وثيقة الأزهر .. عن منظومة الحريات الأساسية
الإثنين 05/نوفمبر/2018 - 04:37 م
طباعة
حسام الحداد
فجر الحادث الإرهابي الأخير الذي وقع يوم الجمعة الماضية 2 نوفمبر 2018، باستهداف مجموعة إرهابية لأتوبيس رحلات كان متوجها لزيارة دير الأنبا صموئيل، مما أدى إلى وقوع قتلى وجرحى، الكثير من الجدل حول حرية العقيدة وغيرها من الحريات، فيما اعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن بعض مفردات الخطاب الديني لم تعد صالحة لمرور أكثر من ألف عام عليها، مؤكدا أن إصلاحها من أهم حاجات مصر والمنطقة والعالم الإسلامي.
وقال السيسي، في كلمة ألقاها الأحد 4 نوفمبر 2018، خلال جلسة "دور قادة العالم في بناء واستدامة السلام" ضمن "منتدى شباب العالم" الجاري في شرم الشيخ: "مش ممكن يكون مفردات وآليات وأفكار يتم التعامل بها منذ ألف عام وكانت صالحة في عصرها ونقول تبقى صالحة في عصرنا.. لا يمكن تكون صالحة".
وأضاف السيسي: "لا بد من إيجاد آلية جديدة، إحنا مبنتكلمش في تغيير دين ولكن إزاي تقنع أصحاب العقول والرأي والمعنيين بهذا الأمر أن فيه عنده مشكلة حقيقية في خطابه وفهمه للدين اللي بيتعامل بيه في هذا العصر، إحنا بنتكلم في إيجاد مفردات لخطاب ديني يتناسب مع عصرنا، وبعد 50 سنة هانبقى محتاجين كمان إحنا نطوره مع تطور المجتمع".
هذا ما يدعونا اليوم إلى العودة لوثيقة الأزهر حول منظومة الحريات الأساسية والتي أصدرها في 8 يناير 2012، لمواجهة الحالة السياسية المتأزمة حينها والاحتقان بين تيارات الإسلام السياسي من ناحية والمطالبين بمدنية الدولة من ناحية ثانية، تلك الوثيقة المعنونة "بيان الأزهر والمثقفين عن منظومة الحريات الأساسية"
عرض الوثيقة:
تناولت الوثيقة أربعة محاور أساسية هي:
أولاً : حـــريّة العقيدة
ثانياً: حرية الرأي والتعبير
ثالثاً :حرية البحث العلمي
رابعًا: حرية الإبداع الأدبي والفني
لا شك ان تلك الوثيقة التي أصدرها الأزهر هي نقلة نوعية في رؤية مؤسسة دينية ذات أهمية كبرى ليس في مصر فقط بل في العالم السني على امتداده وفي لحظة مهمة من اللحظات التاريخية التي مرت بها مصر وقد جاء في الوثيقة حول حرية العقيدة: " تُعتَبر حريّةُ العقيدة ،وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساوة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ويقول : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ، ويترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام ".
وحول حرية التعبير قالت الوثيقة: "حرية الرأي هي أم الحريات كلها، وتتجلى في التعبير عن الرأي تعبيرًا حرًّا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولابد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير. وقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في مصر على توسيع مفهوم حرية التعبير ليشمل النّقد البنَّاء ولوكان حاد العبارة ونصت على أنه " لا يجوز أن تكون حرية التعبير في القضايا العامة مقيدة بعدم التجاوز، بل يتعين التسامح فيها" لكن من الضروري أن ننبه إلى وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطني والأمن القومي. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولاً كما سبق القول في حرية البحث العلمي".
وحول حرية البحث العلمي جاء بالوثيقة: " يُعَدُّ البحث العلميّ الجادّ في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضيــة وغــيرها، قاطرة التقدم البشري، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقة الأمّة له وحشد إمكاناتها من أجله. ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر والاستنباط والقياس والتأمل في الظواهر الكونية والإنسانية لاكتشاف سننها وقوانينها، ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، نزلت إلى الواقع وأسعدت الإنسان شرقاً وغرباً، وقادها علماء الإســـلام ونقلوا شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف وثابت. وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر . وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حـــرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات"
أما بخصوص حرية الإبداع الأدبي والفني جاء في الوثيقة :"ينقسمُ الإبداع إلى إبداع علمي يتصل بالبحث العلمي كما سبق، وإبداع أدبي وفني يتمثل في أجنــاس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع.
والآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقـــد المجتمع أحيانًا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية"
ما جاء بالوثيقة يبين أهميتها وكم احتياج المجتمع المصري لتنفيذها الأن حتى نخرج من حالة الصراع الفكري والأيديولوجي التي تهيمن على الحالة السياسية، ولكن ورغم كثرة الحديث عن ضرورة تحديث الخطاب الديني، وما أكثر المناسبات التي دعي فيها الرئيس السيسي بوضوح لذلك، فأن هناك حالة من التجاهل لتلك المطالب، أو عدم أخذ الأمر بجدية وبشكل عملي، وثيقة الأزهر تمثل مرتكزا مهما ومقبولا وقابلا للنفاذ.. ولكن هناك من يتجاهلها ولا يلتزم بها، من داخل المؤسسة التي أصدرتها، وهناك مواقف تصل لدرجة التناقض معها!! والذاكرة مازالت تعي موقف ممثلي الأزهر الثلاثة في لجنة صياغة الدستور "لجنة الخمسين" وتحالفهم مع حزب النور السلفي في اللجنة الفرعية الخاصة بالدولة والمقومات الأساسية، وتصويتهم "ممثلي الأزهر الثلاثة وممثل حزب النور" ضد النص على مدنية الدولة واصرارهم على حذف "مدنية الدولة" من المادة الأولي من الدستور ووضعها في الديباجة، والضغوط التي مارسوها بعد ذلك لإسقاط النص على "مدنية الدولة" من الديباجة ثم تغيير الصياغة لتتحول مدنية الدولة إلى "حكمها مدني" ثم تغيير العبارة إلى "حكومتها مدنية" لتصبح لا معنى لها. وما أكثر المواقف التي تجاور فيها بعض رموز الازهر مع التيار السلفي في مواجهة الحريات بشكل عام من ناحية ومن ناحية أخرى فرد مساحة ليست بالقليلة للدعوة السلفية وحزب النور عن طريق المنابر لطرح أفكارهم وجذب الشباب إليهم، كذلك المواقف الضبابية تجاه الأحداث الإرهابية التي تستهدف المسيحيين والاكتفاء بشجب الحادث او ادانته دون التدخل الحقيقي في تنقية المناهج التعليمية سواء مناهج الأزهر أو غيره، تلك المناهج التي ما زالت تحض على الكراهية والإقصاء.
نص الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأزهــر الشــريف
مكتب شــيخ الأزهــر
بيان الأزهـــــــر والمثقفـين (عن منظومة الحريات الاساسية)
يتطلع المصريون، والأمة العربية والإسلامية، بعد ثورات التحرير التي أطلقت الحريات، وأَذكَت رُوح النّهضة الشاملة لدى مختلف الفئات، إلى علماء الأمّة ومفكِّريها المثقفين، كَي يحددوا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء ومنظومة الحريّات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدّولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصري، تأصيلًا لأسُسِها، وتأكيدًا لثوابتها، وتحديدًا لشروطها التي تحمى حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل. وهي حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي الإنساني، بما يجعل من الطاقة الرّوحية للأمّة وقودا للنهضة، وحافزًا للتقدم، وسبيلًا للرُّقىّ المادي والمعنويّ، في جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير، ويتآلفان معًا في نسق مستقبلي مُثمِر، تتحد فيه الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع.
ومن هنا فإن مجموعة العلماء الأزهريين والمثقّفين المصريّين الذين أصدروا وثيقة الأزهر الأولى برعاية من الأزهر الشريف، وأَتبعوها ببيانِ دَعْمِ حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية والديموقراطية، - قد واصلوا نشاطهم وتدارسوا فيما بينهم القواسم الفكرية المشتركة في منظومة الحريات والحقوق الإنسانية، وانتهوا إلى إقرار جملةٍ من المبادئ والضّوابط الحاكمة لهذه الحريات، انطلاقًا من متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وحفاظًا على جوهر التوافق المجتمعي، ومراعاة للصالح العام في مرحلة التحول الديموقراطي، حتى تنتقل الأمّة إلى بناء مؤسساتها الدّستورية بسلامٍ واعتدال وتوفيقٍ من الله تعالى.
وبما لا يسمح بانتشار بعض الدعوات المغرضة، التي تتذرع بحجة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخل في الحريات العامة والخاصة الأمر الذي لا يتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي لمصر الحديثة، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينية ومسؤوليته نحو المجتمع والوطن.
أولاً : حـــريّة العقيدة:
تُعتَبر حريّةُ العقيدة ،وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساوة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية فى البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [ ويقول : ] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [ ، ويترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام .
ولما كان الوطن العربي مهبطَ الوَحي السماوي وحاضن الأديان الإلهية – كان أشدّ التزاما برعاية قداستها واحترام شعائرها وصيانة حقوق المؤمنين بها في حرية وكرامة وإخاء .
ويترتّب على حـــق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساسٍ متينٍ من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات .
كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك - بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف : ( هلا شققتَ عن قلبه) والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله : " إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر " وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه : " إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل " تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة .
ثانياً: حرية الرأي والتعبير:
حرية الرأي هي أم الحريات كلها، وتتجلى في التعبير عن الرأي تعبيرًا حرًّا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولابد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير. وقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في مصر على توسيع مفهوم حرية التعبير ليشمل النّقد البنَّاء ولوكان حاد العبارة ونصت على أنه " لا يجوز أن تكون حرية التعبير في القضايا العامة مقيدة بعدم التجاوز، بل يتعين التسامح فيها" لكن من الضروري أن ننبه إلى وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطني والأمن القومي. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولاً كما سبق القول في حرية البحث العلمي .
ويعلن المجتمعون أن حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديموقراطية، وينادون بتنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، ويهيبون بالعاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الإعلام مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم، وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الإسلامي السمح الذي كان يقـــول فيه أكابر أئمة الاجتهاد: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ومن ثم فلا سبيل لتحصين حرية الرأي سوى مقارعة الحجة بالحجة طبقًا لآداب الحــــوار، وما اســـتـقرت عليه الأعراف الحضارية في المجتمعات الراقيــة .
ثالثاً :حرية البحث العلمي:
يُعَدُّ البحث العلميّ الجادّ في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضيــة وغــيرها، قاطرة التقدم البشري، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقة الأمّة له وحشد إمكاناتها من أجله. ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر والاستنباط والقياس والتأمل في الظواهر الكونية والإنسانية لاكتشاف سننها وقوانينها، ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، نزلت إلى الواقع وأسعدت الإنسان شرقاً وغرباً، وقادها علماء الإســـلام ونقلوا شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف وثابت. وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر . وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حـــرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات
واختبارها بالمعايير العلمية الدقيقة، ومن حق هذه المؤسسات أن تمتلك الخيال الخلَّاق والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية، لا يوجههم في ذلك إلا أخلاقيات العلم ومناهجه وثوابته، وقد كان كبار العلماء المسلمين مثل الرازي وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم أقطاب المعرفة العلمية وروادها في الشرق والغرب قرونًا عديدة، وآن الأوان للأمة العربية والإسلامية أن تعود إلى سباق القوة وتدخل عصر المعرفة، فقد أصبح العلم مصدر القوة العسكرية والاقتصادية وسبب التقدم والتنمية والرخاء، وأصبح البحث العلمي الحر مناط نهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الانتاج إذ تخصص لها الميزانيات الضخمة، وتتشكل لها فرق العمل وتُقترح لها المشروعات الكبرى، وكل ذلك مما يتطلب ضمان أعلى سقف للبحث العلمي والإنساني . وقد أوشك الغرب أن يقبض بيديه على كل تقدم علمي وأن يحتكر مسيرة العلم لولا نهضة اليابان والصين والهند وجنــوب شرقي آسيا التي قدمت نماذج مضيئة لقدرة الشرق على كسر هذا الاحتكار، ولدخول عصر العلم والمعرفة من أوسع الأبواب، وقد آن الأوان ليدخل المصــريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية، ولديهم ما يؤهلهم من الطاقات الروحية والمادية والبشرية وغيرها من شروط التقدم في عالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين .
رابعًا: حرية الإبداع الأدبي والفني :
ينقسمُ الإبداع إلى إبداع علمي يتصل بالبحث العلمي كما سبق، وإبداع أدبي وفني يتمثل في أجنــاس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع.
والآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقـــد المجتمع أحيانًا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية .
ولقد تميزت اللغة العربية بثرائها الأدبي وبلاغتها المشهودة، حتى جــاء القرآن الكريم في الذروة من البلاغة والإعجاز، فزاد من جمالها وأبرز عبقريتها، وتغذَّت منه فنون الشعر والنثر والحكمة، وانطلقت مواهب الشعراء والكتّاب - من جميع الأجناس التي دانت بالإسلام ونطقت بالعربية - تبدع في جميع الفنون بحرية على مر العصور دون حرج، بل إن كثيرًا من العلماء القائمين على الثقافة العربية والإسلامية من شيوخ وأئمة كانوا هم من رواة الشعر والقصص بجميع أشكاله، على أن القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية، وقدرته على استيعاب عناصر التر اث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخرى، وعدم التعرض لها ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة، ويظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الرشيدة كان ذلك دليلًا على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتهم في مستقبل أفضل، والله الموفق لما فيه الخير والسداد .
تحريراً في مشيخة الأزهر :
14 من صفـــر ســنة 1433ﻫ
المــــــوافـق : 8 مــن يناير سـنـة 2012 م
شـيخ الأزهــر
أحمــــــد الطـيب