«الدسوقي».. شيخ الإسلام في عصر الظاهر بيبرس
السبت 30/يونيو/2018 - 02:52 م
طباعة
في قرية «سنهور المدينة»، التابعة لمركز «دسوق»، بمحافظة كفر الشيخ، في دلتا مصر، وتحديدًا في القرن السابع الهجري، عاش أحد علماء الصوفية، من أصل مغربي، وكان هذا العَالِم، كلما مرَّ عليه أحد الرجال، همَّ بالوقوف احترامًا له، وبعد فترة انقطع العالم المغربي، عن قيامه للرجل، وحين سأله البعض عن السبب، قال إن وقوفه لم يكن للرجل نفسه، ولكن لِوَلِي سيأتي من ظهره، وانتقل الآن إلى زوجته (تشبيه لعملية التخصيب، من الزوج إلى زوجته).
العالم المغربي هو محمد بن هارون، أما الرجل فكان عبدالعزيز أبوالمجد، والد القطب الصوفي الشهير إبراهيم الدسوقي، رابع أقطاب الصوفية، الذي بشَّر محمد بن هارون بمولده، والذي أسس الطريقة «الدسوقية» أو «البرهانية»، (إحدى الطرق الممتدة في البلدان العربية).
ولد إبراهيم الدسوقي، بمدينة دسوق (1)، في عام 1255 تقريبًا، لأبٍ من نسل الحسين بن علي، حفيد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمٍّ، هي «فاطمة» ابنة الزاهد العراقي «أبوالفتح الواسطي» التلميذ الأقرب للقطب الصوفي أحمد الرفاعي (مؤسس الطريقة الرفاعية).
وترصد السير المنقولة عن حياة الدسوقي، علاقة تربطه بالقطب الصوفي المغربي، أبوالحسن الشاذلي، وفي ذلك يقول هو نفسه: «أنا فككت طلاسم سورة الأنعام، التي لم يقدر على فكِّها الشاذلي خالي».
كذلك تواصل الدسوقي مع القطب الصوفي «أحمد البدوي»، المغربي الذي سكن مدينة طنطا، في دلتا مصر، وأسَّس بها «الطريقة البدوية» (إحدى الطرق الصوفية الرئيسية في مصر)، ويُنقل عن «البدوي»، رسالة بعث بها إلى الدسوقي قال له فيها: «أما سمعت وعلمت أننا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا! أما سمعت وعلمت أن الله خير الدنيا والآخرة على من يفرق بيننا! أما سمعت وعلمت أن الله لعن من يقول، هذا على طريقة وهذا على طريقة».
يرفض الملبس الخشن
على عكس الصورة النمطية عن التصوف؛ رفض الدسوقي، ربط الصوفية بالملبس الخشن، فيقول: «ليس التصوف لبس الصوف، وإنما الصوف من بعض شعار التصوف، فإذا وصل الصوفي إلى حقيقة التصوف المعنوي، لا يرضى بلبس ما خشن؛ لأنه وصل إلى مقامات اللطافة».
وفي موقع ثانٍ يحدث الدسوقي، أحد محبيه قائلًا: «يا ولدي البس قميص الفقر النظيف الظريف، فما الأمر بلبس الثياب، ولا بسكنى القباب ولا بلبس الصوف، إنما الفقر أن تخلص عملك بقلبك»، متشبهًا في ذلك بالشاذلي الذي أوصى أتباعه باتقاء الله بالقلب لا بالزي.
ويتسق ذلك مع المنهج الذي وضعه الدسوقي، واختصره في الالتزام بالشريعة الإسلامية، والتأدب بآدابها، حتى إنه اشترط العلم بأمور الشرع، للالتحاق بطريقته، حتى لا يكون هناك مجالٌ للبدع، ويعتمد منهجه على «الذكر الجهري»(2)، ولزوم الجد في الطاعات، وبذل المجهود في الرياضات حتى يفتح الله على المُريد.
