دراسة اجتماعية للحركات السلفية بالمغرب العربي

الأحد 29/يناير/2017 - 07:04 م
طباعة دراسة اجتماعية للحركات
 
دراسة اجتماعية للحركات
الكتاب: الحركات السلفية بالمغرب
المؤلف: الدكتور عبد الحكيم أبو اللوز
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية 2004

يأتي كتاب الدكتور عبد الحكيم أبو اللوز “الحركات السلفية بالمغرب” في ظروف مرت فيها المغرب بأحداث متلاحقة من عمليات عنف وارهاب كان ابرزها الأحداث المأساوية التي عرفتها الدار البيضاء في 16 مايو 2003، مما دفع الكثير من الباحثين لإعادة قراءة المشروع السلفي ومحاولة تفكيك جهازه الأيديولوجي من أجل فهم الدوافع التي تكمن وراء تبني الفاعلين لهذا النمط من التدين الراديكالي وإدراك المعاني المتمثلة خلف سلوكياتهم وخطاباتهم.، حيث يمثل هذا البحث جسرا للتبادل بين البحث الأكاديمي والطلب الاجتماعي من خلال مقاربة سوسيولوجية واقعية للظاهرة، وبعيدا عن الخطابات المعيارية والتأويلات الصحفية، حيث حاول المؤلف تسليط الضوء على تلك الحركات كظاهرة اجتماعية وثقافية ونفسية، مع رصد تأثيراتها وسط مختلف الشرائح الاجتماعية، وكذا قدراتها على الاستقطاب، والتعبئة المذهبية من خلال بحث ميداني حاول فيه الباحث تتبع جذور تلك الظاهرة وأسباب انتشارها في المجتمع المغربي.
ومن جهة أخرى يسعى هذا العمل إلى إثراء البحث حول الإسلام المغربي من خلال فهم بعض مظاهر التدين العام، والذي يعبر عن نفسه ومناسباته وأتباعه وطقوسه بطرق متنوعة، وكذا تعميق المعرفة الميدانية بمختلف مظاهر الحياة الدينية للمغاربة.
السلفية كأيديولوجيا:
هناك من يقدم السلفية كدعوة سياسية إيديولوجية تستهدف صياغة الحاضر والمستقبل وفق صورة مثالية متماهية مع الماضي، الذي يعتقد أنه أفضل العصور الإسلامية وأولاها بالاقتداء.
تلك الأيديولوجيا تهدف أيضا إلى صياغة رؤية جديدة للعالم، وذلك بصياغة المعتقدات الإسلامية بشكل أكثر بساطة، بحيث يرتبط المشروع السلفي أساسا بالماضي (تراث السلف) عبر نسق خاص يمكن تسميته بالنسق النصي يخالف باقي الأنساق الفكرية الأخرى؛ النسق المقاصدي (الإسلاميون)، النسق التأويلي (المتصوفة والشيعة)، النسق التاريخي (المفكرون الجدد)..
كما أن هناك من ينظر إلى مفهوم السلفية على أنه يحمل مشروعا للإصلاح العقائدي والاجتماعي، تبلور في البداية مع ابن تيميه وابن القيم الجوزية كرد على ما اعتبر انحرافا في فهم العقيدة الإسلامية وفي تأويل النصوص المقدسة. بعد ذلك بقرون، سوف تستعيد تلك العقيدة حيويتها على يد محمد ابن عبد الوهاب لتقاوم ما اعتبرته تسربا لأشكال الوثنية في العقيدة وقواعد التعبد.
من جهة أخرى فقد تحولت إلى أرضية فكرية لمعظم حركات الإصلاح الفكري والسياسي التي شهدتها المنطقة السنية للعالم الإسلامي، ومن أبرز رواد هذا الطرح يأتي اسم محمد عبده ورشيد رضا الذي دافع عن حركة الوهابيين في كتابه الوهابيون والحجاز، بالرغم من الانتقادات التي وجهها لهذا التيار.. وفي تحديده للمفهوم المركزي، في هذه الدراسة؛ أي مفهوم السلفية، يرى الباحث أن هذا المفهوم يدل على نزعة احتجاجية على التطورات التي طرأت على مستويين من مستويات الدين: العقائدي والتعبدي؛ فعلى المستوى العقائدي، تهتم النزعة السلفية بعملية إعادة تقنين الدين، هادفة إلى الترشيد الميتافيزيقي والأخلاقي للعقائد المعيشة؛ وعلى المستوى التعبدي، يقدم السلفيون أنفسهم كأصحاب رؤية عقدية تحاول تصحيح الممارسات التعبدية التي يشوبها الشرك والانحراف وتخليص مختلف مظاهر العبادة من الشبهات وذلك وفق ضوابط صارمة تعود دوما إلى ممارسات السلف من الرعيل الأول (القرون الثلاثة الأولى)
وبذلك تحاول السلفية رسم مجتمع آخر أساسه التضامن العقدي عبر إعادة تنشيط ماضي السلف، باحتكار لغة رسولية تجيز لنفسها الوصاية على عقائد وممارسات المسلمين. وتتبنى مفهوم التوحيد حسب رؤيتها كحل وحيد لكل المشاكل التي تتخبط فيها الأمة.
