أركون : القرآن يفصل بوضوح بين الإيمان والعقيدة
الأربعاء 14/سبتمبر/2022 - 01:01 م
طباعة
حسام الحداد
شدد المفكر محمد أركون على إن القرآن يفصل بوضوح بين الإيمان والعقيدة أو الاعتقاد، والعقيدة تعني الاعتقاد الدوغمائي الناشف، صحيح أن هذا الاعتقاد معلن صراحة على رؤوس الملأ ولكنه سطحي ظاهري،وبالتالي عرضي عابر. كان القرآن يشتبه ضمنيًا بأن المسلمين يعلنون ظاهريًا إسلامًا سطحيًا، أي غير ناتج عن اعتناق صحيح وصادق، وبالتالي فلا يصبح إيمانًا صلبًا ونهائيًا.ينبغي الاطلاع بهذا الصدد على كل سورة الحجرات لأخذ فكرة متكاملة عن الموضوع.ينبغي العلم أن الكلمة التي تقابل في القرآن كلمة la foi الفرنسية هي كلمة: الإيمان. وهذه الكلمة تدل على الثقة الكاملة التي يشعر بها الإنسان بعد أن يمتلك الإيمان. إنها تدل على الأمان(أمان الله)، أو تدل بمعنى آخر على الثقة الناتجة عن الأمان الكائن بين طرفين؛ الإنسان والله.
وقال فى حوار بقلم رشيد بن الزين نشرته مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والابحاث حوارات يوم 2 ديسمبر 2017م ان الفرد المواطن غير موجود" في بلدان الإسلام لأنه مُراقب ومُسيطر عليه كليًا من قبل الأمة، أي "الطائفة الدينية". كما أنه مُراقب كليًا من قبل حراس الإيمان بالذات أو بالأحرى حراس الاعتقاد، أي رجال الدين الرسميين. من المعلوم أن الفرد المحمي في البلدان الديمقراطية من قبل دولة القانون يستطيع أن يفعل ويقول ما يشاء في مجتمع منفتح. ولا ريب في أنه توجد قوانين تحد من هذه الحرية،ولكن القوانين نفسها محمية من قبل إطار ديمقراطي. وعندما تُنتهك فإن المواطنين يستطيعون إيقاف الدولة عند حدها عن طريق التظاهر في الشارع، ورفع شعار المطالب المدعومة من قبل الاضرابات، أو بكل بساطة عن طريق الأغلبيات البرلمانية المنتخبة. إن حقوق المواطنين واحترام هذه الحقوق يشكلان دائرة المجتمع المدني. أما في عالم الإسلام بالمعنى الواسع للكلمة(أي الثقافي، والجغرافي، والتاريخي) فإن أحدًا لا يستطيع أن يحاسب الرئيس الحاكم.
والى نص الحوار:
- يبدو أنك انتهيت للتو من قراءة كتاب أميركي عن "حراس الإيمان" ذي الصلة بموضوع علماء الدين المسلمين و"الأزمنة الحديثة"وأنت تود الانطلاق من هذا الكتاب بغية إيضاح تصورك "لعلم الإسلام".
أريد القيام بلفة أو دورة أو انعطافة لكي أجيب عن هذا السؤال أو قبل أن أجيب عنه، فكلمات العنوان: "حراس الإيمان في الأزمنة الحديثة"، تعطيني الفرصة لكي أنطلق فكريًا وأستطرد من جديد. الملاحظة الأولى التي أود تسجيلها هي أنني أعترض على وصف رجال الدين المسلمين المعاصرين بأنهم "حراس الإيمان"، وهذا ليس صحيحًا.إنهم في أحسن الأحوال حراس "الاعتقاد الدوغمائي الانغلاقي" وليس الإيمان، فالإيمان شيء آخر. وكما قلت سابقًا فإنه يمكننا بل وينبغي علينا أن نقيم من حيث المبدأ تمييزًا هامًا بين الاعتقاد الدوغمائي من جهة، والإيمان من جهة أخرى. وينبغي أن يكون معلومًا بأن الاعتقاد أو العقائد هي كلمة واسعة جدًا، وإنها تشمل مجالاً كبيرًا من الاشياء القابلة للتعديل عبر الزمن وطبقًا للأمكنة المختلفة.ولكنها دائما مضادة للازدهار الحر والأكمل لشخصية الإنسان، فهي تعرقل تشكل شخصيته بصفته ذاتًا حرة ومسؤولة. أما الإيمان فعلى العكس من ذلك تمامًا، إنه يخص الحميمية الداخلية للكائن البشري وحريته،ويخص تكوينه في العمق. والإيمان صلب مقاوم(على الرغم من أنه خاضع لامتحان الزمن، أو لأنه خاضع لذلك، كما يقول اللاهوتي الكاثوليكي ماري- دومنيك شنو). والمقصود بذلك أنه مجبول بالزمن أو معرض لفعل الزمن واختباره. ولأن الإيمان مستقر "في" الذات البشرية منذ الطفولة،لأنه مستقر في أعماق أعماقه، فإنه يسهم في تربيته، وثقافته، وتطوره. وبالضبط لأن الإيمان "مستقر" في تركيبة الذات البشرية، فإنه ينبغي أن يتعرض للمراقبة والمساءلة والنقد في أسسه وتشكيلته، وذلك لأنه من المهم أن نعرف كيف ينظم الذات ويحكمها ويشكلها أو يصوغها...الخ، ولكن البعض، عن طريق مسار شخصي معين، يفقدون الإيمان، ولدى هؤلاء لن تكون هناك أيضًا بعد اليوم عقائد. وينبغي العلم بأن العقائد أكثر سطحية بكثير من الإيمان، كما أنها انغلاقية تعصبية عمومًا، ولكنها للأسف الشديد لا تُفقد بسهولة وإنما تبقى رازحة، وذلك لسبب بسيط هو أن أحدًا لم يتجرأ على مراجعتها أو وضعها على محك التساؤل والنقد.