وعلى عكس الصورة المأخوذة عن الصوفية، بكونها دافعًا للتكاسل والتبلد، دعا الدسوقي أصحابه للعمل واحتراف المهن، حتى يقال إنه كان يعمل في تشكيل الفخار، وصُنع الحصير، إلى جانب دوره الصوفي.
وعلى هذا المنهج جاءت الطريقة الدسوقية، التي تولى شأنها عقب وفاته، شقيقه شرف الدين أبوالعمران، ومن ثم قام الأخ بالتنقل بين مدينتي دسوق، والإسكندرية، للقيام على تربية التابعين، حتى توفي في عام 1338، تقريبًا، ودفن إلى جوار أخيه إبراهيم بمحل ميلادهم بدسوق.
وتُمثل الدسوقية إطارًا يحتوي بداخله أكثر من طريقة في مصر، والسودان بشكل خاص، والطرق هي: (الشهاوية، والشرنوبية، والعاشورية، والتازية).
الكرامات «المعجزات»
يُروى عن الدسوقي، كرامات (أمور خارقة للعادة)، حتى إنه لقب بـ«برهان الله»، لذا تُسمى طريقته «البرهانية»، ويقول عن نفسه في كتاب «الحقائق» إنه صام وهو في المهد، ويشرح ذلك بأنه ولد ليلة استطلاع هلال شهر رمضان (شهر الصيام في الشريعة الإسلامية)، وتقول أمه إنه ترك ثديها، ولم يرضع منه، منذ طلوع الفجر وحتى أذان المغرب.
وتُضافُ إلى كراماته، إقامته داخل خلوة لمدة عشرين عامًا، لم يخرج منها، إلا عند وفاة والده لتوديعه ودفنه، وحينما انتهى، وهمَّ بالعودة إلى الخلوة، أقسم عليه الناس ألَّا يعود.
ويعترف الصوفية بأن تراث الدسوقي ليس كثيرًا، ولا يُعرف ما إن كان قليلًا فعلًا أو إنه تعرض للتلف بفعل الزمن، إلا أن ما ينسب له اليوم بشكل مؤكد بعض الأشعار، وكتب: «فقه السادة الشافعية»، «الجوهرة»، «برهان الحقائق».
كُلف الدسوقي، في عصر الظاهر بيبرس (أحد حكام مصر في القرن 13 الميلادي)، بمنصب شيخ الإسلام، وهو أعلى منصب ديني في هذا الوقت، وقضى حياته في تربية مريديه، إلا أنه تُوفي في 1297م ودُفن في زاوية صغيرة، باتتْ اليوم أحد أكبر مساجد مصر، مسجد «إبراهيم الدسوقي».
ويقام لـ«الدسوقي» مَولِدان في كل عام، أحدهما في أبريل، ويسمى بـ«الرجبي» نسبة لشهر رجب في التقويم الهجري، والثاني في شهر أكتوبر بالتقويم الميلادي، ويجذب حوالي مليون متصوف، بعضهم من داخل مصر، وآخرون من بلدان عربية.
ورغم المكانة، التي يحظى بها في نفوس المتصوفة، وحرصه على أمور الدين، فإن هناك انتقادات طالته، وطالت طريقته، بعدما نسب إليها من «تجاوزات»، فعلى سبيل المثال هاجم الأزهر الشريف (المؤسسة الدينية الأولى في العالم الإسلامي)، الطريقة رغم موقفه الداعم للصوفية، متهمها بأنها تحمل بعض الأفكار الدافعة بشكل صريح نحو الكفر بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدينة مصرية تُلقب بـ عروس النيل، تقع في أقصى شمال مصر، والمدينة قاعدة مركز دسوق وعاصمة منطقة غرب بمحافظة كفر الشيخ، تبلغ مساحتها 11.76 كم²، بلغ عدد سكانها 135.336 نسمة عام 2016، وتقع أقصى شمال الدلتا، وتطل على فرع رشيد، أحد فرعي نهر النيل وتبعد عن العاصمة المصرية القاهرة مسافة 167 كيلومترًا جهة الشمال، وعن مدينة الإسكندرية 85 كيلومترًا جهة الشرق.
