"قراءات في القرآن".. من الاجتهاد إلى نقد العقل الديني
الأربعاء 14/سبتمبر/2022 - 01:13 م
طباعة
حسام الحداد
الكتاب: قراءات في القرآن
المؤلف: محمد أركون
الناشر: د ار الساقي
صدر كتاب "قراءات في القرآن" للمفكر العربي محمد أركون للمرة الأولى عام 1982، هو أساسي في تاريخ مسار أركون الفكري، إذ يعتبره بمنزلة البذرة الأولى التي صدرت عنها كل مؤلفاته اللاحقة، وقد كرس أركون السنوات الأخيرة من حياته لتعديله ولتنقيحه ولإغنائه.
وقد اعتبرت دورية "عالم الأديان" الفرنسية هذا الكتاب، بمثابة "الوصية الفكرية الأخيرة لمحمد أركون". من حيث تناوله الموضوعات الأكثر حساسية وأهمية كالشريعة ووضع المرأة في المجتمع الإسلامي.
يستدعي محمد أركون في هذا الكتاب كل إمكانات علوم الألسنيات الحديثة والدلالات السيميائية وتاريخ العقليات والاجتماع، بغية تفكيك الخطاب التقليدي الموروث عن القرآن. كما يتطرق إلى الموضوعات الأكثر حساسية وأهميتها اليوم: مكانة الكتاب المقدس بصفته كلام الله، الشريعة ووضع المرأة في المجتمع الإسلامي، الجهاد، الإسلام السياسي... إلخ. ويثبت خلال ذلك كله أن كل قراءات القرآن وتفاسيره هي بالضرورة "تركيبات بشرية".
منطق الصراع
ولا شك ان محمد أركون في كتاباته يجمع في نقده للباحثين في الدين الإسلامي وغيره من الأديان، في عدم تجرؤهم على استخدام المناهج العلمية الحديثة، التاريخية والاجتماعية والنفسية واللسانية .. في قراءة النص الديني، مما جعلهم أسرى مناهج تمت إلى قرون سابقة، ولا تساعد في فهم النص وتأويله والاجتهاد في شأنه. في قضية مركزية، تعتبر قضية القضايا في كل دين، وهي المتصلة بالوحي، يرى أركون أن الخطابات الإنشائية تتحكم في كتابات الباحثين. هناك ثابت لدى كل دين، وخصوصا التوحيدية منها، يتمركز فيه التفكير الدوجمائي المنغلق داخل إطار الأنظمة اللاهوتية الأرثوذكسية، والتي ترى في كل دين من أديانها حامل الوحي ومحتكره والممثل لدينه في وصفه الدين الحق. فاليهود يرون أن الوحي انتهى مع موسى، وأن الله صنفهم “شعب الله المختار”. ويقول المسيحيون إن الوحي انتهى مع يسوع المسيح الذي هو الله نفسه مجسدًا في إنسان، وأن المسيحية هي الدين الحقيقي ودين الخلاص للبشرية. أما الإسلام فقد كان أصرح من سابقيه، بحيث يعتبر أن الدين عند الله الإسلام، وأن محمداً كان خاتم الأنبياء، وأن أتباعه “خير أمة أخرجت للناس”. واستنادا إلى هذا الاحتكار للسماء، بات كل دين ينظر إلى الآخر بمنطق المنحرف والمقيم في الضلال، بكل ما يعنيه ذلك من بناء أبراج من الكراهية بين الشعوب وما يتبعها من صراعات باسم الدين.
تغييب العقل
ومن وجهة نظر محمد أركون أن أحد المشكلات الكبرى عند المسلمين، تكمن في تغييب العقل ومناهجه عن فهم الدين، في عقيدته ونصوصه، وفي طقوسه وكيفية ممارستها وطغيانها على الجوهري في الدين. إن العقل المنفتح، الرافض للتحجر والدوجمائية، وتوظيفه في قراءة النص، هو مدخل أساسي في فهم الدين. والفكر الإسلامي خسر كثيرا عندما أخرس صوت المعتزلة وكفر أطروحتهم الخاصة بالقرآن، خصوصا أنهم “ميزوا الجانب المتعالي غير المكشوف ولا المعروف في كلام الله عن الجانب المعروف المتجلي والمخلوق في كلام الله”.
