معركة طرابلس .. هل ينجو لبنان من نار الطائفية أم يحترق بحرب مذهبية؟
الإثنين 27/أكتوبر/2014 - 03:52 م
طباعة

اشتعلت طرابلس، ووقعت معركة شرسة بين الجيش اللبناني، ومجموعة من المسلحين والتي شهدت استشهاد 11 في صفوف الجيش اللبناني، والأوضاع تهدد لبنان بحرب أهلية، رغم تماسك جميع القوى والأطياف السياسية خلف الجيش في حربه ضد الإرهاب وفي مقدمتهم أبناء الطائفة السنية.
فالمواجهات التي يشهدها الشمال اللبناني، عززت المخاوف من المخاطر المتعاظمة التي تواجهها البلاد في ظل الإشارات المتزايدة إلى عمليات يراد منها نقل المعارك من سوريا إلى لبنان، وسط سباق بين الاتصالات لحصْر المعارك، وبين محاولة «تفكيك هذا اللغم« بما يجنّب طرابلس تداعيات أمنية كبرى تنذر بالتمدُّد إلى مناطق شمالية أخرى، وربما أبعد.
معركة طويلة
لم تكد الاشتباكات، التي اندلعت الجمعة الماضية في أسواق مدينة طرابلس القديمة في شمال لبنان بين الجيش ومسلحين إسلاميين متشددين، تهدأ- حتى اشتعلت معارك ضارية في محلة باب التبانة (ذات الغالبية السنية) عند الطرف الشمالي للمدينة.
وقالت مصادر أمنية بأن قوات الأمن نفذت مداهمات في مدينة طرابلس، وأضافت أن 11 جنديا ومدنيين اثنين و9 من المقاتلين الإسلاميين على الأقل قتلوا منذ تفجر القتال يوم الجمعة.
ودارت طوال نهار الأحد، في منطقة باب التبانة- اشتباكات شرسة استخدمت فيها القذائف والرشاشات والمضادات المدفعية، بين الجيش اللبناني وما يقارب من 100 إلى 150 مسلحا من لبنانيين وسوريين، تابعين لمجاميع مسلحة، متحصنة في المنازل والمحال التجارية المكتظة بالمدنيين.
وقد أقفرت المدينة بالكامل، فالمعركة لا تشبه ما كان يدور في سنوات ماضية بين باب التبانة وجبل محسن (أغلبية علوية)، ووصفها البعض بالحاسمة لمستقبل المدينة، ودور الدولة اللبنانية ووجودها فيها.
ويصعب تحديد الانتماءات الدقيقة لجميع المقاتلين الذين شاركوا في الاشتباكات، لكن المصادر قالت: إن بينهم مقاتلين سوريين ولبنانيين على صلة أو متعاطفين مع تنظيم «داعش» أو جبهة النصرة ذراع تنظيم القاعدة في سوريا.
وانتقلت الاشتباكات في طرابلس، أمس، من المدينة القديمة حيث كان المتشددون يتمركزون من قبل إلى باب التبانة. وكان أبرم أول من أمس اتفاق أسهم في إنهاء المعارك في أسواق المدينة القديمة، وسمحت التسوية لمقاتلي المعتقل بتهم إرهابية أحمد سليم ميقاتي المتحصنين بالأسواق، بالخروج من أزقة المنطقة الأثرية القديمة، مقابل الإفراج عن رهائن من المدنيين.
وهذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها الجيش معركة بهذه الضراوة في طرابلس، بعد أن عمل طويلا على تأجيلها وحل قضية هذه المجموعات المسلحة سلميا دون جدوى. وبدأت المعارك بسبب الاعتداءات المتواصلة على الجيش في طرابلس، كان آخرها أثناء مداهمة، الجمعة، في خان العسكر، لمنزل ميقاتي.
غطاء سياسي
لأول مرة يتمتع الجيش اللبناني بغطاء سياسي قوي في مواجهة الجماعات المسلحة، وهو ما يعزز تماسك الجيش، وأبناء الطوائف اللبنانية في ظل الحرب الطائفية والمذهبية التي تحرق الدول المجاورة وخاصة سوريا والعراق.
واستطاعت المؤسسة العسكرية اللبنانية أن تطمئن إلى الغطاء السياسي الكامل الذي منحها إياه التفاف القوى السياسية السنية حولها، وفي مقدمها تيار «المستقبل» الذي يقوده الرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري؛ ما جعل مهمة الجيش أكثر سهولة، ما أسكت الأصوات التي كانت أكثر انتقادا للجيش، كالنائب خالد الضاهر.
