عوامل تراجع العمليات الإرهابية في أوروبا 2018
السبت 05/يناير/2019 - 02:37 م
طباعة
حسام الحداد
مع نهاية 2018، وبداية 2019، قامت وحدة رصد اللغة الإنجليزية، التابعة لمرصد الأزهر للعمليات الإرهابية والفتاوى التكفيرية بإعداد دراسة مهمة حول تراجع العمليات الإرهابية في أوروبا، حيث تؤكد الدراسة على زوال خطر تنظيم الدولة "داعش"، بالإضافة إلى التحذير من بعض القوى الكامنة داخل الجماعات الإرهابية، أو ما يطلق عليها الخلايا النائمة، وإمكانية المباغتة الغادرة باستخدام استراتيجية الذئاب المنفردة والتي تهدد العالم شرقا وغربا.
وتقول الدراسة أنه وَفقًا للأرقام والإحصائيات؛ فإنَّ هذا العام كان الأفضل على الإطلاق للأوربيين، مُقارَنةً بالأعوام الثلاثة الماضية 2015، 2016، 2017، فقد تَمَيَّزَ هذا العامُ بتَراجُع العمليات الإرهابية في أوروبا، وتميّز بمقدرة الأجهزة الأمنية الأوروبية على التعامل مع الهجومات وإفشال العديد من المُخَطَّطات، وتميّز بمقدرة المنظومة القانونية على تطوير نفسها وسرعة سَنّ مشاريعَ قانونيّةٍ للتعامل مع هذا الوضع الاستثنائي، وأخيرًا: تميّز بالتعاون البَنّاء بين دول الاتحاد الأوروبي وقدرتهم على مساعدة بعضهم البعض في تقديم العَون والمساعدة؛ لمنع العمليات الإرهابية قبل تنفيذها، ومباغتة العناصر الإرهابية والمُشتبَه بها قبل تحقيق مرادها، ورغم أنَّ تطور المنظومتين الأمنية والقانونية، وتطور العَلاقات بين دول الأعضاء هي العناصر الرئيسة التي تُمَيِّزُ هذا العامَ، والتي كانت لها القدرة على تحقيق مكاسبَ عديدةٍ في مواجهة التنظيمات الإرهابية، فإنَّ السبب الرئيسَ وصاحب الفضل الأكبر لهذا التطور هو: انحسار وهزيمة قوة تنظيم داعش في الشرق الأوسط خلال العام الماضي؛ الأمر الذي أدَّى إلى فقدان قدرته على ترويض وتجنيد وكلاءَ عنه في العالم الغربي، والأوروبي على الخصوص، وعلى الرغم من أنَّ النتائج إيجابيةٌ والإحصاءات مطمئنة، فإنَّ التدبُّرَ في هذا السبب الأخير وربط تراجُع العمليات الإرهابية بتراجع تنظيم داعش في الشرق الأوسط، يُنبئ بمستقبلٍ مقلق للأوروبيين وغيرهم.
تبدا الدراسة بتقديم الأرقام والإحصاءات الإيجابية التي تؤكِّد أنَّ عام 2018 كان الأفضلَ في تراجع العمليات الإرهابية مقارنةً بالثلاثة أعوام الماضية؛ فوَفقًا للتقرير الصادر عن الاتحاد الأوروبي بخصوص وضع الإرهاب في القارة الأوروبية، فإنَّ عدد القتلى الناتج عن العمليات الإرهابية في عام 2018 وصل إلى 20 قتيلًا، بينما شَهِدَ عام 2017 مقتل 62 فردًا، وشَهِدَ عام 2016 مقتل 135 فردًا، وعام 2015 قُتِلَ فيه 150 فردًا أوروبيًّا؛ ممّا يَدُلّ على الانخفاض الملحوظ في عدد القتلى في عام 2018، مُقارَنةً بالأعوام الثلاثة الماضية.