خطاب الجهاد
يؤكد محمد أركون في كتابه هذا أن قراءة القرآن والغوص في معانيه تكتسب أهمية كبيرة في المرحلة الحالية من تطور المجتمعات الإسلامية. فمن المعلوم أن المسلم يمارس الاستشهاد بالقرآن في حياته اليومية، كما يتضرع ويبتهل إلى الله يومياً، من دون أن يعني ذلك أنه “يشغل فعلاً وظيفة الذروة العليا للسيادة الإلهية المستقلة”. والأخطر في كيفية التعاطي مع القرآن ما تشهده الساحة الإسلامية من استخدامه من قبل التنظيمات المتطرفة ومن الأنظمة السياسية على السواء. خلال العقود الأخيرة، طغى خطاب إسلاموي يرمي إلى استعادة الجهاد من أجل إعادة الخلافة الإسلامية إلى الوجود، واستعاد هذا الخطاب مقولات تنظيم الإخوان المسلمين ونظريتهم في استخدام العنف من أجل تحقيق الدولة الدينية. وبات كل طرف يقرأ النص القرآني وفق مصالحه، وبما يعطي مشروعية لعملية القتل والإرهاب باسم الدين الإسلامي. يوفر النص لهذه المجموعات المادة الملتهبة التي يستندون إليها، انطلاقاً من اعتبارها أن النص المقدس صالح لكل زمان ومكان، وأن ما ورد فيه يفرض على المسلم التزامه. والنص المقدس يضم آيات القتال التي نزلت في ظروف تاريخية معينة خلال مرحلة الدعوة، وباتت متقادمة مع الزمن، ولا يمكن الاستناد إليها في تبرير ممارسة الإرهاب باسم الإسلام. يعزز من هذه النظرة موقف المؤسسات الدينية ورجالاتها الذين يرفضون دائماً استخدام المنهجية التفكيكية والتاريخية والألسنية والاجتماعية والأنتروبولوجية للعقيدة الإسلامية، التي يرونها مفروضة من الله ، مقدسة ومعصومة ويستحيل تغييرها أو تطويرها. فهي وجدت من الأزل، ومستمرة إلى الآن، وكل حرف فيها مقدس ومسلّم به تسليما.
لعل المفارقة اليوم لدى المسلمين، أن المنتشر والسائد في الخطاب الإسلامي هو كلمة “إسلام” وليست كلمة “الله”، على عكس ما ينص عليه القرآن، حيث وردت كلمة الله في النص 1697 مرة، فيما وردت كلمة إسلام 6 مرات فقط. لقد تضاءلت أهمية القرآن بالقياس إلى ما يمثله من مشروعية دينية، لصالح تفسير حرفي دوجمائي وتبسيطي هو الأكثر فساداً وإفساداً للعقل السليم. نزع المتطرفون عن الإسلام جوهره الصحيح والحنيف، وبات النص مدار تلاعب وتفسيرات عشوائية، يمكن تلمسها في النتاج الضخم الذي تفرزه هذه التنظيمات، التي تنال احتضان المؤسسات الإسلامية إلى حد بعيد. مما جعل العالم العربي والإسلامي يعيش تحت انقاض هائلة في الميادين الفكرية والروحية والأخلاقية والثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية.
منهج أركون
ولصعوبة فهم القرآن بسبب طريقته الخاصة في تقديم أفكاره، واستخدامه غير المعهود للخطاب والأوامر، بل وكثرة تلميحاته الأسطورية والتاريخية والجغرافية والدينية. ولهجة التحدي العنيفة واضحة في الوحي كل الوضوح تجاه الأديان التوحيدية الأخرى، أي اليهودية والمسيحية. وهو أمر يفرض إخضاع النص القرآني إلى التفحص النقدي القادر على تبديد كل أنواع الغموض والالتباسات. يحدد أركون أهم عناصر منهجه بالقول: “بدلاً من التركيز على الوحدات النصية المفردة المعزولة، من الأفضل أن نركز على النص ككل على أساس أنه نظام من العلاقات اللغوية الداخلية المترابطة… إذا ما اكتشفنا كل العلاقات اللغوية الداخلية التي تشكل النص القرآني، فإننا نكتشف أيضاً بنية اللغة العربية والديناميكية الخاصة بها.. لا ينبغي أن نسقط المعاني الحالية للكلمات على معانيها في القرآن. ينبغي أن نقرأ القرآن قراءة تزامنية في عصره. ينبغي أن نتموضع في عصره وننسى عصرنا تماماً لكي نفهمه على حقيقته.. إن الوحي يطبع بطابعه أشياء هذا العالم عن طريق الإيحاء للإنسان بوجود شيء اسمه السر المجهول (الغيب)، وعن طريق الكشف له عن ظروف الحياة الأخرى (الآخرة)، وعن طريق إظهار بدائع السماوات والأرض له”.
