يقدم الكاتب محمد الدسوقي رشدي في كتابة نهاية زمن الشيوخ تحليل مهما لعدد من شيوخ السلفية والكتاب ضم عدة مقالات ودراسات سبق للدسوقي نشرها تحت نفس العنوان بجريدة اليوم السابع ومن النماذج التى يشرحها الكاتب نموذج الشيخ ياسر برهامى حيث كتب يقول
دون غيره لا يتوقف، لا يكل، لا يمل، لا يخجل، ولا يضطرب له جفن، ينتقل من مربع إلى آخر، يبدل كلماته ويعيد صياغة حروفه ليخبر الناس بعكس ما أخبرهم ويفتيهم بعكس ما أفتاهم من قبل، ويرضى صاحب المصلحة والسلطة بنقيض ما أرضى به أسلافه، ويبهرنا جميعًا بقدرته على التلاعب وتأصيل فتواه السياسية بهدوء ويقين لا تختمه حتى كلمة «والله أعلم» كما يفعل أهل العلم بحق.
اعتدنا من أهل العلم أن أفتوا تريثوا، وإن فاجأهم السؤال تمهلوا فى الرد وربما أجلوه للدراسة ومزيد من البحث والتأصيل، برهامى لا يفعل ذلك هو بندقية آلية سريعة الطلقات، يسألونها عبر مواقع الإنترنت فيرد سريعًا، يستفتونه فى وسائل الإعلام فيرد قبل أن ينتهى المذيع من سؤاله، ويطلبون منه الفتوى فى درس المسجد فيكون جوابه حاضرا فى السياسة والفن والرياضة والاقتصاد هكذا دون عودة إلى مصدر أو دون رد سؤال أو طلب مهلة للبحث فى مسألة اقتصادية أو سياسية ليست فى مجال تخصصه، هو يعلم كل شىء وأى شىء، ويؤصل لذلك دومًا بآراء تدفع فى اتجاه واحد، وهو أن العامة لا يتحركون إلا بظلال من أوامر وتشريع ووصاية العلماء، هكذا قالها بمنتهى الصراحة مع الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة، العامة ويقصد بهم الشعب لا يحق لهم الاختيار، تلك مهمة أهل العلم وطبعًا يقصد بهم الشيوخ.
فى زمن مبارك كان ياسر برهامى مستئنسا خطيبا مفوها حادا فى بعض ألفاظه سريعا فى إطلاق فتواه بجرأة يحبها الجمهور المتكاسل، والمريدون الذين يتم تربيتهم على أن شيخهم لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، وفى مرحلة ثورة 25 يناير ذهب عنه الاستئناس وتنمر أسفل راية حكم الشريعة والتمكين واشتبك مع كل التيارات بفتاوى يطلقها هنا وهناك، وقبل استيضاح سيطرة الإخوان على السلطة سعى لعقد صفقة مع أحمد شفيق، وقال فى الإخوان ما قال، ولما استتب الأمر للإخوان تغيرت فتواه وتم استغلالها لمداعبة الإخوان، ولما اشتعلت ثورة 30 يونيو وبات واضحًا أن الرفض الشعبى لممارسات تيارات الإسلام السياسى عاد مجددا إلى استئناسه يتلاعب بالفتاوى من أجل تمديد بقائه وبقاء تياره الممثل فى الدعوة السلفية.
تخبرنا اللغة العربية الكثير عن ياسر برهامى ومواقفه، تلون، مُتلوِّن، ويقولون مُتَلَوِّنٌ كَالحِرْبَاءِ أى مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، مُتَغَيِّرٌ، ويقال تلون الشخص أى غيَّر من سلوكه وفقًا لمصالحه.
وفى علم النفس متلازمة تعرف باسم «Chameleon Effec»، أو تأثير الحرباء وتعرف بالحالة النفسية التى تسيطر على شخص يغير من نفسه ومن آرائه كثيرًا من أجل التودد إلى آخرين.
أما الإمام الشافعى فقد قال من زمن: «ولا خيرَ فى ودِّ امرئٍ متلونٍ/ إذَا الرِّيحُ مالَتْ، مَالَ حيْثُ تَميلُ»، وهذا تحديدًا ما أدركته كل التيارات السياسية والدينية فى حالة ياسر برهامى، لذا لم يعد الرجل يحظى بتقدير أو ثقة الجميع بمن فيهم بعض رجال الدعوة السلفية مثلما هو الحال مع شيوخ مطروح الذين اتهمونه بالتلون وعدم الثبات والإضرار بالدعوة السلفية.
