"السنون العجاف" كتاب يرصد علاقة الربيع العربي والطائفية

الثلاثاء 04/ديسمبر/2018 - 10:03 ص
طباعة السنون العجاف كتاب روبير الفارس
 
عن دار المشرق بلبنان صدر كتاب " السنون العجاف " للاب صلاح ابو جوده اليسوعي  والكتاب ينطلق من راي للكاتب يقول فيه ان العالم العربيّ لم  ثقافةً ديموقراطيّة، ولم يعرف خطابًا سياسيًّا ديموقراطيًّا جدّيًّا، ولا إصلاحات. حتّى بعد حدث "الرّبيع العربيّ"، عادت المنطقة بأسرها إلى الدّوران في دوّامة الأنظمة التّسلّطيّة والاستبداديّة والتّيوقراطيّة." وفي صفحاته يستعرض الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ أحداث فترة ما بعد ثورات الرّبيع العربيّ ويحلّل نتائجها، في مجموعة مقالاتٍ نُشرت له بين العامين 2015 و2018، تحت عنوان "السّنون العِجاف"، يسلّط الضّوء فيها على أهمّيّة إرادة التّغيّير الدّاخليّة وسبل بنائها، كما يتطرّق أيضًا إلى المأزق اللّبنانيّ ومخارجه.
الكاتب 
الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ هو مدير دار المشرق وعضو في الرهبانيّة اليسوعيّة، حاصل علي دكتوراة في الفلسفة السياسيّة. أستاذ جامعيّ ومدير معهد الآداب الشرقيّة في جامعة القدّيس يوسف، ببيروت. له عدّة كتابات لاهوتيّة وفلسفيّة وسياسيّة.
الطائفية ادانة وتحصين 
 يحلل الكاتب  واقع الطائفة في لبنان بين الادانة والتحصين فيقول من تناقضات الذهنية اللبنانية إدانتها الطائفية بصفتها مصدر كل آفات الوطن، وفي الوقت عينه، تحصنها بها، لا سيما في ظل غياب البدائل.ليس غريبًا أن يُلاحظ صدى هذا التناقض في الخطاب السياسي المحلي الذي هو وليد الواقع الطائفي وليس صانعه، ولا أن ينحرف هذا الخطاب إلى شخصنة الحالة الطائفية بحيث يتماثل الزعيمُ أو القائد أو المرجعية ومصالحَ الطائفة الآنية، بل واستمرارية إرثها الثقافي بمعناه الواسع. فنشأة الطائفة بصفتها أساسًا مجموعة عقائدية منغلقة على نفسها، تعادي محيطها أو على الأقل تتخذ إزاءه موقف ريبة وحذر، تخلق داخلها بيئة لا تقبل التعددية والاختلاف، ولا تسلِّم بالحريات الشخصية.
وتبين الخبرات التاريخية إمكان شخصنة القوى الاجتماعية المكوَّنة على هذا النحو التسلطي، وسهولة التلاعب بها من قبل نخبها السياسية. وفي المقابل، سُجِّلَت طوال تاريخ لبنان المعاصر، مبادرات رسمية وغير رسمية، منها ما تُرجم بمشاريع واقعية، تهدف إلى الخروج التدريجي من الحالة الطائفية، كان آخرها مشروع إلغاء الطائفية السياسية. إن هذا التوجه يُعبِّر عن أحد وجهَي تناقض الذهنية المذكورة، ويتجلّى بوجه خاص في حالات وعي الضمير الوطني لدى بعض النخب السياسية والفكرية لأسباب مختلفة.
غير أن رفض النخب السياسية كسر حلقة الذهنية المتناقضة المغلقة، بل جنوح تلك النخب في السنوات الأخيرة إلى توظيف العصبية الطائفية توظيفًا خطيرًا تبعًا لمصالحها الخاصة والفئوية، قد فاقم الشعور العام بالأزمة المزمنة التي أدّت إلى تدهور الأوضاع الحياتية والاقتصادية والسياسية. فكان أن نتجت ردود فعل شعبية عفوية راوحت بين الشعور باليأس إلى حد الاستقالة من الحياة العامة والهجرة، و"التمرد". وفي ما خص التمرد، فقد اتخذ شكلَين: الأول، الحراك المدني في بداية أزمة النفايات. ولكنّه لم يسلك مسلكًا عقلانيًا يُظَهِّر عفويته وعشوائيته في برامج سياسية مؤسسة على قواعد فكرية وطنية متينة تؤمن استمراريته، وتجمع حوله الغالبية الصامتة من اللبنانيين؛ والثاني، التحالفات التي عُقدت أثناء الانتخابات الاختيارية والبلدية الأخيرة والتي أربكت سياسة "المحادل" التي تنتهجها النخب. غير أن هذا التمرد العفوي مرشح- على مثال التمرد الأول - للانتهاء، إذ من المستحيل إيجاد آلية تعقلنه وتوحد عناصره على مساحة الوطن. ولا شك في أن النخب السياسية التقليدية ستستوعب بسرعة رد الفعل هذا، بدءًا بالتقليل من أهميته ودلالاته السياسية وصولاً إلى إزالته.