اعتبر رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، نجيب ميقاتي في حديث لتلفزيون «الجديد» أن «دعوة البعض إلى الجهاد أمر مرفوض؛ لأن أهل السنة لا يمكن أن يقفوا في وجه الدولة، ولا خيار لهم إلا الدولة والجيش والمؤسسات الأمنية كلها، شرط أن تكون هذه المؤسسات عادلة في تعاطيها مع جميع اللبنانيين». وقال: «لسوء الحظ فقد استخدمت طرابلس في السنوات القليلة الماضية كساحة معارضة ضد أهداف معينة، مما خلق بيئة لهذا النوع من الرفض الدائم والتعبير عن هذا الرفض في الشارع، ولكن الأكثرية الطرابلسية هي حتماً ضد هذا التوجه ولا تقبل به». وشدد على «أن هناك حتماً من أجج، في السنوات الماضية، الرفض في الشارع، وثبت لدي أن هذا التأجيج لم يكن ضد الحكومة الماضية بل ضد الدولة بشكل عام، ومن حرك الناس للنزول إلى الشارع لن يتمكن من ضبط الوضع بسهولة».
بدوره، أسف شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، في تصريح أدلى به، «لاستمرار بعض القوى في التعامي عن مدى خطورة الوضع في البلاد على وقع الأزمات المتفجرة في دول الجوار»، مؤكدا «المسئولية التاريخية التي يحملها جميع الأطياف للقيام بكل ما يلزم لإنقاذ البلاد من التدهور نحو الفتنة التي يواجهها الجيش والقوى الأمنية على مساحة الوطن وعند حدوده»، مشددا على «ضرورة دعم الجيش الوطني في المواجهة التي يخوضها اليوم في طرابلس، حيث يأبى أهلها إلا أن يكونوا في مقدمة المحافظين على السلم الأهلي، وقد أنهكتهم معارك عبثية ما فتئت تتسلل إليهم بين الحين والآخر».
وأبدى رئيس «حزب الكتائب اللبنانية» الرئيس أمين الجميل «تضامنه مع أهالي مدينة طرابلس والمحيط ومع الجيش اللبناني»، مستنكرا «التعديات ضد أهالي المدينة والجيش». وأكد الجميل أن «جرح طرابلس يهم كل اللبنانيين وآن الأوان لوضع حد لانتهاك السيادة الوطنية والمدينة وأمنها والتعدي على الجيش»، داعيا إلى «مواقف حاسمة لإنهاء المأساة والعودة إلى الاستقرار في المدينة».
وقال النائب أيوب حميد، عضو كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري، رئيس حركة أمل الشيعية: إن «استهداف الجيش اليوم هو استهداف لهيبة الدولة وكرامتها وعزتها وإمكانية استمرارها واحدة موحدة، وهو استهداف لكل الوطن». واعتبر أن «شهداء الجيش اليوم إنما يجسدون حقيقة عمق الإيمان والانتماء للوطن من أجل العدالة ومواجهة الباطل». ودعا الجميع إلى «وحدة الصف، سياسيين وعاملين ومجاهدين، خلف جيشنا الوطني في هذه المعركة المصيرية التي يواجه فيها الإرهاب والإرهابيين الذين هم امتداد لما يجري في سوريا والعراق».
حرب ضد السنة
حاول العديد من السياسيين اللبنانيين أن يروجوا إلى أن ما يجري في شمال لبنان وخاصة في مدينة طرابلس هو حرب على "الطائفة السنية، وهو ما أدى إلى ظهور بعض الأصوات بتيار المستقبل كالنائب خالد الضاهر والجماعة الإسلامية "إخوان الميلمين بلبنان" وعدد من التيار السلفي باتهام الجيش بخوض حرب ضد السنة، ولكن دعم الرموز السنية وفي مقدمته رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام ورئيس قوى 14 آذار رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، للجيش فوت الفرص على بعض المتربصين لإشعال لبنان بحرب مذهبية.
ورفض وزير العدل اللواء أشرف ريفي، بدوره تصوير المعركة على أنها «حرب على أهل السنة». وقال في بيان له: «سمعت بعض الأصوات والجهات التي اعتبرت أن ما يجري الآن في طرابلس، وبعض مناطق الشمال، هو حرب على أهل السنة. يهمني وبعد رفض هذا الكلام جملة ومضمونا، أن أتوجه لأهلي في طرابلس والشمال وكل لبنان بأن الخيار التاريخي لأهل السنة كان وسيبقى خيار الدولة والمؤسسات ولبنان العيش المشترك، اتخذوه ودفعوا أبهظ الأثمان، من اغتيال الشهيد (مفتي لبنان) حسن خالد (في منتصف الثمانينيات) إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري (عام 2005)، وهم مستمرون بهذا الخيار مع الرئيس سعد الحريري». وأضاف: «رهاننا فقط على الدولة، ولن نرد على الدويلة التي تسهم بإشعال حرب مذهبية في لبنان والمنطقة، بدويلة مشابهة، بل إن ردنا أعطيناه في 14 (مارس) آذار 2005، حيث التقى جميع اللبنانيين في مساحة وطنية مشتركة، فكان أن خرج جيش النظام السوري، وكان أن ولدت المحكمة الدولية، وسنستمر معكم بهذا النضال».