ويعتبر أركون أن الصحة الالهية للقرآن تشكل أحد المواضيع الاستراتيجية والأساسية التي ينبغي الاهتمام بها من أجل تأسيس فكر خلاق ومبدع عن مفهوم الدين ودلالته ومعناه. وبالنظر إلى ضياع الوثائق الأساسية والضرورية للوصول إلى معرفة دقيقة وصحيحة بالقرآن، فإن التوصل إلى المعنى التاريخي الكامل للعبارات اللغوية للقرآن تبدو شبه مستحيلة. يزيد الأمر صعوبة أن قادة الحركات الإسلاموية يجرون النص نحو الاستخدامات السياسية المؤدلجة، ولا يدخل في همومهم التوصل إلى معرفة علمية ودقيقة بالقرآن. لذا، ولكي نفهم القرآن جيداً، نحن بحاجة إلى إنجاز معجم لفظي شامل للغة العربية القديمة جداً، أي اللغة التي كانت سائدة لحظات نزول القرآن، بل للفترات السابقة على هذا النزول.
من الاجتهاد إلى نقد العقل الديني
في حديثه عن الانتقال “من الاجتهاد إلى نقد العقل الديني”، يشير أركون إلى بعض المحددات السياسية التي ساهمت في نقل الإسلام من الموقع الديني إلى الموقع السياسي. في طليعة الحركات كان الإخوان المسلمون أكثر من ورّط الإسلام في المعركة السياسية الدنيوية. ثم أتت هزيمة حزيران 1967 لترفع من شأن الإسلام السياسي الذي قدم شعاره “الإسلام هو الحل” جواباً على فشل الأنظمة العربية وهزائمها لأنها تخلت عن الإسلام. وأكملت الثورة الإيرانية هذا المسار وبشكل فج، عبر الادعاء بإقامة دولة دينية وفق ما طالب به القرآن، فيما أنتجت الثورة نظاماً استبدادياً يقوده الملالي، ويوظفون الدين في خدمة سلطاتهم الطاغية. نجم عن ذلك مصادرة الإجتهاد في وصفه فعالية فكرية عالمة أو نخبوية، سواء من قبل الأنظمة الحاكمة أو مؤسساتها الدينية. وانتشر علم أصول الدين وعلم أصول الفقه الذي عزز مزاعم الفقهاء بإمكانيتهم سن قانون إلهي وفرض الأرثوذكسية العقائدية. هذه الأرثوذكسية اعتبرت نفسها المسؤولة عن التفسير الصحيح والمستقيم للنصوص المقدسة، والنظر إلى ما عداه بأنه هرطقة وضلال. لم يطل الوقت ليظهر أن هذا الخطاب المستند إلى تسييس الدين هو “أبعد ما يكون عن اللاهوت الحديث المؤسس والمعاش بصفته إيماناً حياً موضوعاً على محك الزمن، أي على محك التاريخية للعقل والقيم”. أي بمعنى إخضاعه للتحول والتطور، أي تحول القيم وتغيرها بتغير العصور والأزمان. فما كان محظوراً سابقاً قد يصير مباحاً حالياً. أما الإيمان فيبقى، لكنه أيضاً يتخذ تجليات مختلفة ومتحولة بتجدد العصور.
على امتداد القرون الماضية، وخصوصاً في العصر الحديث، سعى الفقهاء إلى إنتاج فقه يتناول الدين والمجتمع طبقاً لمثال الإسلام. أنتج الفقه اللاهوتي نصوصاً اعتبرها مقدسة، ففرضها على السلوك البشري للمسلمين وعلى تفكيرهم وخيالهم. دعّم علم أصول الفقه الفكرة القائلة أن المجتمع لا يمكنه أن يحسم بنفسه أي شيء من الأشياء الخاصة المتعلقة بوعي الفرد وسلوكه، إنما الله هو الذي يقوم بذلك. من هنا، ومن أجل إصلاح المجتمع المهدد دوماً بالقصور أو الانحطاط، فمن الضروري العودة إلى الأشكال الأصلية للحقائق التي علمنا إياها الله والنبي وطبقاها. مما يعني بكلام أصرح، أن الموقف الإصلاحي للإسلام يكون في العودة إلى الوراء لا في التقدم إلى الأمام. هذا الموقف الإسلامي من مسألة الروباط بين الدين والمجتمع، يبدو إما مثالياً تجريدياً، وإما براغماتياً تبعاً للحالة والحاجة. فالمجتمع وتاريخه ينتجان عن الدين الذي أرسله الله وعلمه للبشر وليس العكس. وما انتعاش القانون الديني المسمى الشريعة في العصر الحديث، سوى الشاهد على مدى قوة تغلغل القوالب التقليدية في ممارسة الأفراد والشعوب التي تعتنق الدين الإسلامي.