تجديد الفكر الديني في مصر.. علي مبروك نموذجًا
الخميس 20/أكتوبر/2016 - 08:10 م
طباعة

استضافت اليوم الخميس 20 اكتوبر 2016،بمؤسسة "الأهرام"، ندوة "تجديد الفكر الديني في مصر.. علي مبروك نموذجًا"، احتفالا بمولد المفكر المصري الراحل د. علي مبروك والتي شارك فيها لفيف من المهتمين بتجديد الخطاب والفكر الديني وكان من بين المتحدثين الدكتورة هدى الخولي والتي تحدثت عن العقل العربي من الحداثة الى ما بعد الحداثة وجاءت ورقتها البحثية عبارة عن تساؤلات تطرحها الباحثة على العقل العربي ومن بين تلك الأسئلة العديدة التي طرحتها هل نقصد الحداثة أم نقصد اعادة الصياغة أم استبدال النسق القديم كله بنسق آخر واكدت انه حينما نفحص مفهوم الحداثة سنجد ان هناك ثنائيات تحدده بل وتتحكم فيه مثل العقل و اللا عقل، المفهوم والحدس، الحقيقة والخطأ، الصدق والكذب، الخير والشر، الوجود والظاهر، العمق والسطح... الخ هذه الثنائيات، وربما تكمن أزمة ثقافتنا في اننا عندما نقلنا رداء الحداثة "قد اكتفينا بثنائية الماضي والحاضر، وثنائية العقل واللا عقل وهو من المنظور الجينولوجي مثلا ليس ماضيا مضى، يضعنا في مازق واشكالية زائفة، لان الماضي او التراث ليس تجربة منتهية بل جزء من زمن العود الأبدي أو كما قال نيتشه: مستقبل يحضر وحاضر يمضي.
بمعنى انه جزء من بنية الحاضر، وهو يمارس حضوره وسطوته غير مختلف مظاهر الثقافة والحضارة، في العقل والخيال أو في التصرف والسلوك، عبر النصوص والخطابات أو عبر التقاليد والأعراف.

ثم طرحت الدكتورة هدى الخولي سؤال أخر وهو كيف نخرج اذا بمساعدة الفلسفة من مأزق الجمود ونخلع ثوب الزيف وندخل إلى حداثة حقيقية؟
وتحدثت الأستاذة عبير خطاب، قرينة علي مبروك عن مشروع جمع تراث علي مبروك وإعادة نشر كل ما كتبه من دراسات ومقالات وقصائد شعرية، وعن الجانب الانساني والروحي لمفكرنا الكبير.
كما تحدثت الدكتورة يمنى طريف الخولي، حول "رؤية نقدية لمشروع علي مبروك في قراءة التراث". وأكدت على ان ما ميز على مبروك في دراساته وأبحاثه تلك اللغة الجيدة والتي تتميز بالدقة وكيف كان ينحت جمله ومصطلحاته فيقدم لنا ابحاثه في ثوب لغوي دقيق وصحيح، وكذلك تميزه من حيث منظوره للتراث حيث قام بربط النص بالواقع مما يذكرنا بما قام بكتابته علي مبروك نفسه من مقالات في جريدة الاهرام وكان من بينها مقاله عن النخبة المصرية والذي جاء فيه: لا تزال النخبة المصرية، وخصوصاً الأجنحة الأكثر صخباً منها على ساحات الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي، تمارس «التفكير بالاختزال» على طريقة أسلافها؛ وبكيفية لا تعرف معها تفسير أي شيء إلا بالارتداد به إلى «سببٍ» واحد لا نظير له. وهكذا فإن أطيافاً واسعة من هذه النخبة تتسع لساسةٍ وفنانين ولاعبي كرة يتوافقون جميعاً على أن الحدث- أي حدث-
هو نتاج الفاعلية المطلقة لفاعلٍ أصلى واحد؛ وبحيث لا تحضر أى عناصر أخرى إلا باعتبارها محض وسائط وأدوات يشتغل من خلالها هذا الفاعل الأصلي الرئيس. وبحسب ذلك، فإن الحدث لا يكون نتاج سيرورة معقدة يتعدد فيها الفاعلون، بل يكون مجرد انعكاسٍ لإرادة فاعلٍ واحد هى ما يلزم التعويل عليه في تفسير الحدث وفهمه، أو حتى محاولة التأثير عليه وتغيير وجهته.