(2) من أنواع العبادات الإسلامية، والتي تعتمد على ذِكر الله، والمبدأ الأساسي له هو إما ذكر إحدى صفات الله، وإما إنشاء الثناء لذكر الله، ويُعد من أيسر العبادات، كما يشبه العلماء حاجة العبد للذكر كحاجته للغذاء والنوم.
العالم المغربي هو محمد بن هارون، أما الرجل فكان عبدالعزيز أبوالمجد، والد القطب الصوفي الشهير إبراهيم الدسوقي، رابع أقطاب الصوفية، الذي بشَّر محمد بن هارون بمولده، والذي أسس الطريقة «الدسوقية» أو «البرهانية»، (إحدى الطرق الممتدة في البلدان العربية).
ولد إبراهيم الدسوقي، بمدينة دسوق (1)، في عام 1255 تقريبًا، لأبٍ من نسل الحسين بن علي، حفيد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمٍّ، هي «فاطمة» ابنة الزاهد العراقي «أبوالفتح الواسطي» التلميذ الأقرب للقطب الصوفي أحمد الرفاعي (مؤسس الطريقة الرفاعية).
وترصد السير المنقولة عن حياة الدسوقي، علاقة تربطه بالقطب الصوفي المغربي، أبوالحسن الشاذلي، وفي ذلك يقول هو نفسه: «أنا فككت طلاسم سورة الأنعام، التي لم يقدر على فكِّها الشاذلي خالي».
كذلك تواصل الدسوقي مع القطب الصوفي «أحمد البدوي»، المغربي الذي سكن مدينة طنطا، في دلتا مصر، وأسَّس بها «الطريقة البدوية» (إحدى الطرق الصوفية الرئيسية في مصر)، ويُنقل عن «البدوي»، رسالة بعث بها إلى الدسوقي قال له فيها: «أما سمعت وعلمت أننا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا! أما سمعت وعلمت أن الله خير الدنيا والآخرة على من يفرق بيننا! أما سمعت وعلمت أن الله لعن من يقول، هذا على طريقة وهذا على طريقة».
يرفض الملبس الخشن
على عكس الصورة النمطية عن التصوف؛ رفض الدسوقي، ربط الصوفية بالملبس الخشن، فيقول: «ليس التصوف لبس الصوف، وإنما الصوف من بعض شعار التصوف، فإذا وصل الصوفي إلى حقيقة التصوف المعنوي، لا يرضى بلبس ما خشن؛ لأنه وصل إلى مقامات اللطافة».
وفي موقع ثانٍ يحدث الدسوقي، أحد محبيه قائلًا: «يا ولدي البس قميص الفقر النظيف الظريف، فما الأمر بلبس الثياب، ولا بسكنى القباب ولا بلبس الصوف، إنما الفقر أن تخلص عملك بقلبك»، متشبهًا في ذلك بالشاذلي الذي أوصى أتباعه باتقاء الله بالقلب لا بالزي.
ويتسق ذلك مع المنهج الذي وضعه الدسوقي، واختصره في الالتزام بالشريعة الإسلامية، والتأدب بآدابها، حتى إنه اشترط العلم بأمور الشرع، للالتحاق بطريقته، حتى لا يكون هناك مجالٌ للبدع، ويعتمد منهجه على «الذكر الجهري»(2)، ولزوم الجد في الطاعات، وبذل المجهود في الرياضات حتى يفتح الله على المُريد.
وعلى عكس الصورة المأخوذة عن الصوفية، بكونها دافعًا للتكاسل والتبلد، دعا الدسوقي أصحابه للعمل واحتراف المهن، حتى يقال إنه كان يعمل في تشكيل الفخار، وصُنع الحصير، إلى جانب دوره الصوفي.