- أنت تقيم هنا تمييزًا بين الإيمان من جهة، والعقيدة أو الاعتقادات من جهة أخرى.هل هذا التمييز موجود في القرآن؟
نعم. ينبغي العلم بأن كلمة "إسلام" بحسب ما هي واردة في القرآن تعني الإيمان، وهي تعني بالنسبة لنا "الخضوع لقضاء الله وقدره". ولكنها في البداية كانت تعني "الخضوع لمطالب القتال من أجل الدفاع عن الجماعة". كان الأمر يتعلق بالقبول بالموت من أجل المجموع، أو من أجل جماعة محددة، ثم حصل انزلاق معنوي إضافي وأصبح المجموع المعنيّ ليس الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها المرء كالعائلة والعشيرة، وإنما الجماعة الإسلامية الوليدة بصفتها تلك. والمقصود بالجماعة تلك التي تؤمن بالله الواحد الأحد والتي تعتقد بأنه يطلب التضحية بالنفس من أجله، وتطالب بأن يصبح المرء "شهيدًا" من أجل العقيدة، من أجل الرسالة والدعوة. ينبغي العلم بأن "حرّاس الإيمان" كانوا ينتمون في البداية الى هذه الفئة من الأشخاص: إنهم مستعدون للموت من أجل القضية " شهداء". وكما قلت سابقًا فإن الإيمان ينظم النفس العميقة ويحتلها كليًا. إنه حيوي ديناميكي مرتبط بصلابة الذات البشرية وشخصيتها، أما الاعتقاد فهو أكثر ضعفًا وهشاشة من الإيمان إنه خاضع أكثر لتقلبات الظروف، كما أنه ليس بذي عمق كبير، وهو في الغالب ليس مثقفًا جدًا ولا مُفكَّرًا به بشكل عميق وإنما هو في الغالب موروث بشكل محض، بمعنى أنه ينتقل بالوراثة، فالمسلم يظل مسلمًا لأن عائلته مسلمة،وقل الأمر ذاته عن اليهودي أو المسيحي...الخ وهذا هو الاعتقاد.
- ما هو الدور الذي يلعبه "حراس الإيمان" إذن؟
أكرر القول مرة أخرى: إنهم بالأحرى حراس الاعتقاد لا الإيمان، ولكن الذي يقيم هذا الفرق بين الشيئين هو أنا وليس رجال الدين الذين يدعون أنفسهم ويفرضون على الآخرين مناداتهم باسم "حراس الإيمان" داخل تراث الإسلام، لماذا؟ لأنهم مدربون خصيصًا للسهر على الإيمان الأرثوذكسي وحراسته، أي الإيمان "الجاهز مسبقًا"، والذي يُعتبر من قبل الطائفة بمثابة الإيمان الوحيد الصحيح، أي الإيمان الوحيد القادر على إقامة علاقة صحيحة مع الله والمحافظة على الميثاق الذي يربط الإنسان به. كل حداثة تظهر في التاريخ تؤدي الى اندلاع مناقشة جديدة، وإلى انبثاق أسئلة غير معروفة مسبقًا عن الإيمان، إنها أسئلة من نوع الأسئلة التالية: كيف نحافظ على الإيمان؟ كيف نعيد تحديده؟ كيف نصلحه؟... الخ، ولكن في كل الحركات التجديدية التي يمكن أن تظهر يطرح هذا السؤال نفسه:من الذي سيقرر الفرق بين القديم والجديد؟من الذي سيحسم الأمر والقول الفصل؟هذه الحركات التجديدية يمكن أن تنتج عن إرادة شخصية،أو عن ظهور مذهب جديد يعدل من تحديد الإيمان ويؤدي الى اندلاع نقاشات هائجة يمكن أن تصل الى حد الانشقاق. من الذي سيحسم الأمر بين القديم والجديد؛ هل هم أولئك المجددون الذين يطرحون المشكلات، أم أولئك المحافظون الذين تكمن مسؤوليتهم في المحافظة على الإيمان كما كان قد بُلور في لحظة ما من لحظات الماضي؟ (وذلك لأنه لم يُحدد خارج الزمن أو لأجل كل الأزمان، فهناك لحظة ما تشكل فيها علم الفقه وعلم اللاهوت، لحظة لم يكن فيها الإيمان قد ثُبت نهائيًا بعد).
أما بالنسبة "لحراس الإيمان" فالجواب واضح وضوح الشمس: كل جدة أو حداثة هي بالتحديد بدعة وانحراف، إنها عبارة عن تعديل غير مقبول لما كان قد ثُبت مرة واحدة والى الأبد في الماضي. وذلك لأن الإيمان كان، بالنسبة لهم، قد بُلور وثبت من قبل الله مباشرة، بل إنه لم يفوض إرادة مستقلة لفعل ذلك، ومثل هذه الفرضية تعتبر بمثابة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة لحراس الإيمان.لماذا؟ لأن هؤلاء يفترضون مسبقًا أن الإيمان ينبغي أن يبقى كما هو عليه عن طريق تذكرنا بأن الله نفسه هو الذي حدده، وعن طريق الإحالة الى ما كان عليه دائمًا في ماض مُتصور كشيء جامد وثابت ولا يعرف التغيير أبدًا. وبما أن الإيمان كان قد حُدد في الماضي مرة واحدة والى الأبد فإنه ينبغي أن نعيد المؤمن الى هذا الإيمان بالذات أو نبقيه فيه، لماذا؟ لأنه الإيمان الوحيد الصحيح أي الذي يمثل "الخط القويم المستقيم". وهذا ما ندعوه في علم الأديان بمصطلح الأرثوذكسية. ينبغي العلم بأن حراس الأرثوذكسية يعلّقون حرية تفسير الإيمان أو يغلقونها تمامًا. لماذا؟ لأنهم لا يقبلون بفكرة أن الإيمان يمكن أن يتطور، ليس فقط في مضمونه وإنما أيضًا في أسلوبه أو لغته. نقول ذلك ونحن نعلم أنه يتطور طبقًا لتقدم البحث العلمي أو بسبب حصول أحداث مستجدة. ولكن حراس الأرثوذكسية لا يعترفون بذلك إنهم لا يعرفون قلق البحث ولا يتعبون أنفسهم فيه لكي يجدوا شيئًا جديدًا يعدلون ما ينبغي تعديله على أساسه. كل هذا لا يهمهم، وإنما يهمهم فقط أن يظلوا متعلقين بالماضي، وبما هو موجود. إنهم يشبهون النواطير أو بوليس الجمود. هذا في حين أن الإيمان شيء ديناميكي متحرك غير ثابت أبدًا ولا قابل للتثبيت النهائي. وإذا كان كذلك فهذا يعني أنه ليس إلا اعتقادًا دوغمائيًا جامدًا من جملة اعتقادات أخرى.