وتابع: «أعلنا وقوفنا إلى جانب ثورة الشعب السوري، ولكننا في المقابل رفضنا أي تدخل لبناني من أي طرف. وعلى هذا الأساس واجهنا (حزب الله)، وسنبقى في مواجهته، في دخوله إلى سوريا وارتكابه الجرائم بحق الشعب السوري. وعلى هذا الأساس أيضا، نرفض إعطاء (حزب الله) الذي أسهم بنقل الأزمة إلى لبنان، أي مكسب، وهو الذي يحاول دائما ترتيب اصطدام مع الجيش اللبناني. فأي فائدة ترجى من نقل العنف إلى مناطقنا؟ وأي فائدة ترجى من الرد على النظام السوري وحلفائه اللبنانيين، باعتماد نموذجهم الذي يكاد يشعل حربا مذهبية، تدك ما تبقى من بنية الدولة؟».
ويأتي موقف القيادي بتيار المستقبل، نهاد المشنوق الأكثر وضوحاً، بإعلانه رفض قيام السنّة بمهمة مقاتلة الجماعات المسلحة أو المتشددة التي تنتمي بدورها إلى الأفكار الإسلامية الخاصة بالمذهب السنّي. قال المشنوق يومها: لن نكون صحوات سنّية لبنانية!
جذور الأزمة
نرجع قليلاً إلى تجربة أحمد الأسير في صيدا. الداعية الذي بنى حزبية محلية ذات قواعد ونفوذ اجتماعيين، كان يهرب على الدوام من الموقف السياسي. كان يتفادى السجال مع سائليه أو مع المتحدثين. لكنه- على ما قال في حينه- وجد نفسه في مواجهة هذا الاستحقاق، وصار مطلوباً منه الإجابة عن الأسئلة وإعلان الموقف. وهو الشيخ الذي يلتقي مئات المصلين ويزور عائلات كثيرة في بيوتها، قال إنه لمس «الشعور بالغبن والظلم بسبب تعاظم نفوذ القوى الأخرى وهيمنتها، ولا سيما حزب الله وحركة أمل، على الدولة ومؤسساتها، وخصوصاً مؤسسة الجيش»، كما ردّد أكثر من مرة، أنه لمس «إحباطاً حقيقياً من قدرة تيار المستقبل على تحقيق التوازن». فكان أن غادر الأسير موقعه الدعوي لينخرط في اللعبة السياسية من بابها الواسع، مطلقاً حركة تعادي الشيعية السياسية، وتخاصم الممثل الأبرز للسنيّة السياسية في لبنان.
لم يكن الأسير مرفوضاً بقوة لدى الجمهور السنّي العريض. وكان كثيرون يقبلون به، أقله، ناطقاً باسمهم، أو معبّراً عمّا يريدون قوله. وكان إعجابهم به يزداد كلما رفع من سقف خطابه الهجومي ضد حزب الله والقوى الحليفة له. لكن الأسير لم يقس الأمور بدقة الخبير، فاعتقد أن القبول به ناطقاً قبول به قائداً، فذهب إلى أبعد مما يريده الجمهور والناس، وبدأ يعاني العزلة، وصولاً إلى انتحاره يوم موقعة عبرا الشهيرة.
والأمور تطورت في ظل ظهور جبهة النصرة "فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام" وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وتواجدهم في لبنان، مع استمرار اختطاف جنود الجيش اللبناني، فاشتباكات طرابلس مع الصراع المسلح الذي تقوده «جبهة النصرة» و«داعش» وبعض القوى المحلية السلفية- توضح أن هناك مخططا لربط طرابلس بتوترات المنطقة.
واشتعال الوضع بدا مرتبطاً بتداعيات العملية العسكرية- الأمنية التي نفذها الجيش في بلدة عاصون وأوقف خلالها أحمد سليم ميقاتي، إذ إنه جاء على خلفية محاولة توقيف مطلوبين من جهة، ونتيجة رغبة «داعش» في الانتقام، بعد تسريب شائعات عن أن ميقاتي فارق الحياة تحت التعذيب، عززها اتصال من مجهول يطلب من ذويه تسلم جثته.
