصفِ الحقيقةِ الشرعيَّةِ، مع سُوءِ فهمٍ رديءٍ لنِصفِها الآخَرِ، وهو ما أدَّى إلى ما يُشبِهُ حالةَ الانفصامِ بين فقهِ النصِّ وفقهِ الواقعِ.
وسببُ ذلك فيما أعتقدُ، ومِن خلالِ تجاربَ واقعيَّةٍ عديدةٍ هو: حاجزُ الخوفِ بين أهلِ الفتوى من الفقهاءِ والعلماءِ، وبين الاجتهادِ والنظرِ في الحكمِ والدليلِ، بعد النظرِ في محلِّ الحكمِ، وما يَعتَوِرُه من مصالحَ أو مفاسدَ.
ومِن المُؤلِمِ جِدًّا أَنْ أسجِّلَ هنا أنَّ علماءنا ومُفتِينا في القرنِ الماضي كانوا أكثرَ شجاعةً مِن علمائنا اليومَ على اقتحام قضايا وأحكامٍ مَسَّتْ حاجةُ الناسِ إلى تجديدِها والاجتهادِ فيها في ذلكم الوقت.
خُذْ مثلًا اجتهاد علمائنا في أنَّ الطلاقَ الثلاثَ بلفظٍ واحدٍ يقعُ طلقةً واحدةً، رغمَ أننا نجد شبهَ إجماعٍ من علماءِ الأمَّةِ على خلافِه، وأنَّ القاضيَ عبدَ الوهابِ المالكيَّ يراه قولًا من أقوالِ المُبتدعةِ، ويقـولُ عنـه ابنُ عبدِ البرِّ: «إنه ليس مِن أقوالِ أهلِ العلمِ» إلَّا أنَّ علماءَ الأزهرِ لم يتحرَّجوا في ذلكم الوقتِ من اقتحامِ هذه المُشكلةِ، ومن الخروجِ بفتوى رسميَّةٍ خالفوا فيها المذاهبَ السَّائِدةِ على الساحةِ، ولم يَعدِمْ العلماء أن يجدوا لفتواهم سَندًا من التراثِ الفقهيِّ، فأفتوا بأن هذه الصيغة تقع بها طلقةٌ واحدةٌ.
وقد حَدَثَ هذا الاجتهادُ عام 1929م، في القرنِ الماضي، ودخَلَ كنصِّ قانونٍ في قوانينِ الأحوالِ الشخصيَّةِ. ودارُ الإفتاءِ المصريَّةِ التي استقرَّتْ فتواها على هــذا الرأيِ منذُ تسـعينَ عامًا تقريبًا؛ تتردَّدُ اليومَ –هي ومجمعُ البحوثِ الإسلاميَّةِ-في اقتحامِ قضايا أكثرَ خطرًا في حياةِ الأسرةِ من قضيةِ الطلاقِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ، ويمنعُها ويمنعُ أغلب علماءِ الأُمَّةِ حاجزُ الخوفِ الذي تحدَّثْنا عنه، والإبقاءُ على بابِ الاجتهادِ مُوصَدًا أمامَ المهمومين بآلامِ هذه الأمَّةِ، مِمَّا يؤدِّي، أو كاد يؤدِّي إلى انسحابِ الشريعةِ من واقعِ الناسِ ومجتمعاتِهم، والانزواءِ بها في دوائرِ البحثِ والدَّرْسِ.
وقد تفطَّن بعضُ فُضَلاءِ المعاصرين إلى أنَّ إحجامَ الفقهاءِ عن الاجتهادِ سيترُكُ المجتمعاتِ الإسلاميةَ «للآخَرِ» يملؤها بما يشاءُ، وهو: «لونٌ مِن الوقوعِ في فصلِ الدِّينِ عن الحياةِ، أو فصلِ الحياةِ عن الدِّينِ، الذي نتنكَّرُ له كشِـــعارٍ، ثم نُمارسُه كواقعٍ» .
السادة العلماء الأجلاء!

لابُدَّ من الاعترافِ بأنَّنا نعيشُ أزمة حقيقية يدفع المسلمون ثمنها غاليًا حيثما كانوا وأينما وجدوا، نتيجة الخوف والاحجام من التعامل مع الشريعة التي نصفها بأنها صالحة لكل زمان ومكان، لتقديم إجابات مناسبة لنوازل وواقعات مستجدة، وأيضًا نتيجة غياب الرؤية المقاصدية التي تشوِّش حتمًا على النظرة الاجتهادية، وتأخذ الفقيه بعيدًا عن الحادثة التي يبحث في محلها عن الحكم الشرعي المناسب.. وأيضًا نتيجة الفتاوى المعلبةِ والمستوردةِ العابرةِ للدول والأقطار، ولا تراعي أحوال المجتمعات، ضاربة عرض الحائط باختلاف الأعراف والعادات والثقافات واللغات والأجناس، حتى صارت الفتوى الواحدة يُفتى بها للمسلم مهما اختلفت دياره وتنوَّعت أوطانه وتبدَّلت أحواله من حربٍ وسلامٍ وغنى وفقر وعلم وجهل، فهل يُعقَل أو يقبل أن يُفتَى للمسلم بفتوى واحدة في النوازل المتشابهة من حيث الشكل والمختلفة من حيث الواقعُ واحتمالاتُ الضرر والمصلحة في القاهرة ونيامي ومقديشو وجاكارتا ونيودلهي وموسكو وباريس وغيرها من الحواضر والبوادي في الشرق والغرب؟!