- هل الاعتقاد عبارة عن أيديولوجيا؟
لا،لا، كلمة الإيديولوجيا خشنة هنا أكثر من اللزوم. وبالنسبة لنا فإن لهذه الكلمة دلالة سلبية بعد كل ما حصل في القرن العشرين من فظائع بسبب الإيديولوجيات الفاشية والشيوعية وسواهما. ينبغي العلم بأن الاعتقاد بالنسبة لي ليس مفهومًا أخلاقيًا. إنه عبارة عن قناعات هشة قليلة الصلابة، أو قل إنها صلبة بشكل مزيف لأنها غير مدعومة من قبل المحاجات العقلية المنطقية، وإنما يتبناها المرء بدون أي نقد على هيئة التسليم والوراثة أبًا عن جد. أما الإيمان فهو مغروس في أعماق الإنسان، إنه واعٍ بذاته، ويمتلك نوعًا من العفوية التلقائية التي تحمس الإنسان وتدفعه للانخراط في العمل والممارسة. كما ويدفع الإيمان الى التفكير. وفي الوقت الذي يمتلك فيه الإيمان هو أيضًا صفاته العرضية إلا أنه مرتبط بصلابة الذات. الإيمان هو مشروع حياة، إنه "ينتج" الوجود.
- القرآن يقول: "لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا".
نعم، إن القرآن يفصل بوضوح بين الإيمان والعقيدة أو الاعتقاد، والعقيدة تعني الاعتقاد الدوغمائي الناشف، صحيح أن هذا الاعتقاد معلن صراحة على رؤوس الملأ ولكنه سطحي ظاهري،وبالتالي عرضي عابر. كان القرآن يشتبه ضمنيًا بأن المسلمين يعلنون ظاهريًا إسلامًا سطحيًا، أي غير ناتج عن اعتناق صحيح وصادق، وبالتالي فلا يصبح إيمانًا صلبًا ونهائيًا.ينبغي الاطلاع بهذا الصدد على كل سورة الحجرات لأخذ فكرة متكاملة عن الموضوع.ينبغي العلم أن الكلمة التي تقابل في القرآن كلمة la foi الفرنسية هي كلمة: الإيمان. وهذه الكلمة تدل على الثقة الكاملة التي يشعر بها الإنسان بعد أن يمتلك الإيمان. إنها تدل على الأمان(أمان الله)، أو تدل بمعنى آخر على الثقة الناتجة عن الأمان الكائن بين طرفين؛ الإنسان والله.
- لماذا تقوم برد فعل سلبي على تعبير "حراس الإيمان"؟
محمد أركون: عندما يتحدثون عن "حراس الإيمان" فإن الحيطة والحذر يفرضان نفسيهما، فحراس الإيمان هم الملاك الديني المرتبط بالدولة والمؤلف من طاقم رجال الدين، و من الناحية الحيادية الموضوعية لا يمكن وصفهم ولا نعتهم بأنهم مجرد موظفين دينيين.وهذا هو الخطأ الذي يرتكبه الكتاب الأميركي الذي انطلقت منه لمناقشة هذه المسائل. وبالمناسبة ألاحظ وجود قطيعة إبيستمولوجية بين العالم الأنغلو-ساكسوني والعالم الفرانكوفوني فيما يتعلق بتحديد مفهوم "الأزمنة الحديثة".أنا أحدد شخصيًا الحداثة بأحداث هامة كالثورة الأميركية، وبالأخص الثورة الفرنسية،ثم بواسطة الثورات اللاحقة في الغرب. أي أن الإسلام ليس داخل الحداثة، أو أن البلدان الإسلامية لم تعرف الحداثة أبدًا بهذا المعنى. لم تشهد البلدان العربية والإسلامية أحداثًا من نوعية قانون العلمنة الفرنسي الصادر عام 1905. كما لم تشهد حدثًا من نوعية إصدار حقوق الإنسان العالمي عام 1948. هذان الحدثان يشكلان "قطيعة إبيستمولوجية" بمعنى أن معرفة المجتمع لم تعد هي ذاتها بعدهما. ينبغي العلم بأن بلدان الإسلام لا تعرف نظام السيادة الشعبية أي الديمقراطية. فهي حتى الآن غير موجودة هناك. والانتخابات "الديمقراطية" التي تجري هناك هي عبارة عن مهزلة لا أكثر ولا أقل. لم تكتسب المجتمعات الإسلامية ولم تهضم حتى الآن الثقافة الحديثة. ومعلوم أن ذلك شيء ضروري ومسبق لكي تستطيع تحقيق الديمقراطية وتعيش المواطنة بالمعنى الحديث للكلمة، وينبغي أن نتنبه هنا إلى أن المواطن يختلف عن الفرد، وعن الذات، وعن الشخص. والواقع أن كل هذه المفاهيم تظل معدومة في العالم الاسلامي، أو قل ابتدأت بالكاد تنبثق وتتشكل.
- أنت تقول بأن "مفهوم الفرد المواطن غير موجود" في بلدان الإسلام؟
نعم إنه غير موجود لأنه مُراقب ومُسيطر عليه كليًا من قبل الأمة، أي "الطائفة الدينية". كما أنه مُراقب كليًا من قبل حراس الإيمان بالذات أو بالأحرى حراس الاعتقاد، أي رجال الدين الرسميين. من المعلوم أن الفرد المحمي في البلدان الديمقراطية من قبل دولة القانون يستطيع أن يفعل ويقول ما يشاء في مجتمع منفتح. ولا ريب في أنه توجد قوانين تحد من هذه الحرية،ولكن القوانين نفسها محمية من قبل إطار ديمقراطي. وعندما تُنتهك فإن المواطنين يستطيعون إيقاف الدولة عند حدها عن طريق التظاهر في الشارع، ورفع شعار المطالب المدعومة من قبل الاضرابات، أو بكل بساطة عن طريق الأغلبيات البرلمانية المنتخبة. إن حقوق المواطنين واحترام هذه الحقوق يشكلان دائرة المجتمع المدني. أما في عالم الإسلام بالمعنى الواسع للكلمة(أي الثقافي، والجغرافي، والتاريخي) فإن أحدًا لا يستطيع أن يحاسب الرئيس الحاكم، أي الخليفة أو السلطان.فهو وحده الذي يتخذ القرار بكل عظمة وسيادة كأنه الخالق. نقول ذلك ونحن نعلم أنه لا أحد يستطيع أن يحاسب الله وإنما هو الذي يحاسب الآخرين، وبالتالي فإن كلمة "الحداثة" أو الأزمنة الحديثة الواردة في عنوان الكتاب خادعة في استخدام الباحثين الأميركان والأنغلو ساكسون، إنما تعني فقط أحدث الأزمنة من الناحية الكرونولوجية، ولكننا نعلم أن الحداثة ليست فقط زمنية وإنما تنطوي على قطيعات إبيستمولوجية أو معرفية، وبالتالي على رهانات هامة جدًا. ولا ينبغي حجبها أو طمسها أو تغييبها.