ومن أهم نتائج هذا التصور، تصلب المبدأ الذي تتبناه السلفية، والذي يقوم أساسا على رفض الشرك والإصرار على التوحيد قولا وفعلا وموقفا، ومن ذلك أيضا الاكتفاء بظاهر النصوص (الحرفية) في رفض تام لكل التأويلات الخارجة عن اتجاهها الفكري والعقدي، وبالتالي عجزها عن إنتاج معان جديدة خارج حدود العقيدة (على عكس الصوفية والشيعة الذين يتبنون التأويل والتوظيف الإشاري لظواهر الطبيعة).
ومن ذلك تجاهل العامل الإنساني وكذا السياقات التاريخية في مقاربات تفسير النصوص، إذ تسقط السلفية في قراءة انتقائية تحاول بكل قدرتها إلغاء كل الحجج المخالفة، تستعمل في ذلك عادة علم الجرح والتعديل كسلاح قد يتجاوز أحيانا نقد التراث إلى الأحياء من خلال الهجوم على كل الرموز المخالفة (تفكير ذو نزعة هجومية)، هذه اللغة التي تبقي التابع في حالة نفسية دائمة للصراع. وقد اشتهر في هذا الإطار الشيخ الألباني الذي فتح باب الجرأة على العلماء والمذاهب المخالفة، قبل أن يتراجع في آخر حياته عن الكثير من مواقفه الجريئة، ويتفرغ للتربية والأخلاق.
ومن ذلك مواجهة كل الأعراف والعادات والتقاليد المجتمعية (كالهجوم على الإسلام الصوفي الطرقي)، وكل مشاريع التقارب مع الأديان والمذاهب الأخرى، بل كل محاولة للابتكار والإبداع خارج الفهم السلفي (بنية فكرية مغلقة)، ومن أمثلة ذلك عدم اعتماد سيرة ابن هشام في مقررات السيرة في دور القرآن التابعة لجمعية الدعوة  للكتاب والسنة لاتهامه بالخروج عن منهج السلف، وأيضا كتاب فقه السيرة للدكتور رمضان البوطي لكونه قد رد على اتجاهات السلفية من خلال كتابه (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي)، وكذا تجنب تدريس كل المتون التي تعرض للعقيدة الأشعرية. وفي أفضل الأحوال يتم تكييف بعض المقررات (الشاطبي وابن خلدون) مع أساسيات المعتقد السلفي، أو الإشارة إلى الانتماء المذهبي للمؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد)، مما يفتح باب التدليس مرة أخرى على مصراعيه (الاحتجاج بمقولات منزوعة من سياقاتها)
لغويا تتبنى السلفية جهازا مفاهيميا مغلقا ذو حمولة أيديولوجية مفعمة بالأحكام المعيارية، وتتصدى لكل محاولة للنقد أو إصدار أحكام خارج المألوف والمتداول، مما يولد لدى الأتباع قصورا في التفكير الجدلي، ينعكس بقوة في كتاباتهم التي لا تبرز فيها عادة شخصية المؤلف التي تتوارى خلف كثرة الإحالات (تتم الإحالات عادة على شيوخ السلفية قديما وحديثا وخصوصا ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وابن باز وابن عثيمين..) والتعاليق التي قد يبرم منها القارئ خاصة وأن الكتابة برمتها تتم خارج الزمن السردي، وبذلك يظل الخطاب السلفي عاجزا عن تطوير خطاب منظر للعقيدة.