وعلى هذا المنهج جاءت الطريقة الدسوقية، التي تولى شأنها عقب وفاته، شقيقه شرف الدين أبوالعمران، ومن ثم قام الأخ بالتنقل بين مدينتي دسوق، والإسكندرية، للقيام على تربية التابعين، حتى توفي في عام 1338، تقريبًا، ودفن إلى جوار أخيه إبراهيم بمحل ميلادهم بدسوق.
وتُمثل الدسوقية إطارًا يحتوي بداخله أكثر من طريقة في مصر، والسودان بشكل خاص، والطرق هي: (الشهاوية، والشرنوبية، والعاشورية، والتازية).
الكرامات «المعجزات»
يُروى عن الدسوقي، كرامات (أمور خارقة للعادة)، حتى إنه لقب بـ«برهان الله»، لذا تُسمى طريقته «البرهانية»، ويقول عن نفسه في كتاب «الحقائق» إنه صام وهو في المهد، ويشرح ذلك بأنه ولد ليلة استطلاع هلال شهر رمضان (شهر الصيام في الشريعة الإسلامية)، وتقول أمه إنه ترك ثديها، ولم يرضع منه، منذ طلوع الفجر وحتى أذان المغرب.
وتُضافُ إلى كراماته، إقامته داخل خلوة لمدة عشرين عامًا، لم يخرج منها، إلا عند وفاة والده لتوديعه ودفنه، وحينما انتهى، وهمَّ بالعودة إلى الخلوة، أقسم عليه الناس ألَّا يعود.
ويعترف الصوفية بأن تراث الدسوقي ليس كثيرًا، ولا يُعرف ما إن كان قليلًا فعلًا أو إنه تعرض للتلف بفعل الزمن، إلا أن ما ينسب له اليوم بشكل مؤكد بعض الأشعار، وكتب: «فقه السادة الشافعية»، «الجوهرة»، «برهان الحقائق».
كُلف الدسوقي، في عصر الظاهر بيبرس (أحد حكام مصر في القرن 13 الميلادي)، بمنصب شيخ الإسلام، وهو أعلى منصب ديني في هذا الوقت، وقضى حياته في تربية مريديه، إلا أنه تُوفي في 1297م ودُفن في زاوية صغيرة، باتتْ اليوم أحد أكبر مساجد مصر، مسجد «إبراهيم الدسوقي».
ويقام لـ«الدسوقي» مَولِدان في كل عام، أحدهما في أبريل، ويسمى بـ«الرجبي» نسبة لشهر رجب في التقويم الهجري، والثاني في شهر أكتوبر بالتقويم الميلادي، ويجذب حوالي مليون متصوف، بعضهم من داخل مصر، وآخرون من بلدان عربية.
ورغم المكانة، التي يحظى بها في نفوس المتصوفة، وحرصه على أمور الدين، فإن هناك انتقادات طالته، وطالت طريقته، بعدما نسب إليها من «تجاوزات»، فعلى سبيل المثال هاجم الأزهر الشريف (المؤسسة الدينية الأولى في العالم الإسلامي)، الطريقة رغم موقفه الداعم للصوفية، متهمها بأنها تحمل بعض الأفكار الدافعة بشكل صريح نحو الكفر بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدينة مصرية تُلقب بـ عروس النيل، تقع في أقصى شمال مصر، والمدينة قاعدة مركز دسوق وعاصمة منطقة غرب بمحافظة كفر الشيخ، تبلغ مساحتها 11.76 كم²، بلغ عدد سكانها 135.336 نسمة عام 2016، وتقع أقصى شمال الدلتا، وتطل على فرع رشيد، أحد فرعي نهر النيل وتبعد عن العاصمة المصرية القاهرة مسافة 167 كيلومترًا جهة الشمال، وعن مدينة الإسكندرية 85 كيلومترًا جهة الشرق.
(2) من أنواع العبادات الإسلامية، والتي تعتمد على ذِكر الله، والمبدأ الأساسي له هو إما ذكر إحدى صفات الله، وإما إنشاء الثناء لذكر الله، ويُعد من أيسر العبادات، كما يشبه العلماء حاجة العبد للذكر كحاجته للغذاء والنوم.