- ما هو التمييز الذي تقيمه بين الأصوليين الإسلاميين من جهة، وعلماء الدين التقليديين من جهة أخرى؟
ينبغي العلم بأن حراس الإيمان هم عبارة عن إيديولوجيين ناشطين مسيسين، في الوقت الذي يمتلكون فيه وعيًا ساذجًا نسبيًا. ولكن في نهاية المطاف يمكن القول بأنهم لم يسمعوا بالحداثة حتى الآن، إنهم يعتقدون بأنهم يفعلون خيرًا للسياسة إذ يوجهون الحاكم نحو فعل الخير، وإذ يحبذون نشر الاعتقاد الإسلامي على أوسع نطاق ممكن، ويخضعون لما تريده الدولة الإسلامية، إنهم يطالبون الجميع بالطاعة للسلطان والوضع القائم من خلال المحافظة على الجهل أو إبقاء الناس في حالة جهل، وبالتالي فهم يقومون بعمل إيديولوجي سلبي ضمن مبدأ أنهم يرفضون الحداثة، فهي بالنسبة لهم غير موجودة بكل بساطة، فيوسف القرضاوي مثلاً يجهل تمامًا ماذا تعنيه المنهجية التاريخية، إنه يجهل معنى التاريخية وكيفية تحليل الخطاب الديني، كما ويجهل كل المناهج الجديدة الخاصة بدراسة النصوص دراسة علمية دقيقة. إن حراس العقيدة الأرثوذكسية،وهو من بينهم،يمارسون سلطتهم الدينية العقائدية دون أي هاجس ضميري أو وازع فكري، وذلك لأنهم مقتنعون تمامًا بأن الإيمان الأكثر نقاء بالنسبة للمسلمين لا يمكن أن يكون إلا هذا الشيء السائد،أي إيمانهم بالذات،الإيمان الذي يدافعون عنه.ولكنهم في الوقت ذاته يشعرون في أعماقهم الداخلية بأنهم متواطئون مع أنظمة تدوس بسياستها هذا الإيمان بالذات. وبالتالي فنحن نجد أنفسنا أمام حالة معقدة لا يراها باحثو العلوم السياسية ولا يأخذونها بعين الاعتبار في تحليلاتهم، وأقصد بهم المستشرقين الجدد من أمثال مؤلفي هذا الكتاب الأميركي وسواهم. وعليه فإن الحداثة والقطيعة التي أحدثتها في تلك البدان تظل شيئًا لا مُفكَّرًا فيه بالنسبة لهؤلاء الباحثين الغربيين المتخصصين بالشؤون العربية والإسلامية، أضرب على ذلك مثلاً مؤلفي الكتاب الذي انطلقت منه، فهم يتحدثون عن "المعاصر" دون أن يميزوا بينه وبين "الحديث"، نقول ذلك ونحن نعلم أنه في تاريخ فرنسا مثلاً فان يميز المفكرون بين الأزمنة الحديثة(والقطيعة الحديثة) أو قطيعة الحداثة، وبين الفترة المعاصرة زمنيًا؛ أي الفترة الحالية. فقد تكون معاصرًا دون أن تكون حديثًا، ولكن ينبغي العلم بأن الأولى تواصل عملها في الثانية في الوقت الذي تتحول فيه وتشهد طفرات متواصلة. فالحداثة لا تتوقف. ولكن إذ نقول ذلك ينبغي الاعتراف بأن تحقيب التاريخ على المدى الطويل يثير مشاكل عديدة وصعبة. وعلى الرغم من ذلك فإني أعتقد شخصيًا بأنه لا يحق لنا أن نتجاهل "الحديث" أو الحداثة بكل القطيعات السياسية والفكرية التي أحدثتها داخل "المعاصر" أي داخل الفترة المعاصرة.وحده هذا التمييز الدقيق يمكن أن يتيح لنا فهم الدور الحقيقي لحراس الإيمان،أو بالأحرى حراس العقيدة،أي كبار رجال الدين في العالم الاسلامي.
- ولكن الأصوليين الإسلاميين يزعمون بأنهم سوف يؤسلمون الحداثة بالفعل.
ينبغي العلم بأن الإسلاميين هم أولاً وقبل كل شيء حركيّين سياسيين مفعمين بالإيديولوجيا الديماغوجية والشعارات. إنهم ليسوا مفكرين وإنما رجال سياسة بالدرجة الأولى. وهم يتمسكون ويتشبثون بالهيكل العظمي للعقيدة المحنطة أو الموضوعة في الثلاجة منذ قرون. وهم يبجلون القوة، وتصل بهم الدوغمائية الى حد قتلك إذا لم توافقهم على خطهم أو تتبعهم. إنهم حركيون راديكاليون يريدون فرض توجهاتهم السياسية على المجتمع بالقوة، وهم يتمترسون وراء المسلمات القرآنية لكي يكتسبوا المشروعية في نظر الجماهير ويتمكنوا من فرض مشروعهم السياسي. وفي حقيقة الأمر فإنهم يخلطون كل شيء بكل شيء مشكلين بذلك حشوًا ايديولوجيًا ديماغوجيًا فظيعًا مرعبًا، وسلطتهم ناتجة فقط عن استخدامهم للاغتيالات والعنف السياسي. بالقياس إليهم فان علماء الدين التقليديين يمثلون وجهًا مسالمًا، أو واجهة من الهدوء والطمأنينة، فهم لا يستخدمون العنف السياسي بغية تخويف السكان أو إرهابهم. وذلك على عكس الإسلاميين الحركيين الذين تمثل وسيلة العنف بالنسبة لهم شيئًا أساسيًا، ولكن فيما يخص الموقف الديني، أو العلاقة بالإيمان، فلا يوجد فرق كبير بين الطرفين. ينبغي العلم بأن خصوصية الحركيين الإسلامويين المسيسين تكمن في الانخراط في الممارسة العملية من جهة، وتبسيط الإيمان من جهة أخرى.وذلك لأنهم في الحقيقة لا يبالون بالإيمان كثيرًا ولا بتجلياته. إنهم يحرصون فقط على إظهار انتمائهم العقائدي الديني بطريقة صارخة مكشوفة، بل واستفزازية لكي يراها الناس. وهكذا يذهبون الى الجامع جهارًا بشكل استعراضي لكي يرى الجميع ذلك، وهذا يكفيهم.أما مضمون الإيمان فهذا ليس مشكلتهم على عكس علماء الدين التقليديين.