غير أن اللافت في هذا السياق، استعادة بعض النخب السياسية التقليدية توجهًا فكريًا عرفه تاريخ لبنان المعاصر سابقًا، يهدف بطريقة واعية أو لاواعية، إلى إحداث تغيير في تركيبة الذهنية المتناقضة، إذ يروج للطائفية بإيجابية، فيشبهها بالأحزاب السياسية في الغرب أو تعددية بعض المجتمعات الغربية. وكما أن المشهد السياسي في أوروبا، على سبيل المثال، تشغله الأحزاب السياسية، تشغل الطوائف المشهد اللبناني. وكما أن المجتمع الكندي، مثلاً، يتكوّن من مجموعات ثقافية وعرقية كثيرة ومتنوعة، فكذلك المجتمع اللبناني يتكوّن من طوائف متنوعة.
غير أنه لا يمكن مقارنة التركيبة الطائفية اللبنانية وعملها بالتركيبة السياسية الحزبية الغربية وعملها، ولا بتركيبة المجتمعات الغربية التعددية. ذلك أن مسألة التعددية وما تفترضه من حقوق الجماعات أو الأقليات تُطرح في الغرب ضمن إطار نظام ديموقراطي ليبرالي يقوم على المواطنية والعلمانية وسيادة القانون، كما أن تنافس الأحزاب يقوم على رؤية معينة في الخدمات العامة والمصلحة المشتركة، وليس انطلاقًا من حسابات فئوية أو ونزعة ضمنية مزمنة إلى إلغاء الآخر، كما هي الحال في التركيبة الطائفية.وفي الواقع، إن المحافظة على الذهنية المتناقضة ضروري لأنها تبقي الأمل حيًّا للخروج من الحالة الطائفية، إذ يمكن المشاريع الوطنية أن تُبنى عليها. في حين أن الترويج لإيجابية التركيبة الطائفية يرسخ نهائيًا مجتمعًا يقوم على توازي جماعات أشبه بدويلات تنافس بعضها بعضًا وتعادي بعضها بعضًا، فضلاً عن تفاقم النزاعات داخل نخب المجموعة الواحدة بغية احتكار التمثيل. غير أن جسارة التوجه المذكور تكمن أيضًا في أنه يُخضع الدين بالكامل للحالة الطائفية، فيبلغ النتيجة عينها التي لطالما خشي رجال الدين أن تفرضها العلمانية. 
الخلط  حول العلمانية 
يخلط الكثير من السياسيين ومن رجال الدين أيضًا بين العلمانية بصفتها نظام حكم يفصل بين الدين والدولة، والعلمانية بصفتها تيارًا فكريًا يولِّد نمط حياة معينًا قد يؤدي إلى خسارة الدين نفوذه الأخلاقي والاجتماعي أو إلى علمنة المجتمع. فيمكن أن تكون الدولة غير علمانية، على مثال المملكة المتحدة، في حين أن مجتمعها متعلمن بامتياز. فإذا كان شكل العلمانية الأول يعني حياد الدولة الإيجابي إزاء الدين بغية الحفاظ على استقلالية إدارتها وضمان حرية الضمير وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الانتماء الديني، يفيد الشكل الثاني استقلالاً إزاء الممارسة الدينية وتقاليدها وأخلاقها.عندما يجري الكلام على "الطائفة" أو "الطائفية" في لبنان، يُشمل الدين تلقائيًا في اللفظتَين من دون تمييز. إذ يبدو أن الطائفة بصفتها جماعة دينية ثقافية سياسية محدودة، تحدد وضع الدين ودوره، فيفقد الدين بالتالي بعده الإنساني الشمولي ليصبح متحيزًا. فبدل أن يكون الدين حاملاً رسالة روحية وأخلاقية تسمو بالإنسان وتعزز حريته المسؤولة وتنمي قدرته على فعل الخير وحب الحقيقة والعدالة، يصبح مرتبطًا بواقع طائفي يولّد الخوف والاتكالية والريبة من الآخرين. بل توظف الرموز الدينية نفسها في سبيل تعبئة الشعور الطائفي. ولا عجب، في ظل هذا الواقع، أن تُحبَّذ تفسيرات للدين وأحداثه المؤسِّسة تتماشى ووظيفته الطائفية على حساب التفسيرات التي تؤثر الناحية الخلاقة والخيرة الشاملة. وعوض أن يدخل الدين في حالة شد حيوية بين إطاره الجغرافي والثقافي والعالم الخارجي، بحيث يسعى إلى ترجمة رسالته الأساسية من خلال التفاعل ومحاورة الثقافات الأديان الأخرى بطريقة خلاقة، يبقى أسير الحالة الطائفية الضيقة.
الدين والطائفية 

وبكلام آخر، أصبح الدين مماثلاً للشعارات الطائفية ومطالبها، وتوظيفه يُضفي صفة مقدسة أو شبه مقدسة على النزاعات السياسية الطائفية. فيمكن النخب استخدام خطابها التعبوي الطائفي بغطاء ديني لتشد عصب الطائفة الذي يذكّي السلوك الانفعالي والغرائزي وغير المنطقي. وفي المحصلة، تكون الطائفية قد همشت دور الدين الحقيقي بل حرفته عن مساره وشوهته. وبذلك تفوق بأثرها السلبي في الدين أضعاف أثر العلمانية بوجهها الاجتماعي.
إن مسؤولية النخب السياسية كبيرة في منع اعتبار الحالة الطائفية حالة إيجابية بقدر مسؤوليتها على توظيف تلك الحالة لمصالحها الخاصة والفئوية. وفي الوقت عينه، يبقى المجتمع المدني مدعوًا إلى تكرار مبادراته التي تكسر حلقة المنطق الطائفي المغلقة، من أجل تنمية شعور وطني مشترك لاطائفي يُترجم تدريجيًا في برامج وطنية واقعية. وتبقى مسؤولية المؤتمنين على الدين كبيرة أيضًا لتمييز الدين عن الطائفية، وإعادة الزخم إلى رسالته السامية الشاملة، والسعي إلى فصل الدين عن الدولة، إذ يصب هذا الفصل في صميم تعاليم الدين-أيًا كان- عن حرية الضمير وواجب الدولة في حماية هذه الحرية.

شارك