وغنيٌّ عن البيان أن هذا الضرب من التفكير الذى ينزع إلى تفسير الظواهر- طبيعية واجتماعية وسياسية- بردها إلى سببٍ واحد، هو نتاج العقل الميتافيزيقي اللاهوتي الذى لا يعرف تفسيراً لشيء إلا برده إلى الله. وإذ لا ينشغل هذا العقل اللاهوتي إلا بربط الظواهر بفاعلها الأول؛ وبالكيفية التى يكون معها قصد هذا العقل هو إدراك الوجه الذى تدل به هذه الظواهر على وجود فاعلها الأول، فإن ذلك يؤدى إلى نتيجة مباشرة تتمثل فى إغلاق الباب أمام أى إمكانية لإنتاج معرفة علمية بالظواهر جميعاً (طبيعية وسياسية وغيرهما). وينشأ ذلك عن حقيقة أن رد الظواهر جميعاً إلى سببٍ أول هو الفاعل حقاً، يؤدى إلى اعتبار كل الأسباب الثواني هي مجرد وسائط يمكن تعطيلها والقفز فوقها؛ وبما يتجلى في مبدأ إنكار السببية الأشعري. إن ذلك يعنى أن العقل اللاهوتي لا يتصور أن ثمة أسباباً أو قوانين موضوعية، مستقلة عن إرادة الفاعل الأول، تكون هي الحاكمة لحركة هذه الظواهر، بل تبقى جميعاً مشروطةً بإرادة فاعلها الأول (الذى هو «اللهب في العالم الطبيعي، وبالحاكم» في العالم السياسي). ومن دون شكٍ، فإنه يستحيل قيام معرفة علمية من دون وجود هذه الأسباب والقوانين الموضوعية.
وإذ يؤول ذلك إلى ربط الوضع الذى عليه الظواهر (سواء كانت طبيعية أو سياسية) بإرادة فاعلها الأوحد، وليس بشروطٍ موضوعية تتحكم فيها، فإنه لا معنى لذلك إلا أن العقل اللاهوتي لابد أن ينتهى إلى إحلال إرادة الفاعل محل القوانين الموضوعية باعتبار أن هذه الإرادة هي المحدِدة لحركة الظواهر. وبالطبع فإنه يترتب على ذلك أنه لا إمكان لإحداث أي تغييرٍ في هذه الظواهر إلا بالتأثير فى «إرادة الفاعل»، طالما أنه لا وجود لقوانين موضوعية يكون فهمها هو المقدمة اللازمة للتأثير في الظواهر المحكومة بها. ومن هنا فإن العقل اللاهوتي لا يعرف إلا محض «الدعاء والطلب» من الفاعل الأوحد، لعله ينجح بهذا الدعاء والاستجداء في التأثير في إرادته على نحوٍ يكفل تغيير الواقع نحو الأفضل. وعلى العكس، فإن العقل العلمي يعوِّل على الوعى بالقوانين الموضوعية الحاكمة لحركة الظواهر باعتبار أن ذلك وحده هو السبيل الممكن للتأثير فيها وتغييرها.
وللغرابة، فإن القناع الحديث الذى تزركش به النخبة المصرية تفكيرها لا يقدر على إخفاء الطابع الميتافيزيقي اللاهوتي لعقلها. ولعل ذلك يتجلى صريحاً فيما يقوم عليه خطابها السياسي بالذات من الارتداد بالحدث السياسي إلى إرادة فاعلٍ أوحد يتمثل في الحاكم القائم على رأس النظام. وبالطبع فإنه مادام كل ما يحصل في الواقع السياسي يرتد إلى إرادة الحاكم الذى هو وحده الفاعل حقاً، فإنه يجرى النظر إلى كل ما يمكن اعتباره من قبيل الشروط الموضوعية المحدِدة للحدث السياسي على أنها وسائط يمكن تعطيلها والقفز فوقها؛ فيما يبدو وكأنه التجلي الحديث لمبدأ إنكار السببية الأشعري.