- كل هذه الأشياء والمتغيرات حصلت الى حد كبير بسبب الإسلام "الوهابي" السعودي على ما يبدو، وهو يتعولم الآن أي ينتشر على مستوى العالم كله.لماذا؟
مرة أخرى نجد أنفسنا هنا أمام ردود فعل "معاصرة" ولكن لا علاقة لها بالحداثة، ومن بينها الوهابية وحركات الإسلام السياسي عمومًا، وينبغي العلم بأن "الوهابية" كانت قد بُلورت من قبل محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، لقد بلورها هذا الأخير عن طريق تجميع أجزاء متبعثرة من تاريخ طويل، هو تاريخ التراث الحنبلي. والأمر يتعلق هنا في جوهره بتشكيل لاهوتي- تشريعي للإيمان. نقول ذلك على الرغم من أن مؤسس هذا المذهب، أحمد ابن تيمية، كان مفكرًا كبيرًا ومثقفًا قادرًا على الخوض في مناظرات رفيعة حول قضايا المنطق واللغة. ولكن هذا لم يمنعه من تجميد الإيمان وجعله قاسيًا صارمًا، لقد جعل "دوغمائيًا" متشددًا كل شكل من أشكال الإيمان.
وعلى أي حال فمن المؤكد أننا لا نستطيع في أي شيء المقارنة بين ابن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر وابن تيمية في القرن الثالث عشر، فالثاني يتفوق على الأول بما لا يقاس، وينبغي العلم بأن ابن عبد الوهاب لم يفعل إلا أن تلقى مقاطع متفرقة من عقيدة واسعة وقديمة، هي العقيدة الحنبلية. وكانت مليئة بالمناظرات والتأملات الفكرية الهامة، ولكن ماذا حصل لها مع ابن عبد الوهاب؟ لقد أصبحت المناظرة الفكرية مستحيلة مع حراس الإيمان الوهابي. وهكذا شهدنا على عكس ما نتصور ليس اتصالاً بالماضي الحنبلي الكبير وإنما قطيعة معه. كانت الوهابية بمثابة قطيعة مع الماضي لا عودة إليه. لقد اعتمدت على كتابات متأخرة تزعم الانتماء الى التراث الحنبلي الغني ولكن بعد تجميده وإفقاره وتفريغه من محتواه الفكري القديم. لقد استعادت الوهابية كل ذلك ضمن سياق الثقافة الشفهية للصحراء في القرن الثامن عشر، وبعد قرنين من ذلك التاريخ حصل التوسع الوهابي العالمي بفضل البترودولار المتراكم لدى النظام السعودي. وقد تم كل ذلك بتواطؤ من الولايات المتحدة الأميركية التي دعمت هذا التوجه السعودي الوهابي. ولو أن التيار الحنبلي السعودي ظل محصورًا بحراس الإيمان لبعض الدول المعنية (كمصر، وبلدان المغرب) لما استطاع تحقيق كل ذلك الانتشار التوسعي السياسي الإيديولوجي الذي توصل إليه مؤخرًا. أقصد لما استطاع أن يكتسح جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي المعاصر. وعلى هذا النحو أصبح البترول نقمة لا نعمة على تاريخ الإسلام والمجتمعات الإسلامية. وهذا الإسلام الحنبلي الوهابي أصبح يتدفق أكثر فأكثر على الغرب نفسه، وذلك لأن البلدان الديمقراطية الغربية استقبلت هذا الإسلام البترولي بالأحضان وكأنها تقول له: أهلاً وسهلاً بك، بل وراح الغرب يساعد الوهابية عسكريًا، كما حصل في أفغانستان مثلاً. لقد ساعدوها لدحر الشيوعيين وطردهم من البلاد، ولكن المشكلة هي أن هذا النوع من الإسلام يفعل ما يشاء، إنه يعذب النساء والأطفال وكل المعارضين المستنيرين، بل وصل به الأمر الى حد تفجير البرجين التوأمين بالطائرات في نيويورك صبيحة الحادي عشر من سبتمبر2011 برافو، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ ولكن هذه الضربة الرهيبة ما كانت مُبرمجة في المعاهدة الأميركية السعودية، ثم حصلت بعدئذٍ كل الانعكاسات والأحداث التي تعرفونها.
- يبدو أنك غير مقتنع بأنه يوجد هنا انجذاب ديني؟
لا، لأن هذا النوع من الإسلام مُتلقى من قبل أناس لا يزالون يعيشون مرحلة الثقافة الشفهية الى حد كبير (لا أحب القول بأنهم أميّون). وينبغي العلم بأن المشاكل التي نتحدث عنها هنا هي مشاكل الناس الحضريين، نحن الآن نمتلك رؤى جيوبوليتيكية معولمة أو بحجم العالم كله، ولكن ذلك غير معروف من قبل هؤلاء الناس، أي أغلبية المسلمين. وذلك لأن رؤياهم تظل محصورة بالتدين التقليدي. وهم مقتنعون تمامًا بأنهم اذا ما اعتنقوا الإسلام الوهابي فسوف يعيشون في طاعة كاملة لله ويحققون بذلك "قدرهم" كمؤمنين. لنضرب على ذلك مثلاً بنغلاديش، فالناس هناك يعيشون في حالة مرعبة من الفقر والجوع. ماذا يفعلون لهم؟ إنهم يمطرونهم بالبترودولارات السعودية لأجل بناء المساجد وتخصيص الرواتب للدعاة الذين تكمن مهمتهم في نشر الإسلام الوهابي.