ويتوزع المسلحون على مجموعات إرهابية صغيرة تتنوع ولاءاتها بين «النصرة» و«داعش» وبقايا حقبة المحاور. فبحسب المعلومات يتولى قيادة المجموعات المسلحة كل من: «أبو هريرة» الابن البكر لأحمد سليم ميقاتي على محور الأسواق القديمة، وهو تربطه صلات جيدة بمعظم المجموعات السلفية المقاتلة في المدينة، حضر ليل الجمعة من القلمون تحضيرا لعملية كبيرة تتزامن مع رأس السنة الهجرية تحدثت المعلومات عن أنها كانت عبارة عن تفجير ثلاث سيارات مفخخة تم العثور عليها في المنية، مجموعة الشيخ حاد حبلص في مثلث المنية- المحمرة- بحنين، أما المجموعات المسلحة الموجودة بأحياء التبانة الداخلية تابعة لشادي مولوي وأسامة منصور وأبو هريرة وأبو جبريل وأحمد ميقاتي أبو الهدى.
وسبق اندلاع الاشتباكات دعوة كل من الشيخ خالد حبلص والشيخ طارق الخياط إلى العصيان المسلح ضد الجيش اللبناني، وإلقائهما خطباً نارية عقب صلاة الجمعة، تضمّنت تحريضاً على الجيش واتهامه بأنه ينفّذ الخطة الأمنية على السُنّة فقط، داعيين السُنّة إلى ترك الجيش، ناشرين أول تباشير ما أسموه بالثورة، متخذين من كلام وزير الداخلية نهاد المشنوق سببا للدفاع عن أهل السنة.
موقف حزب الله
يمكن اعتبار استعراض القوة السنّية في شمال لبنان ردّاً متأخِّراً على سيطرة حزب الله على بيروت في مايو من العام 2008. آنذاك، سحق حزب الله المجموعات السّنية المسلّحة، واستعرض تفوّقه في العاصمة، مُضيفاً إياه إلى السيطرة التي يفرضها على منطقتي الجنوب والبقاع. كما استخدم قوّته فيما بعد لإسقاط حكومة سعد الحريري في يناير 2011، وتشكيل حكومة يتمتّع بمزيد من السيطرة عليها. فتسعى المجموعات السنّية في طرابلس إلى تغيير هذه الموازين وتستخدم الاستراتيجية ذاتها التي استخدمها حزب الله، أي تسخير السلاح والشعارت الدينية والدعم الخارجي، لتُقيم هي الأخرى منطقتها الخاصة و"مربعاتها الأمنية". وحزب الله الذي لا يملك قوات له شمال بيروت، لا يستطيع الوصول إلى هذه المجموعات، فبعض المعلِّقين يتحدّث عن بروز "ضاحية شمالية" سنيَة مقابل "الضاحية الجنوبية" التابعة لحزب الله.
ويتصرف حزب الله بطريقة تجعل السنّة يشعرون بأنه لا يريد لهم أي نفوذ حقيقي، أو أي عناصر قوة، لا على صعيد الزعامات ولا على صعيد القوى السياسية، ولا على صعيد الحضور الاقتصادي والإعلامي.
وعلى حزب الله والقوى الشيعية الإقرار أن عليهم التعايش مع فكرة شريك سنّي قوي خارج إطار الحصار والتشكيك، وهو أمر لا تقول المعطيات إنه في متناول اليد، بينما يغرق السنّة في الانتقال من مبايعة غاضب إلى مبايعة غاضب آخر، من دون الانتباه إلى أن التغيير يجب أن يقوم أولاً على نقد ذاتي، من شأنه إعادة رسم الهدف والرؤية والدور.
لبنان اليوم
لبنان يعيش تفجيرات متنقلة. إذا لماذا اشتعلت في طرابلس وعكار؟ ومع سيطرة الجيش على الأوضاع في لبنان وفي ظل الاشتباكات التي لم تهدأ حتى الآن، هل تجاوزتْ عاصمة الشمال اللبناني طرابلس «مرحلة» هي الأخطر منذ تطبيق الخطة الأمنية فيها؟ أم الحساسيات المذهبية والحسابات السياسية الداخلية والإقليمية مرشّحة لمزيد من سكب الزيت على «النار»؟ وهل سينجو لبنان من نار المذهبية والطائفية التي تحرق دول المنطقة، أم أنه سيعيد تكرار الحرب الأهلية في السبعينيات؟