ويترتب على ذلك أن كل ما يحصل في المجال السياسي مما لا تقبله هذه النخبة الصاخبة هو مما لابد من ربطه مباشرة بإرادة الفاعل الأوحد؛ الذى هو الحاكم.

فيما قام الدكتور أحمد سالم بتقديم ورقة عن الملامح الفلسفية والمنهجية في مشروع علي مبروك الفكري، والذي قدم قراءة متميزة لفكر علي مبروك الفلسفي ومنهجه البحثي وكيف كان يؤصل ويدقق لإنتاجه الفكري كما أكد على انه ليس ثمة خطاب ديني واحد ولكن هناك خطابات دينية ، قد تختلف هذه الخطابات وفقا لاختلاف المذهب العقائدي ، فيتنوع الخطاب من أهل السنة إلى الشيعة والخوارج. وقد تتنوع الخطابات على مستوى الخطاب الفقهي من شافعية أو حنفية أو مالكية، أو حنابلة، وقد تتنوع وفقا لطبيعة البناء المعرفي مثل الخطاب الفلسفي حول الدين، والخطاب الصوفي، أو الخطاب الكلامي، ولذلك لا يمكن أن نتحدث عن خطاب واحد، ولكن الحديث يكون عن خطابات دينية متعددة، والأمر يفسر أننا أمام نص ديني واحد يتحرك في التاريخ وفقا لتنوع خلاق في حركة المجتمع، وتغير زمنى وبيئي مستمر، مما يؤدى إلى ظهور تعدد في القراءات والتأويلات للنص القرآني، ولذلك كان الاجتهاد ضروريا حتى تكون هناك قراءات متعددة للنص تواكب حركة المجتمع والتاريخ، وهو ما جعل البعض يتساءل: هل الإسلام واحد أم متعدد؟ والواضح أن تجليات حضور الإسلام في حركة التاريخ كانت متعددة، فإذا كان الدين في نصه الرئيسي واحدا فإن التدين كانت له صوره المتعددة التي فرضتها حركة التاريخ والمتجمع المتغيرة عبر الزمن.

وجاءت ورقة الدكتور سامح إسماعيل عن معنى القرآن الحي في فكر علي مبروك في كتاباته الأخيرة، حيث كان يرى على مبروك اعمال منهج التاريخانية في قراءتنا للقرآن حيث تثور بين وقتٍ وآخر مسألة «القرآن والتاريخية» بين من يُقال إنهم يسعون إلى تبخيس القرآن باختزالهم له في كونه محض نص تاريخي، وبين من يتصورون - في المقابل - أن الموقف الواجب منه هو تقديسه عبر التعالي به فوق أي تاريخ. ولسوء الحظ، فإن هذا التباين إنما ينبني على نوعٍ من الفهم المشوَّش وغير المنضبط لمفهوم التاريخية؛
وعلى النحو الذى يجعل منه ساحةً للتناحر والتنابذ. وضمن هذا السياق، فإنه يبدو أن المفاهيم تتخلى عن دورها كفضاءات للتحاور والتواصل، وتتحول إلى ساحات تناحر وتقاتل، حين تصبح مجرد أدواتٍ تحسم بها الايديولوجيا معاركها القاتلة. ومن هنا وجوب أن يكون ضبط مفهوم «التاريخية» عبر تحريره من حمولته الايديولوجية الثقيلة وإعادته إلى مجاله المعرفي، هو نقطة البدء في أي سعيٍ يقصد إلى ترتيب العلاقة بينه وبين القرآن.
فقد اتسعت «التاريخية» على النحو الذى لم تعد معه مسكونةً بالدلالة الوضعية التي وصمها بها القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في النظرية التي تجعل من الأبنية الفكرية والمعنوية مجرد انعكاسات لحركة التاريخ المادي. وهكذا فإنها قد تحولت- وفى سياق التطورات المعرفية التي عرفها القرن الماضي - إلى الإطار الشفاف الذى تتخلَّق داخله القابلية للفهم وإنتاج المعني؛ وبما يعنيه ذلك من أنها قد تحولت إلى بحثٍ في «الفهم»، بعد أن كانت بحثاً في النشأة والأصل. وضمن هذا السياق، فإن القول عن تاريخية أي شيء لم تعد تتعلق بالسؤال عن «أصله» بقدر ما تتعلق بالسؤال عن إمكان «فهمه»؛ وعلى النحو الذى يئول إلى أن التاريخية لا تعنى ما هو أكثر من جملة الشروط التي تجعل الفهم حدثاً ممكناً.