- إذن فأنت لا تعترف بميزات كبيرة لعلماء الدين بغية المحافظة على إسلام المستقبل؟
هناك آية قرآنية تقول بأن العلماء هم أولئك الذين استبطنوا العلم القرآني الى درجة أنهم قادرون على الدفاع عنه وحفظه ونقله بكل اقتناع وإيمان.تقول الآية: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم"(العنكبوت.49). ثم جاء الحديث النبوي لكي يدعم مكانتهم العالية أكثر عندما قال بأن "العلماء ورثة الأنبياء". وهذه المكانة العالية اكتسبوها بفضل المعرفة التي يمتلكونها عن العلم الإلهي، ثم بفضل الوظيفة التي أُوكلت إليهم والمتمثلة بنقل هذا العلم لكي يغذّوا العقيدة ثم بشكل أكثر الأيمان. إنهم يمتلكون بكل وضوح مكانة الوسطاء والحافظين والمعلمين. ومن هذه الناحية فإنهم يختلفون عن مجرد الدعاة المبشرين بالدعوة. اللهم الا باستثناء الحقيقة التالية: وهي أن الوعظ أو التبشير يهيمن على التعليم الديني. أما لاحقًا فإن مكانتهم سوف تصبح متقلبة أو متغيرة طبقًا للظروف.فبعض العلماء من رجال الدين سوف يصبحون علماء حقيقيين، أي يحملون همّ المعرفة بشكل جاد؛ المعرفة الناتجة عن المناظرات والمجادلات المنطقية وليس فقط المعرفة الحفظية عن ظهر قلب. ىفعن طريق الأحاديث النبوية والآيات القرآنية والتفاسير التي يجتهدونها هم شخصيًا أو ينقلونها فإنهم يحملون ويوصلون مضمون الإيمان. وقد شهد التاريخ الإسلامي علماء كبارًا من أمثال ابن تيمية والطبري. وقد كان الطبري عالمًا مهمًا يعرف كيف يخلع على تشكيل الإيمان ديناميكية حيوية، وكيف يجعل منه سلسلة متواصلة، وكيف يبلور معقولية أو عقلانية مستمدة بالفعل مما ندعوه بالعلم بالمعنى العام للكلمة وليس فقط بالمعنى القرآني. وينبغي الاعتراف بأن العلم في العصور الوسطى، كعلم الطبري وابن تيمية وسواهما، كان ناتجًا عن التصور الأسطوري التاريخي، وليس عن المعرفة التاريخية المحضة كما نعرفها نحن اليوم. ولكن هذه مشكلة أخرى. كان العلماء آنذاك كبار بناة الإيمان ومشكليه. وكانوا في حالة بحث دؤوب عن العلم والمعارف المختلفة، وقد كرسوا حياتهم لنقل هذا العلم إلى الآخرين. وقد أدى عملهم وجهودهم الى تشكيل ميراث فكري لا يحق لأحد أن ينكر أهميته، كان ذلك بمثابة استثمار توظيفي للعقل بغية مرافقة الإيمان. إذا كان الإيمان، كما يقول الأب شينو، يكمن في فك لغز سر زمن التاريخ، في فهم التاريخية التي تفرض على إنسان الإيمان أن يستيقظ ويدمج في إيمانه عناصر جديدة طارئة ومستجدة، فإن هذا النوع من عمل الإيمان قد وجد في الإسلام أيضًا، وإن بدرجات متنوعة، وطبقًا للتيارات والمذاهب المختلفة.
ولكن هذه الديناميكية الحيوية التي شهدها الإسلام راحت تنضب وتتغير بدءًا من المنعطف التاريخي الحاصل بدءًا من القرن الثالث عشر حتى القرن الرابع عشر، عندئذٍ دخلنا في عصر الجمود والانحطاط وعندئذ شهدنا تشكل الحالة الإبيستمولوجية الجديدة، أي ظهور فئة "حارسي الإيمان" أو حارسي الاعتقاد الأرثوذكسي في كل فكر المجتمعات الإسلامية وثقافتها. وسوف نرى نتائجها وآثارها في نهاية القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولكنها سوف تتقلص أكثر فأكثر كلما اقتربنا من القرن العشرين. وهنا ينبغي أن نولي اهتمامًا خاصًا لمسألة التحقيب الإبيستمولوجي لتاريخ الفكر. يمكن لنا بالطبع، بل وينبغي علينا، أن نقيم تحقيبًا زمنيًا لتاريخ الإسلام كما نفعل بالنسبة لتاريخ المسيحية أو سواها، ولكن الشيء الأهم هو التحقيب الإبيستمولوجي أو تحديد أنواع الإبيستميه التي تعاقبت على تاريخ الفكر في الإسلام. أقصد تحديد مختلف أنواع أنظمة الفكر. هناك نظام فكري سائد منذ ظهور اللحظة القرآنية وحتى يومنا هذا، وذلك في صيغتها العقائدية الصلبة،ولكن الديناميكية تكون قليلة أو كثيرة طبقًا للفترات الزمنية، وبالتالي المولدة لعقلانيات مختلفة، وهذه هي الإبيستمية التي سادت القرون الستة الأولى من تاريخ الإسلام، والذي ندعوه بالعصر الذهبي الذي شهد تفاعل الفكر القرآني مع الفكر الإغريقي وبقية التراثات الأجنبية الأخرى. ولكن تلاه إبيستمية أخرى بعد الدخول في عصر الانحطاط، أي بعد القرن الثالث عشر أو الرابع عشر. وعندئذ أصبح الإبيستمية الإسلامية أو نظام الفكر الإسلامي متصلبًا أكثر ومثبتًا ومجمدًا بل ومتكلسًا محنطًا على عكس الفترة الديناميكية السابقة، لقد أصبح عبارة عن مرجعية تفرض نفسها على الجميع بشكل مسبق وإجباري بدون أي قلق فكري إبداعي وبدون الديناميكية التي كان يمكن للخطاب النبوي أن يخلعها عليه.أقول ذلك بشرط أن نعيد الصلة بالقرآن بشكل حيوي لا على هيئة التصنيفات الشكلانية الفهارسية التي فرضها عليه بعض علماء الإسلام (أفكر هنا بالسيوطي أو بالحاج خليفة اللذين ظهرا في بداية الخلافة العثمانية). فلا شيء أضافته المرحلة اللاحقة الى مكتسبات المرحلة الإبداعية السابقة فيما يخص المناظرات الخلافية المضيئة، أو الديناميكية الفكرية الحيوية، أو المراجعة النقدية للمسلمات العقائدية القرآنية.
- لماذا تنتقد الكتاب الأكاديمي العلمي الذي تمسكه بين يديك الآن؟
مؤلفو الكتاب الذي أنتقده هم بروفيسورات بالمعنى الأنغلوساكسوني للكلمة؛ أي أساتذة جامعيون أكاديميون،أو علماء يواصلون التراث الفكري لمجلة آرابيكا التي أشرف عليها في السوربون. وقد تم نشر عدد كبير من المؤلفات بعنايتهم وتحت إشرافهم. وهي مؤلفات ينبغي "تفكيكها"، ومساءلة خطاباتها، أي الكشف عن الابيستميه أو الإبيستمولوجيا التي يمارسونها أو لا يمارسونها. وأقصد بها الإبيستمولوجيا الاستشراقية التقليدية في الواقع. فهي المتبعة هنا في هذا الكتاب الإنكليزي، وهي أيضًا بحاجة الى تفكيك مثل الخطابات الإسلامية. لنسجل منذ البداية ملاحظة هامة هي: كل المؤلفين العرب أو المسلمين الذين اختيروا وحللت أعمالهم المكتوبة في هذا الكتاب تم شرحهم والتعليق عليهم بطريقة كرونولوجية، أي متسلسلة زمنيًا، وذلك بالعلاقة مع الأحداث السياسية للمجتمعات التي ينتمون اليها، ولكن مؤلفي هذا الكتاب الأنغلو ساكسوني لا يتساءلون في أي لحظة من لحظات التأليف عن أنماط الإيمان ومستوياته وتحولاته، أقصد الإيمان الذي حافظ عليه حراس الإيمان أو المُعتقد بأنهم قد حافظوا عليه. إن هؤلاء المستشرقين المستعربين لم يقوموا بأي تحليل للإبيستمولوجيا التي تقبع خلف مؤلفات المفكرين المسلمين المدروسين. ولا أحد يتساءل عما حصل للفكر العقلاني الإسلامي في الفترة المتأخرة (أي منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم)، لا أحد يتساءل عن تطوره، أو بالأحرى عدم تطوره، ولا أحد يطرح السؤال التالي: لماذا توقف الفكر العلمي والعقلاني في العالم الإسلامي إبان تلك الفترة؟ كل شيء يحصل كما لو أن هؤلاء الباحثين الغربيين يقولون: هذه ليست "وظيفتنا"، أو هذه ليست مهمتنا.