بالإضافة إلى تراجع عدد القتلى خلال هذا العام، فإنَّ ما يُمَيِّزه كذلك هو قدرة الأجهزة الأمنية على إفشال المُخَطَّطات التنفيذية الإرهابية، وارتفاع حصيلة عمليات الإفشال الأمنية، مقارنةً بالأعوام الماضية، فعلى سبيل المثال: أَفْشَلتْ القواتُ الفرنسية في عام 2016 ثلاثَ محاولاتٍ هجومية إرهابية، بينما نجحت التنظيماتُ الإرهابيةُ في تنفيذ حَوالَي ثلاثةَ عشرَ هجومًا إرهابيًّا، وفي عام 2017 أفشلت القواتُ الفرنسية إحدى عشرةَ محاولةً، بينما نفَّذت الجماعاتُ الإرهابيةُ عَشرةَ هجوماتٍ إرهابية، وَفقًا للتقرير الصادر عن الاتحاد الأوروبي بخصوص وضع الإرهاب في القارة الأوروبية، وعلى الرغم من عدم نشر إحصاءاتٍ واضحة بالمحاولات الإرهابية التي أُحبِطت خلال هذا العام، فإنَّه من الواضح جِدًّا عدد المحاولات الإرهابية التي أحبطتها القواتُ الأوروبية؛ ففرنسا قامت بإحباط أكثرَ من عشرين محاولةَ هجومٍ إرهابية، وقالت الحكومة البريطانية: إنَّها أحبطت خلال هذا العام محاولةً إرهابية كلّ شهر.
تعتقد "جييتي كلاوسن"، أستاذة العَلاقات الدولية في جامعة برانديس في بوسطن، وزميلة مركز الدراسات الأوروبية في جامعة هارفارد، أنَّ الأسبابَ الرئيسةَ التي أدّت إلى تراجع العمليات الإرهابية في العام 2018 ترجع إلى التطور الملحوظ للأجهزة الأمنية، والخطوات الملموسة من قِبَل المنظومة القانونية والتشريعية، والتعاون الإيجابي بين دول أعضاء الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي تَرَتَّبَ عليه هذه النتائجُ الملموسة والناجحة[2]، وعلى الرغم من إقرارها بأنّ المِحوَر الأساسَ لهذا التطور يرجع إلى هزيمة تنظيم داعش، وتَراجُع قدراته على تجنيد وكلاء و"ذئاب منفردة" تعمل لحسابه داخل القارة الأوروبية؛ فإنَّها تُشيد بدَور المنظومتين القانونية والأمنية، ودَور تعاون أعضاء الاتحاد فيما بينهم، في سبيل تحقيق هذه النتيجة الملحوظة.
فعلى صعيد المنظومة الأمنية الأوروبية: قامت حكوماتُ الدول الأوروبية بتفعيل وتطوير رجال الأمن وأجهزة مكافحة الإرهاب في كلّ دول الاتحاد، ومنها: كلٌّ من الحكومتين الفرنسية والبريطانية، اللَّتَيْنِ قامتَا بعمل طفرةٍ ملحوظة في أجهزتهما الأمنية؛ بتجنيد عناصرَ أمنيّةٍ جديدة وكثيرة، وتحديث برامجَ تدريبيّةٍ متطورة؛ الأمر الذي مَكَّنَ قواتِ الأمن البريطانية في لندن من الوجود في مَحلّ الهجوم الإرهابي في لندن، في أَقَلَّ من ثَمان دقائق، عام 2017، ومؤخّرًا: قامت القوات الفرنسية بعمل وحدةٍ مُتَخَصِّصة، ونشْر حَوالَي عشرةِ آلاف ضابطٍ مؤهَّل، في أماكنِ التهديد الإرهابي، وكان من ضمنهم: الضابطُ الفرنسي الذي قام بالكشف عن هُوِيَّة مُنَفِّذ الحادث الإرهابيّ الأخير في فرنسا، وقتله في الحال.
وعلى ناحية التطور القانوني في المنظومة التشريعية: استطاع الاتحادُ الأوروبي بالتعاون مع الدول الأعضاء سَنَّ عِدّةِ مَشاريعَ قانونيّةٍ، أتاحت لقوات الأمن وقوات مكافحة الإرهاب المُرونةَ والإمكاناتِ، التي خوَّلتهم بالتعامل الأمني مع كلّ المُشتبَه بهم؛ من خلال فحْص حساباتهم البَنكيّة وبياناتهم الشخصية، والقبض عليهم لاستجوابهم ومعرفة مُخَطَّطاتهم، ومن ضمن هذه الإصلاحات التشريعية: قيامُ فرنسا وأسبانيا والمملكة المتحدة بإصدار مشروعاتِ قوانينَ لمكافحة الإرهاب، وفَعَّلَتْ تنفيذَ هذه القوانينِ على نطاقٍ واسع.