وحين يدرك المرء، أن القرآن نفسه يشير، وعلى نحوٍ صريح، إلى وجوب توافر الشروط التي تجعل الفهم ممكناً لبعض ما ورد فيه، فإن ذلك يعنى إقراراً منه بجوهرية التاريخية له هو نفسه؛ وذلك بما هي جملة الشروط التي تجعل فهم ما ورد فيه ممكناً. ولعل ذلك ما تنطق به - بكل القطع واليقين - قصة موسى والعبد الصالح التي أوردها القرآن في سورة الكهف. فإذ يتابع موسى العبد الصالح- الذى تقول التفاسير القديمة أنه الخِضر- فإنه يشهد قيامه ببعض الأفعال التي لا تكون مفهومة له؛ من قبيل خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار، ولهذا فإنه ينكرها ويعاتب الخِضر على إتيانها. والملاحظ أنها لا تكون مفهومة له، لأنها تكون معزولةً عن الإطار الحاوي للشروط التي تجعلها قابلة للفهم، ولهذا فإنه ما إن يدرك هذه الشروط إلا ويتغير حكمه على هذه الأفعال؛ فيقبلها ويعتذر عن تسرُّعه فى الحكم عليها.
فيما قام الدكتور محمد أبو الحسن بعرض ورقته البحثية عن فكرة الثورة في مشروع علي مبروك، حيث يتطرق إلى الحديث عن الخطاب الحاضر في الثقافة المصرية فيستدعي علي مبروك بقوله “انه خطاب فرض اكراهي التراكيب وتواليف ايديولوجية جاهزة على واقع لا يراد منه الا ان ينصاع لها، باعتبار انها الحلول الوحيدة القادرة على اخراجه من ازمة جموده وتخلفه”. ويستطرد “ان ثمة خطابا واحدا ينتظم الممارسة الواقعية لكل شرائح النخبة المصرية، على الرغم مما يقوم بينها من اختلاف المنطلقات والتوجهات الايديولوجية، وهو خطاب ينبني على الاقصاء الكامل للناس الذين لا يسمح لهم بالحضور الا كمحض ادوات يفعل بها الواحد، وبالطبع فان شيئا لن يتغير في مصر حقا، من دون زحزحة هذا الخطاب، وبما تعنيه تلك الزحزحة من ادخال الناس الى الفضاء العام كفاعلين حقيقيين، وليسوا ادوات”.
وعن تعدد الخطابات المأزومة داخل الثقافة المصرية يقول علي مبروك “انه لا خلاف بين الليبرالي، الذي راح يستصرخ زمانه مع نهايات القرن الماضي (أحمد حسن الزيات)، أن ينجب مصلحا متسلطا يقدره بالسيف في يده على تحقيق ما عجزت الليبرالية الناعمة عن تحققه، وبين العلماني (سلامة موسى) الذي أعلن أنه “لا يتصور نهضة عصرية لأمة شرقية، مالم تقم على المبادئ الاوروبية للحرية والمساواة والدستور والنظرة العلمية للكون” وبين صاحبهما السلفي (الذي تعددت اصواته وتباينت وجوهه والداعي الى انه “لا يصلح أخر هذه الأمة الا بما صلح أولها”، وهكذا كان الكل حامل للحل الجاهز في يده، وليس على الواقع الا ان ينصاع ويزعن، والا فان السيف هو البديل. وليس من شك في ان خطابا لا يعرف محض هذا الفرض الاكراهي لحلوله الجاهزة على الواقع لا يمكن الا ان يكون الاصل فيما تكاد تغرق فيه المجتمعات العربية من عنف تتدرج اشكاله بين الناعم (الصامت) والخشن (الصارخ).