فنحن كباحثين غربيين لا يحق لنا أن نزعزع إيمان المسلمين،أو أن نقدم تأويلات جديدة بغية محاولة إضاءة إيمان المسلمين. فالإيمان الإسلامي ينبغي أن يبقى بمنأى عن التحليل النقدي المضيء الذي يجريه المسيحيون على إيمانهم الخاص بالذات. إن هؤلاء الباحثين الغربيين يرفضون أشكلة الأطر المعرفية التي يعبر الإيمان الإسلامي عن ذاته داخلها، كما يرفضون أشكلة هذا التدين الشعبوي السائد حاليًا، والذي يستمر في تسمية نفسه بالإيمان. أقصد بالأشكلة نزع البداهة عن هذه الأطر المعرفية وذلك التدين الشعبوي وتفكيكهما عن طريق تطبيق المناهج الحديثة عليهما. وهذا ما لا يفعله مؤلفو الكتاب، وعليه فدراستهم تظل وصفية خارجية باردة، وأكاد أقول بأنها تظل سطحية.
والواقع أن هذه المنهجية التساؤلية التفكيكية الحديثة، التي أدعو إليها، لا تهم أي واحد من مؤلفي هذا الكتاب الأميركي، ولاتهم الاستشراق عمومًا، وهذه ظاهرة مستمرة منذ القرن التاسع عشر، والأمر نفسه ينطبق على أبحاث العالم الألماني جوزيف فان ايس الذي أعرفه جيدًا والذي هو مؤلف ذلك المرجع الكبير الأساسي تحت عنوان:علم اللاهوت والمجتمع. إنه يطبق فيه منهجية الأطر الاجتماعية للمعرفة على تأويلات اللاهوت الإسلامي بين القرن الأول والقرن الثالث، وطرائق فهمه وتطبيقاته المختلفة. وهو يدرس هذا اللاهوت في إحدى لحظاته الحاسمة، في لحظة تشكله الأولى. ولكن على الرغم من عظمة هذا الكتاب الألماني الضخم وأهميته إلا أن المؤلف لا يشعر بأنه مسموح له بأن يقول كل ما كان يمكن أن يقوله، وذلك لأنه ليس مسلمًا، فيشعر بالحرج من التدخل أكثر من اللازم في الشؤون العقائدية الإسلامية. ولكن إذا كان عالم كبير في حجمه وطرازه، عالم يحظى بإعجاب الجميع نظرًا لجهوده وتفانيه، يرفض توصيل المعرفة التي اكتشفها خشية زعزعة إيمان المسلمين فمن سيفعل ذلك؟ ربما قال بأن هذا احترام "مسيحي"، ولكن هذا التحفظ هو في الواقع من طبيعة فكرية أيضًا. وجوزيف فان ايس هو أنموذج نمطي على هذا الصعيد، أي أنموذج تمثيلي للاستشراق الكلاسيكي كله. فهو يكتفي بالدراسة الوصفية الحيادية رافضًا تجاوزها الى ما بعدها والانخراط الكامل في الموضوع وإيجاد حلول فكرية لاهوتية لمشاكل المسلمين الملحة والحارقة، وهذا شيء مؤسف جدًا في الواقع لأن المسلمين أنفسهم عاجزون عن إنجاب علماء نقديين كبار من الداخل لكي يشخصوا مشاكلهم بشكل صحيح ويحلونها. فمن سيحلها إذن؟ ينبغي الاعتراف بأن الإسلام لا ينجب حتى الآن مفكرين نقديين كأولئك اللاهوتيين الكاثوليكيين والبروتستانتيين الكبار الذين أنجبتهم المسيحية الأوروبية والذين جددوا مضمون الإيمان المسيحي منذ القرن التاسع عشر بل وقلبوه رأسًا على عقب. نحن في الجهة الإسلامية ليس عندنا إلا الاستمرارية التواصلية الاجترارية المخيبة للعلماء التقليديين الذين فقدوا حتى الرغبة في المناقشات والمناظرات. أقول ذلك على الرغم من أن المناظرات الخلافية كانت قد صنعت مجد الإسلام الكلاسيكي في عصره الذهبي. كل هذا التجديد الملح والعاجل لا يعني شيئًا بالنسبة لعلماء الدين المسلمين الحاليين. إنهم يواصلون اليوم كما في الأمس عملية التكرار والاجترار والانقطاع عن حركة العلم والمعرفة الحقيقية. وينبغي العلم بأن القطيعة بين هؤلاء العلماء (بالمعنى الديني التقليدي لكلمة علماء وليس بالمعنى الحديث) والعلوم الاجتماعية منذ القرن التاسع عشر تظل مطلقة وكاملة. فهم يجهلون مناهجها ومصطلحاتها الفعالة وأدواتها البحثية الرصينة. إنهم غير مطلعين على الحداثة الفكرية أبدًا كما ذكرت آنفًا، إنهم مستمرون على انغلاقهم الفكري واللاهوتي بل ومتشبثون به كل التشبث، إنهم منغلقون داخل نفس المسلمات القرآنية القديمة التي لم تتزحزح عن مواقعها قيد أنملة. لقد فقدوا كل احتكاك بالديناميكية الحيوية الخاصة بالخطاب النبوي والقرآني، وفقدوا بنفس القدر كل تلك الرؤيا الواسعة سياسيًا وعلميًا للقرون الوسطى الكلاسيكية أو قل للعصر الذهبي المجيد للحضارة الإسلامية، إنهم مجرد استمرارية لعصر الانحطاط. وينبغي العلم بأن عصر الانحطاط كما يدعوه باحثونا المعاصرون من أمثال: حمادي الرديسي، وعبد المجيد الشرفي، وعبده فيلالي الأنصاري، ينحصر بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. ولكنه لا يزال متواصلاً حتى الآن فيما يخص علم الدين ورجال الدين. وفي هذا العصر الانحطاطي والتكراري الاجتراري أصبحت البلورات الفلسفية واللاهوتية التجديدية معدومة، واليوم نلاحظ أن علماء الدين المسلمين يجهلون المؤلفات الفلسفية الحديثة أو حتى القديمة، إنهم يجهلون الفلسفة كليًا.