.. .. ..

أمَّا فيما يتعلَّق بموضوع المؤتمر فإنِّي استسمحُ أخي سماحة مفتي الديار المصرية في أن أسجل رأيي في أن مصطلح الأقلياتِ المسلمة، في عنوان المؤتمر، هو مصطلح وافد على ثقافتنا الإسلامية وقد تحاشاه الأزهر في خطاباته وفيما صدر عنه من وثائق وبيانات، لأنه مصطلح يحمل في طياته بذور الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد الأرض لبذور الفتن والانشقاق، بل يصادر هذا المصطلح ابتداء على أية أقلية كثيرًا من استحقاقاتها الدينية والمدنية، وفيما أعلم فإن ثقافتنا الإسلامية لا تعرف هذا المصطلح، بل تنكره وترفضه، وتعرف بدلًا منه معنى المواطنةِ الكاملةِ كما هو مقرَّر في وثيقة المدينة المنورة، لأنَّ المواطنةَ –في الإسلام- حقوق وواجبات ينعم في ظلالها الجميع، وفق أُسس ومعاييرَ تحقِّق العدل والمساواة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، فالمواطن المسلم في بريطانيا مثلًا هو مواطن بريطاني مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، وكذلك المسيحيُّ المصري هو مواطن مصري مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، ولا محل مع هذه المواطنة الكاملة لأن يوصف أي منهما بالأقلية الموحية بالتمييز والاختلاف في معنى المواطنة.. وفي اعتقادي أن ترسيخ فقه المواطنة بين المسلمين في أوروبا، وغيرها من المجتمعات المُتعَدِّدة الهويات والثقافات – خطوةٌ ضرورية على طريق «الاندماج الإيجابي» الذي دعونا إليه في أكثرَ من عاصمة غربية، فهو الذي يحفظ سلامة الوطن وتماسكه، ويرسِّخ تأصيل الانتماء الذي هو أساس الوحدة في المجتمع، كما يَدْعم قبول التنوع الثقافي والتعايشِ السِّلْمي ويقضي على مشاعر الاغتراب التي تؤدِّي إلى تشتُّت الولاء الوطني، وتذبذب المغترب بين وطن يعيش على أرضه ويقتات من خيراته، وولاء آخر غريب يتوهمه ويحتمي به فرارًا من شعوره بأنه فرد في أقلية مُهَدَّدة، وفقهُ المواطنة إذا نجحنا في ترسيخه في عقول المسلمين وثقافاتهم هو السد المنيع أمام الذرائع الاستعمارية التي دأبت على توظيف الأقليات في الصراعات السياسية وأطماع الهيمنة والتوسُّع، وجعلت من مسألة «الأقليَّات» رأس حربة في التجزئة والتفتيت اللتين يعتمد عليهما الاستعمار الجديد.
أما تأهيل الأئمة للإفتاء فهو أمر بالغ الأهمية، وحسنًا ما صنعت دار الإفتاء المصرية حين انتبهت إلى أهميته وخطره، والحديث يطول في هذا الواجب المتعين، وقد كان للأزهر إسهام في تكوين الأئمة في الخارج وتوعيتهم بالقضايا التي تمس حاجات المسلمين هناك في أكثر من مجال، وتدرب في الدورات التي عقدتها المنظمة العالمية لخريجي الأزهر بالقاهرة ثمانية وثلاثون وخمسمائة إمامًا من أفغانستان وباكستان وكردستان العراق والصين واندونيسيا وبريطانيا واليمن إضافة إلى دول أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
فحبَّذا لو حدثَ نوعٌ من التنسيقِ في هذا المجالِ مع المنظَّمةِ العالميَّةِ لخرِّيجي الأزهر حتى لا تبدؤوا من فراغٍ.
الإخــوة الأفاضــل!
لقد أطلت عليكم ووجب الاعتذار والعذرُ عند خيار الناس مقبول.
شكرًا لحسن استماعكم.
والسَّلامُ عليكُم ورَحمـــة الله وبركاته؛