لا يمكن للعقيدة أن تستمر دون طقوس، ولذلك يهتم السلفيون بالطقوس كثيرا حيث يتم استبطان رؤيتهم الأيديولوجية والصدور عنها في مواقفهم وأحكامهم. فالسلفي الحقيقي هو الذي ينضبط سلوكه وممارسته مع شعار التوحيد، ويمتثل لكل أوامر الرسول ص التي جاءت في السنن. وباهتمام السلفية بالعبادات والطقوس يجعل منها يوتوبيا مطبقة، وبذلك يقف السلفيون عموما في وجه كل البدع والممارسات التي يرونها تخالف هذا التصور السلوكي الذي يهدف إلى إصلاح كل أوجه الحياة الدينية. فكان من نتائج هذا الأمر القيام بحملة شعواء ضد مظاهر التدين المغربي الذي يتبنى ضمن مكوناته التصوف الطرقي، وذلك وفق استراتيجية متدرجة تنطلق من زراعة الشك في نفوس المريدين ودفعهم إلى الطعن في معتقداتهم السابقة لبث المعتقدات السلفية الجديدة، وكذا تبديع وتحريم كل الممارسات المرتبطة بالإسلام المحلي كالدعاء والذكر الجماعي، وصيغ الصلاة على النبي (ص)، والتغني بحب الرسول(ص). ومن أبرز المغاربة الذين كتبوا في هذا الإطار نذكر محمد المنتصر الريسوني.
وإذا كانت الطقوس التعبدية لدى السلفيين تشكل أساسا لاستبطان رؤيتهم الأيديولوجية التي يصدرونها أيضا من خلال مواقفهم وأحكامهم، فإن تلقين تلك الرؤية للأتباع يكتسي نفس الأهمية إن لم يكن أكثر أهمية. فالطائفة عادة لا تقبل فتور معتقداتها مما يجعلها في سباق دائم لكسب الأنصار وتجنيد المريدين.
هكذا تختلف وسائل التلقين وتتدرج لمراحل حسب فئات ومستويات المرشحين. حيث يشكل تحفيظ القرآن قطب الرحى والمنطلق الذي تتقاطع فيه الجمعيات السلفية وتزيد بعضها (الحافظ بن عبد البر للعناية بالتراث الإسلامي) على ذلك بتنظيم دروس متنوعة للنساء والأطفال مع التركيز على بساطة المعتقد السلفي ومحاولة ترسيخه في مرحلة ثانية لدى المريدين بحيث يتمكنون من امتلاك جهاز تشفير يعطيهم حصانة ضد كل الأيديولوجيات الأخرى، لينعكس كل ذلك في مرحلة ثالثة على مستوى سلوكياتهم وخطاباتهم اليومية وفق مسلسل بناء أيديولوجي. حيث يتم خلال تلك المرحة توجيه الطلاب نحو مؤسسات عالمية (كالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة) للانفتاح على تخصصات مختلفة من أجل خدمة الدعوة السلفية وذلك عبر تزكية يقوم بها قيمون ثقات كشفوا عن ولائهم وانخراطهم في نصرة المشروع السلفي كمؤسس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة في مراكش الشيخ المغراوي.
لكن التلقين في الأوساط السلفية لا يتوقف عند تلك الدروس الرسمية، إذ يتجاوزه إلى ما سماه المؤلف بالتلقين عبر المماهاة والذي وإن تنوعت وسائله فهي تتوحد حول بعض الأمور الظاهرية كالمقابلات الرمزية لتعويض الأسماء الحقيقية (أبو حفص، أبو قتادة..)، والالتزام بالسمت وبالتمسك بنوع من اللباس، وطقوس معينة في الأكل (تدين ذو نزعة استعراضية) حيث يعد ذلك من الوسائل المساعدة في الدعوة، وقد يفرض الأمر (خاصة داخل جمعية الدعوة إلى الكتاب والسنة) إبعاد التابع عن وسطه القديم من أجل تجنب “العدوى الآتية من المحيط” وممارسة نوع من رقابة الجماعة عليه حتى ينصهر في عالمه الجديد في محاولة لتطابق الأفراد مع المجموعة. مما يولد غالبا نوع من التعالي والتعصب لمعايير الجماعة وكذا تحقيق التمايز مع العالم الخارجي وتوجيه العدوانية الرمزية تجاهه (الحط من قدر المجموعات الدينية الأخرى)، وذلك بالموازاة مع تعزيز الانسحاب والتقوقع داخل الذات والاكتفاء بالخلاص والطهارة الفردية، دون الاهتمام بالآخرين أفرادا كانوا أم جماعات.
وإذا كان هذا النوع من التجنيد يتم داخل جمعية المغراوي داخل فضاء تواصلي مغلق يتحكم الشيخ فيه بكل تفاصيل الحياة اليومية للأتباع ويمنع كل محاولة للنقد أو الإبداع خارج المنهج والاستراتيجية التي حددها الشيخ سلفا، فإن مساحات الحوار والاجتهاد والانفتاح على الآخر تبدو أكثر رحابة داخل جمعية الحافظ بن عبد البر التي تعتمد منهجية أفقية تمكن الطالب من التعبير والاستفسار والتعقيب.. وذلك في حدود المرجعية السلفية، حيث تتميز الجمعية بقيادة اندماجية، يسودها التوافق والتعاون وجودة التسيير.

شارك