- هل حصل لك أن التقيت بالدعاة المسلمين وتناقشت معهم؟
نعم، بالطبع. لقد التقيت ببعضهم، ولكن لا توجد أي إمكانية للنقاش، فأنا أتحدث بالضرورة مستخدمًا أدوات المؤرخ الحديث ومناهجه. كما أستخدم أدوات النقد الأنثربولوجي ومصطلحاته، وكذلك أدوات التحليل الألسني والسيميائي للخطاب اللغوي، وكلها أشياء يجهلها هؤلاء الوعاظ والدعاة كليًا، فكيف يمكن أن نتناقش؟ على أي أساس؟ لا توجد أرضية مشتركة بيننا، وبالطبع أنا أستطيع أن أفهمهم، أو أعرف من أي موقع يتحدثون وعمّ يتحدثون، ولكن العكس ليس صحيحًا. فهم لا يستطيعون أن يتفهموا مواقعي الفكرية، وبالتالي فالنقاش ليس فقط مستحيلاً بل إن موقفي مرفوض كليًا بشكل مسبق. إنه ليستحيل علي أن أعالج أي موضوع فكري أو أن أستخدم أي محاجة فلسفية عندما ألتقيهم، وذلك لأنهم يجهلون بكل بساطة عمّ أتحدث بالضبط.لا يمكن أن تتناقش معهم إلا بعد أن تعلن بشكل مسبق إيمانك العقائدي الأرثوذكي بمسلمات جاهزة لا تقبل النقاش(أي المقولات اللاهوتية التقليدية عن كيفية تشكل القرآن والتراث. ينبغي أن تعلن انتماءك الى مقولة الحنابلة بخصوص القرآن وتعلن رفضك لمقولة المعتزلة وإلا كفروك. ).هذا بالاضافة إلى المعتقدات أو المسلمات اللاهوتية الأخرى، إذا لم تعلن إيمانك بكل ذلك مسبقًا فإن أحدًا لن يستمع إليك ولن يعير كلامك أي اهتمام، وحتى مع شخص كطارق رمضان يبدو التواصل(بالمعنى القوي والحقيقي للكلمة) شيئًا مستحيلاً، إنه ذكي، ونحن نتحدث معًا بشكل مسالم وهاديء (أو بالأحرى إني أستمع إليه يتحدث) لأننا نعيش في بلاد ديمقراطية(على الأقل في فرنسا)، ولكن المسلمات اللاهوتية التقليدية تسيطر على عقله إلى درجة أن كل إمكانياتي البيداغوجية في الشرح وكل صبري على النقاش لا يؤديان الى أي نتيجة لديه. لقد ألف كتبًا عديدة عن حياة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والاصلاح الضروري للإسلام، ولكن مع الخضوع الكامل للمسلمات التقليدية لعلماء الدين، أو "لحراس الإيمان"، ولكن لنعترف له بأن معجمه اللفظي أكثر حداثة،وأفضل من المعجم الذي يستخدمه داعية مشهور كعمرو خالد مثلاً، فهذا الأخير يخاطب الجمهور بلهجة انفعالية عاطفية جياشة بشكل كامل. وهو يفعل ذلك لكي يثير بكاء الجماهير ويقنع النساء باعتناق الإسلام ولبس الحجاب...الخ، إن هؤلاء الدعاة يقومون بوظيفة اجتماعية ذات انعكاسات سياسية ونفسانية تؤدي الى اعتناق بعض الأجانب دين الإسلام، ولكنهم شكلوا السجن العقائدي واللاهوتي الكبير الذي نعيش داخل جدرانه منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين. ينبغي العلم بأن المسلمين يعيشون داخل سجن لاهوتي ولا أحد يستطيع الخروج منه.
- ما الذي تنتظره من قراءة أعمالك أو مؤلفاتك؟
أتمنى أن يطلع الأوروبيون على أفكاري ومؤلفاتي ويأخذوا منها علمًا لكي يصححوا سياستهم تجاه، ليس فقط الإسلام كدين، وإنما تجاه المجتمعات الإسلامية ذاتها، وتجاه بلدان كالجزائر مثلاً أو تونس أو المغرب. أتمنى أن يُدخلوا في برامج التعليم للثانويات والمدارس عمومًا ليس فقط الوقائع والأحداث عن تاريخ الإسلام (كما يفعل الأكاديميون الأمريكيون هنا) وإنما أيضا التحليل المعمق كما أفعل أنا هنا. وآمل أن يدرّس ذلك أساتذة محترفون ومدربون جيدًا بدءًا من المدرسة الابتدائية أو الإعدادية، وطلبي هذا موجه إلى المدارس العامة كما الخاصة، وبالأخص إلى المدارس المسيحية. لماذا أبتدئ بتوجيه النداء الى أوروبا؟ لأني يائس من وضع البلدان الإسلامية بكل بساطة، على الأقل في المدى المنظور. وذلك لأنه حتى في البلدان الأقل طائفية من الدول الإسلامية، فليس نفوذ العلماء التقليديين في حالة تزايد فحسب، بل نفوذ المرابطين كذلك. ينبغي العلم بأن ستين في المئة من سكان العالم الإسلامي هم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة، فماذا نستطيع أن نطلب منهم إذن؟ هناك جهل معمم ومنشور في كل مؤسسات التعليم وسواها داخل المجتمعات العربية والإسلامية، ونحن عاجزون عن مكافحة تأثير المؤسسات الجاهلة أو التي تنشر الجهل على أوسع نطاق من البيت الى المدرسة الى الجامع الى الجرائد والراديو وحتى الفضائيات. على أي حال فإنه فيما يخصني لم أعد أشعر بأني قادر على مواجهة كل ذلك، فقد ناضلت بما فيه الكفاية على مدار حياتي السابقة وأعتبر أني أنجزت العمل الذي كان ينبغي علي أن أنجزه.