برهامى الذى أفتى فى مرحلة ما بضرورة دعم محمد مرسى كمرشح لرئاسة الجمهورية بعدما خاب مسعاه مع عبدالمنعم أبوالفتوح، ثم أحمد شفيق لأنه مرشح إسلامى يخوض معركة ضد فلول النظام البائد، هو نفسه برهامى الذى شرعن وأفتى بكل شىء لمنافسة الإخوان فى انتخابات البرلمان حينما أفتى بضرورة إبطال الصوت فى حالة عدم وجود مرشح سلفى، وعقد اتفاقا لدعم طارق طلعت مصطفى أحد رجال زمن الحزب الوطنى فى الإسكندرية من أجل إسقاط مرشح الإخوان.
كان برهامى واحدا من أشهر شيوخ التيار السلفى سخريا من المسيحية والأقباط، ودائم الإشارة إلى أن الكهنوت المسيحى هو الذى يحكم كل شىء، ويسيطر على كل شىء، ودائم التفاخر بأن الإسلام ليس كذلك، وبعد الثورة حينما دنت وتدلت الثمار تحول برهامى ومعه بعض الشيوخ إلى كرادلة، كهنوت يريد أن يتحكم فى كل شىء، يتلاعبون بالدين والفتاوى من أجل دعم مرشح ضد الآخر، يعتبرون أن التصويت فى التعديلات الدستورية هو تصويت على الجنة والنار، يشرعنون لفكرة عدم التحرك فى الدين والسياسة والاقتصاد إلا بفتوى الشيوخ فمن يقول نعم يدخل الجنة ومن يقول «لأ» فهو عدو الإسلام ومصيره النار، ثم أكمل برهامى صورته فى تأسيس الكهنوت الإسلامى السلفى لحكم الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير بفتوى تخالف كل ما يقوله الآن عن الديمقراطية والاختيار وصناديق الانتخابات حينما أفتى قائلًا: «الشباب لازم يعلم أن اختيار مرشح لدعمه فى الرئاسة ليست مسألتهم إنما هى مسؤولية أهل العلم»، وحينما سألوه: «ماذا لو فاز بالرئاسة غير من بويع له؟»، قال «برهامى»: «من بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين، فلا بيعة له، ولا عبرة ببيعة أفراد من العامة أو طلاب العلم المبتدئين، الذين تدفعهم مجرد العاطفة».
باختصار برهامى الذى حرم الديمقراطية ثم عاد وأفتى بمشروعيتها حينما وجدها طريقا لتحقيق المصلحة، هو نفسه برهامى الذى غازل الجماهير بالشورى والمشورة والحرية حينما أراد أصواتهم الانتخابية، بينما كان فى الغرف المغلقة يخبر مريديه بالحقيقة بأن كل الجماهير التى يغازلونها طلبا للدعم والتصويت لا رأى لها وليس من حقها الاختيار إلا بعد استئذان الشيوخ.
فى 24 ديسمبر 2011 تزامنًا مع الانتخابات البرلمانية أفتى ياسر برهامى بأنه لا يجوز للمسيحى الترشح للانتخابات البرلمانية، نظرًا لأنها سلطة تشريعية ورقابية، وبذلك فإنه سيمكنه عزل رئيس الدولة ومحاسبة الحكومة، وأضاف: «لا يحل للكافر أن يتولاها»، فى إشارة للمسيحيين.
كانت تلك الفتوى فى توقيت اعتقد فيه برهامى وتياره السلفى أنهم قوة على الأرض لن يردها أحد وأغوتهم وأغرتهم حشودهم فى التحرير بجمعة قندهار وجمعة أنصار الشريعة وغيرها، ولكن الحال تغير وذهبت ملامح القوة، ولجأ برهامى وشيوخ التيار السلفى للموائمة، ولكنها موائمة على حساب الدين، لم يغير برهامى وشيوخ التيار السلفى خططهم السياسية للتعامل مع الوضع السياسى بل غيروا الفتوى وقال برهامى: «ترشح الأقباط على قوائم حزب النور مبنى على قاعدة مراعاة المصالح ودرء المفاسد، كما أن هذه القضية بها خلاف شرعى، وأن الحزب عندما رشح الأقباط كان يبتغى مصلحة الوطن أولا».