ومن ثم يتطرق علي مبروك لتحليل النخبة المصرية حيث يؤكد على أنه رغم ما يبدو للمراقب من الانقسام الراهن للنخبة المصرية بين شرائح تتبرقع بالقداسة، وأخرى تتلفح بالحداثة، فان نظرة أعمق على ما يرقد تحت السطح تكشف عن ان الكافة، من المتبرقعين والمتلحفين، يقفون معا تحت مظلة ذات الخطاب الذي يتنكر للجمهور ويريد اقصاءه، فان من راحوا يرفعون – ليلة تنحي مبارك – شعار (الله وحده هو الذي اسقط نظام مبارك) لا يختلفون عن اقرانهم الاسبق الذين جعلوا محمد علي (باشا) هو باني مصر الحديثة، وبما يفهم منه ان الجمهور لم يكن حاضرا كفاعل لا في الاسقاط ولا في البناء. ثم يتناول علي مبروك مستوى الجدال الدائر فيقول “يكشف مستوى الجدال والمناظرة المحتدمة في الفضاء المصري الراهن عن حقيقة ان مصر تعيش في اطار ما يمكن اعتباره مرحلة ما قبل المعرفي واعني بها تلك المرحلة التي ينحبس فيها الناس داخل صناديق انتماءاتهم وتحيزاتهم الايديولوجية والدينية والمذهبية، وضمن سياق هذا الانحباس، فان الناس لا يعجزون، فحسب، عن رؤية ما يقع خارج الصناديق الايديولوجية والمذهبية التي يحبسون رؤوسهم داخلها، بل – والاهم – انهم لا يقبلون التفكير في جملة المفاهيم والتصورات المضمرة التي يقوم عليها بناء ما يتحيزون له من ايديولوجيات ومذاهب، باعتبار انها من قبيل المطلقات التي تعلو على اي تفكير. والملاحظ ان العقل حين ينحبس وراء تلك الاسوار الحصينة، لا يكف عن السعي الى اكراه الواقع، بدوره، على الانحباس معه وراءها”.

مستخلصا نتيجة مفاداها “انه لا سبيل لتحرير كل من العقل والواقع الا عبر الاشتغال المعرفي على المفاهيم والتصورات التي يقوم عليها بناء الانظمة الايديولوجية والمذهبية التي تتقارع على سطح الواقع المصري الراهن”.
ثم يقوم علي مبروك بتحليل نظرة السلفين للقرآن وتأويله فيقول “ان التأويل ليس قولا بالظن، بحسب ما يروج دعاة السلفية، بقدر ما هو السعي الى انتاج معنى الآية القرآنية عبر ربطها بمحددات سياقية (منها سياق تنزيلها، والسياق النصي الذي يشملها، وسياق كل من الواقع والعقل معا) والقرآن نفسه يؤكد على ضرورة تلك المحددات السياقية لأي عملية فهم، ويأتي المثال الابرز على ذلك في قصة موسى والخضر.
فإذا كان أهم ما يميز القرآن كتنزيل أنه قد تنزل كآيات متفرقة على مدى أكثر من عشرين عاما، فإن الالحاح السلفي على التعامل مع القرآن بنص التنزيل لا يعني الا التعامل معه كآيات متفرقة ، تنتج فيه الواحدة منها دلالاتها في انفصال عن غيرها، وليس ضمن سياق أكبر ترتبط فيه مع غيرها من الآيات، وذلك على النحو الذي يتحدد فيه معناها بحسب نوع واتجاه الحركة الكلية لهذا السياق، حقا قد يستدعي داعية سلفي آيات أخرى لتأكيد ما يريد من الآية التي يشتغل عليها أن تنطق به، وهكذا فانه يستدعيها لتقف فقط الى جوار الآية التي يشتغل عليها، وليس لكي تتفاعل وتتحاور معها على النحو الذي قد يؤدي الى اعادة توجيه معناها في غير اتجاه ما تنطق به، وهي معزولة عن سياق تفاعلها مع غيرها.
واذن فإنه الاستدعاء ضمن منطق التجاور الذي هو منطق تثبيت الدلالة، وليس ضمن منطق التفاعل والتحاور الذي هو منطق تفجير الدلالات المكتنزة والكامنة.