العنصر الثالث والأهم: حُسْن التعامل بين دول الأعضاء، وقدرة إدارة الاتحاد الأوروبي على إلزام دول الأعضاء بضرورة التعاون فيما بينهم في الملفّ الأمني والتشريعي؛ لمواجهة الخطر الإرهابي على القارة الاوروبية، ومن هذه الإجراءات: قيامُ الاتحاد الأوروبيّ بإلزام الدول الأعضاء بتداوُل معلوماتِ المُشتبَه بهم، والإدلاء ببياناتهم الشخصية وحساباتهم البنكية وتنقُّلاتهم بين الدول؛ الأمر الذي كان مرفوضًا بشِدّةٍ من قِبَل الدول الأعضاء خلال عامَي 2016، 2017، لكن، توفير كل هذه البيانات وجعْلها مُتاحةً للأجهزة الأمنية المحلية والقارية؛ جعَلَ الأمرَ بالنسبة إلى قوات الأمن المحلية لكلّ دولة يَسيرًا لإحباط العمليات الإرهابية مَحلّ التخطيط، وقامت ألمانيا والمملكة المتحدة بتسهيل التعاون بين أجهزتها الأمنية والأجهزة الأمنية التابعة للاتحاد من جهةٍ، وباقي الأعضاء من جهةٍ أخرى؛ لتَمكين التعاوُن فيما بينهم لتسليم المُشتبَه بهم، أو إتاحة بياناتهم؛ تَفعيلًا للهدف المَرجوّ من وراء ذلك، وهو: إحباط المحاولات الإرهابية قبل تنفيذها.
أخيرًا: رغم كل النتائج الأمنية الإيجابية التي تحقّقت في عام 2018، ورغم مَقدرة القوات الأمنية الأوروبية على إحباط عشرات المحاولات الإرهابية للتنظيمات الإرهابية؛ فإنَّنا يجب أنْ نكونَ مُدرِكينَ أنَّ الفضل الحقيقي لهذا التراجع يرجع إلى انحسار وهزيمة تنظيم داعش الإرهابي في مَقَرّ نشأته بالشرق الأوسط؛ وهو ما أفقده القدرةَ على تجنيد عناصر ووكلاء و"ذئاب منفردة" أو جماعية للقيام بعملياتٍ إرهابية داخل القارة الأوروبية، فكل التطورات الأمنية والقانونية ما هي إلّا رِدّةُ فِعلٍ عن تصرفات التنظيمات الإرهابية، ورِدّةُ الفِعلِ هذه لم تَصدُرْ إلَّا بعد مقتل عشرات المواطنين الأوروبيين على يدِ عناصر داعش الإرهابية، ولم يُكتبْ لهذه التحركات الأمنية والقانونية النجاح إلَّا بعد تجفيف مَنبع التنظيم في مَقَرّ نشأته، وشَلّ قدرته على تجنيد وكلاء له في القارة الأوروبية، وهذا يعني: أنَّ تراجع وصعود العمليات الإرهابية في أوروبا مرتبطٌ بقوّة وضعْف التنظيم الإرهابي، الذي رغم هزيمته الكبرى خلال العام الماضي؛ فإنَّ جيوبه ما زالت حيويّةً وفاعلة على الحدود بين سوريا والعراق، ولا يزال أعضاؤه الهاربون يَنثُرون بذور معتقداته وأفكاره بين قرى ومدن سوريا والعراق، التي يَسكنها الخَوفُ والاضطراب والنزاع والشقاق، والتي تُعَدّ مَرْتَعًا خِصبًا وصالحًا لعودة التنظيم مرّةً أخرى، أو لنشأة كِيانٍ جديد يَحلّ مَحلَّه.
وعلى صعيدٍ آخَرَ: فإنَّ الخطرَ الأكبرَ والمباشر في القارة الأوروبية هو أنَّ هناك العديدَ من المقاتلين أو العائدين من تنظيم داعش والمسجونين في دولٍ أوروبية قد أَوْشَكتْ مُدّةُ سَجْنهم على الانتهاء، والعديدُ من هؤلاء المقاتلين حاصلون على أحكامٍ لا تتجاوز خَمْسَ سنواتٍ؛ ممّا يعني: أنَّ هناك 500 عائدًا من التنظيم سيخرجون من السجون الفرنسية قريبًا، وبحُلول 2019 سيتمكّن 200 من الخروج من السجون البريطانية، وعليه: فلا بُدَّ من الحذر من التقلُّبات الدَّوريّة للتنظيمات الإرهابية، ومدى استعداداتها المُباغِتة والمُفاجِئة للحكومات الغربية وغَيرِها، وعلى الحكومات ألَّا تَركنَ إلى هذا النجاح البارز خلال هذا العام، وأنْ تُوَاصِلَ عملَها في تطوير أجهزتها الأمنية والقانونية؛ من أجل الاستعداد لأيّ مُباغَتةٍ إرهابية في المستقبل.