نفس موقف التلون تكرر مع قضية ترشيح المرأة إلى المناصب القيادية، كان ياسر برهامى ومن خلفه شيوخ الدعوة السلفية رافضين لترشيح المرأة على قوائمهم، وكان ياسر برهامى هو صاحب فتاوى عدم جواز الإختلاط وصوت المرأة عورة، وهو أيضا من أفتى بأنه لا ولاية للمرأة، ثم تغير كل شىء وتلاعب بكل شىء، وعاد وأفتى بأنه جائز بعد أن كان فى زمن القوة والقدرة على الحشد بعد 25 يناير لا يجوز شرعا.
تلك صفة برهامى الأساسية التلون والتلاعب بالفتاوى لإرضاء كل الأطراف، تريدون تعاونا مع إيران حسنا تلك فتوى تجيز ذلك، لا تريدون إيران تلك فتوى تحذر من خطر الشيعة وتحرم التعامل معهم، هذا مافعله ياسر برهامى، كان الإخوان يسعون لإصلاح العلاقة مع إيران ووقتها ظهر برهامى وأفتى فى حوار نشرته جريدة الشروق يوليو 2012، قائلا: «إيران دولة من الدول التى نحتاج إلى التعامل معها، ولا مانع من تكوين علاقات جيدة معها، نحن ليس لدينا مشكلة فى تكوين علاقات مع كل دول العالم حتى مع غير الإسلامية فكيف بدولة إسلامية مثل إيران».
المفاجأة أن برهامى نفسه وبعد مرور 9 أشهر فقط وتحديدا فى 6 أبريل 2013 مع بداية الخلاف مع الإخوان أطلق فتوى جديدة تناقض فتواه القديمة، وقال فيها نصا: «إن الشيعة عقيدتهم أخطر من اليهودية، وأنهم يكذبون القرآن الكريم ويحرفونه»، «إذا كانت علاقتنا معهم على أساس الاقتصاد فهناك حلول كثيرة، غير توطيد العلاقات معهم».
المفاجأة ليست فى التناقض من أجل إرضاء الغير، بل فى قدرة برهامى وشيوخه على التلاعب بالدين والفقه لإصدار فتوى مخالفة لما تم إصداره من قبل، مثلا سألوا ياسر برهامى على موقع صوت السلف عن رأيه فى بعض الأحزاب التى تنظم دورات رياضية فى كرة ويدفع كل فريق مبلغ اشتراك فى هذه الدورات، ثم يتم توزيع جوائز على الفرق الفائزة، وهذه الجوائز يتم شراؤها خارج نطاق الاشتراك المدفوع مِن هذه الفرق، فما حكم ذلك؟». ورد برهامى على السؤال قائلا «قد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِى خُفٍّ أَوْ فِى حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ» «رواه أبوداود والترمذى، وصححه الألبانى»، وعامة أهل العلم على أن الجوائز فى غير هذه الثلاثة غير جائزة، وجوَّز أبوحنيفة -رحمه الله- ما فيه منفعة للدين، وبالتالى لا نرى جواز إعطاء جوائز ذات قيمةٍ ماليةٍ فى مسابقات الكرة.
المفاجأة الكبرى هنا أن النظر إلى جدول أنشطة حزب النور فى نفس النطاق الزمنى لتلك الفتوى سيخبرنا بأن الحزب فى يونيو 2015، أعلن تنظيم مسابقة لكرة القدم فى محافظة الغربية، بمشاركة 42 فريقا من شباب المحافظ، يتم فيها توزيع جوائز.
برهامى المتناقض هو صاحب فتوى عدم المشاركة فى ثورة 25 يناير بفتوى صريحة وواضحة قال فيها: «انطلاقا من تمسكنا بديننا وشعورنا بالمسؤولية تجاه بلادنا، وحرصا على مصلحتها، وتقديما وتغليبا لأمن البلاد والعباد فى هذه الفترة العصيبة، وتفويتا لمقاصد الأعداء التى تهدف إلى نشر الفتن، نرى عدم المشاركة فى تظاهرات الخامس والعشرين من يناير».
الغريب أنه بعد استيضاح أمر انتصار الثورة كان برهامى وشيوخ الدعوة السلفية يوقعون على بيان اللجنة الشرعية الأول الذى أيد المظاهرات.
نفس التناقض الفج ظهر فى 2012 حينما رفض 7 من نواب وقيادات حزب النور السلفى، أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، ومن بينهم الشيخ ياسر برهامى، الوقوف احتراما للسلام الوطنى المصرى ولكن حينما صدر قرار بالحبس لمن لايقف احتراما للسلام الوطنى، أجاز برهامى الوقوف، بل وقاموا جميعا احتراما للسلام الوطنى فى حفل تنصيب الرئيس السيسى.
يعتبر برهامى وهذا ما سيفعله وما يفعله دومًا أن كل نقد وفضح له ولشيوخه هجومًا على الإسلام وعداء له، لذا انتبه لأن الكلام عن التيار السلفى فى مصر لا يعنى بالضرورة الكلام عن الدين، لا تسقط فى ذلك الفخ الذى يهوى مشايخ السلف نصبه دائمًا لكل منتقد، أو صاحب وجهة نظر مختلفة معهم، لكى يبدو الأمر فى النهاية أن المختلف معهم مختلف مع الدين، وبالتالى خاسر لمعركته قبل أن يعرف حتى أين أرضها.
تلك اللعبة يعيد تدويرها الآن رجال حزب النور والدعوة السلفية وعموم السلفيين فى مصر، يصدرون للناس أن كل خلاف فكرى معهم، أو كل انتقاد سياسى لهم، حرب على الله ورسوله، وكراهية فى الإسلام ومشروعه الذى لا يرون فيه سوى جانبه السياسى الواصل بهم إلى حيث توجد كراسى السلطة.
على حزب النور وأنصاره وبقايا تيارات الإسلام السياسى أن يدركوا حقيقة جلية تقول بأن الكلام عن التيار السلفى الآن كلام سياسى، والكلام فى السياسة يتحمل كل أوجه النقد، ولا يجوز معه استخدام سلاح الدين ترهيبًا أو ترغيبًا، ومادام شيوخ السلف والجماعات السلفية قرروا أن يلعبوا على المسرح السياسى، فعليهم تحمل تبعات اختيارهم، فليس لهم سوى ما يحصل عليه أهل السياسة إن أخطأوا أو أصابوا.
ولأن التكرار أحيانًا ما يقوم بتعليم الشطار، لنَقُلْ مرة أخرى إن الأمر هنا لا علاقة له بالدين، أو المنهج السلفى، سواء اختلفنا أو اتفقنا معه، الأمر هنا يتعلق بتيار دينى قرر أن يخوض غمار اللعبة السياسية بكل تفاصيلها، فليعتقد أهل التيار السلفى ما يعتقدونه دينيًا، سنحاربه بالكلمة والفكر إن رأينا منه خطرًا على العقول والحياة والوطن، تلك مرحلة أولى وهذا واجبنا، لا نريد من التيارات السلفية فتاوى متطرفة تفتت هذا المجتمع الذى يقتات بالعيش على تماسكه ووحدته، ولا نريد منهم أفكارًا متطرفة تعود بنا عشرات السنين إلى الوراء، ولا نريد منهم أن يعودوا بالمرأة إلى تلك السنوات العجاف التى كانت تعانى فيها من التهميش والتمييز والقهر والعنصرية باسم الدين، لم تعد مصر أصلًا فى وضع يسمح لها بأن تتحمل ضربات قاسية فى قلب كيانها عبر فتاوى متطرفة تحتكر الإسلام، مصر أكبر منكم جميعًا، وقبة الحياة السياسية والاقتصادية أكثر احتياجًا لأن تجلس أسفلها عقول لا تعرف معنى للاتجار بالدين، استقيموا وارحموا مصر يرحمكم الله.
يعد وائل حلاق واحدًا من أهم الباحثين الغربيين في قضايا الشريعة والنُّظم القانونية والفقهية الإسلامية، وقد اشتُهر مؤخّرًا بكتابه الذي أثار قدرًا كبيرًا من الجدل «الدولة المستحيلة»، واستثمارًا لهذا الزخم الذي صنعه حلاق يقدم مركز نماء للدراسات والبحوث ترجمة لكتابه مدخل إلى الشريعة الإسلامية للمترجمة طاهرة عامر. يحاول حلاق في هذا الكتاب تقديم دليل مبسّط للطالب المبتدئ في مجال القانون والشريعة الإسلامية، والمداخل الأساسية التي تُساعده على فهم هذا المجال. في الجزء الأول من الكتاب يناقش الباحث الممارسات ما قبل حداثية للشريعة الإسلامية، ثم يوضح في الجزء الثاني كيف تم تحوير هذه الشريعة، ثم تفكيكها في وقت لاحق أثناء فترات الاستعمار والدول ما بعد الاستعمارية.