خطاب السبعينيات التوفيقي حول مفهوم الدولة

الجمعة 31/أكتوبر/2014 - 02:13 م
طباعة خطاب السبعينيات التوفيقي حسام الحداد
 
اسم الكتاب: القرآن والدولة 
المـــــؤلف: محمد أحمد خلف الله
الناشــــــر: مكتبة الأنجلو المصرية 1973 ط1
o المؤسسة العربية للنشر 1981 ط2
محمد أحمد خلف الله
محمد أحمد خلف الله
شهدت السبعينيات مدًّا سلفيًّا برزت معه خطابات توفيقيّة، انطلقت في الغالب من مثقّفين وأكاديميين لا ارتباط لهم بالمؤسسات الدّينيّة، وهذه الحالة يمكن أن تشمل عدّة مفكّرين منهم محمد أحمد خلف الله وعبد الحميد متولّي صاحب كتابي "أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث" (ط 2، 1975) و"مبادئ نظام الحكم في الإسلام" (1978)، وهنا نعرض رؤية محمد أحمد خلف الله التوفيقية التي عرضها في كتابه " القرآن والدولة " والذي صدر في طبعته الأولى سنة 1973 ، وطبعته الثانية 1981،
محمد أحمد خلف الله أديب مصري وعالم باللغة العربية، تخرج في مدرسة دار العلوم العليا 1628، ثم درس الفلسفة وعلم النفس بجامعة لندن، وعاد إلى مصر ليشتغل بالتعليم، وتدرج في المناصب الجامعية حتى صار رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية 1947، فعميداً للكلية 1951 ثم وكيلاً لجامعة عين شمس 1916، وبعد بلوغه سن التقاعد عُين مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وكان عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، عرف في شبابه بنظم الشعر الجيد، والبراعة في الخطابة، وله مؤلفات وبحوث عديدة، نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب 1970، ومن مؤسسي حزب التجمع، وكان نائب لرئيس الحزب، ورئيس تحرير مجلة اليقظة، ومن مؤلفاته "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة"، مكتبة الأنجلو المصرية 1967، "دراسات في النظم والتشريعات الإسلامية"، مكتبة الأنجلو المصرية 1977، "علي مبارك وآثاره"، "الكواكبي.. حياته وأثاره"، "صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني في الرواية"، و"السيد عبد الله نديم، ومذكراته السياسية".
خطاب السبعينيات التوفيقي
ألّف "خلف الله" كتابه هذا للدّافع نفسه الذي جعل بعض حكّام العرب يلجؤون إلى السلفيّة فيعتمدون على مبادئ الشريعة الإسلاميّة في إصدار النظم الحديثة في مجال السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع، إنّ هذا الدّافع هو الحيرة العربيّة أمام الإيديولوجيّتين المسيطرتين على العالم زمن تأليف الكتاب: الرّأسماليّة في الغرب الأوروبي وأمريكا والشيوعية في الشرق الروسي والصيني، إنّ هذه الحيرة قد دفعت خلف الله للعودة إلى النص التأسيسي المقدّس، ليستلهم منه الصيغة القرآنيّة الخاصّة بالدولة، وقد أوضح أنّ هذه الصّيغة القرآنيّة تستخلص منها نتيجتان:
أوّلا: إنّ القرآن الكريم لم يضع إلاّ الخطوط الرئيسة الكبرى التي توجّه الإنسان إلى الحق والعدل.
ثانيا: إنّ القرآن قد ترك للإنسان التفصيلات وكلّ ما يتأثّر بالزّمان والمكان.
وهاتان الحقيقتان اللتان خلص إليهما خلف الله بعد بحثه جعل من توضحيهما وإبراز آثارهما مقصده الرئيس في الكتاب.
إنّ اعتبار أحد الباحثين أنّ خلف الله يمثّل التيّار الإنساني في بحثه في قضيّة الدولة، قد يعود إلى ما لم ينفكّ خلف الله يكرّره في كتاباته من أنّ البحث في قضيّة الدولة من اختصاص الإنسان وأنّ هذا البحث متطوّر ومتغيّر وخاضع للتاريخ على عكس من يعتبر أنّ البحث قد انتهى على ما قرّره القدامى من صيغ وشروط.
وهكذا عمد خلف الله إلى إعادة النظر في عدّة مفاهيم وألفاظ،  فنفى أن تكون سلطة الحاكم إلهيّةً، وسمح للإنسان بحق التشريع في غير المسائل الدينيّة التي وقع النصّ عليها بوضوح، وبذلك فصل بين سلطة إلهية لها حقّ التشريع الديني وسلطة بشريّة لها حقّ التشريع المدني لمسائل السياسة والحرب والاقتصاد والإدارة.
كما قدّم خلف الله مقترحًا إجرائيًّا عمليًّا لحلّ إشكاليّة اختيار أعضاء الهيئة التشريعيّة غايته الجمع بين قاعدة اختيار أولي الأمر القديمة وقاعدة الانتخابات العامّة الحديثة.
خطاب السبعينيات التوفيقي
إنّ هذا الحلّ التوفيقي سيتقهقر في أحيان كثيرة أمام حلول حديثة ومواقف جريئة يتخذها خلف الله، مثل تجويزه تعطيل النصّ في سبيل الصالح العام، واعتباره المواصفات الخاصة بدعاة التنظيم السياسي (الحزب) وشروط المرشّح لرئاسة الدولة ملائمةً لعصر الذين اجتهدوا فيها وأنّ من حقّنا أن نجتهد كما اجتهدوا، وهو بذلك يفتح أبواب الاجتهاد الموصدة على المكتسبات التي دعا علي عبد الرازق إلى بناء حياتنا على أساسها في كتابه "الإسلام وأصول الحكم": إنّها النظم والأفكار الحديثة.
ومن نتائج تحليلات خلف الله في كتابه هذا، أنّ القرآن الكريم لم يستخدم ولو مرّة واحدة أيّ مفهوم سياسي مماثل لما نعرفه اليوم في استخدامنا لكلمات الحكم والحكومة والحاكم، لقد ثبت القرآن عند استخدامه للكلمات المشتقّة من الجذر اللغوي (حـ كـ م) على معنى واحد لا غير، هو القضاء بمعنى الفصل في المنازعات والخصومات وكلّ ما يقع من خلاف بين الناس،
أمّا ثاني النتائج التي يستخلصها خلف الله، فهي أنّ شعار الحاكميّة لله حين يكون مصدره أمثال الآيات القرآنيّة "ومن لم يحكم بما أنزل الله" فليس يصحّ أبدًا أن تكون هذه الحاكميّة مقصودًا منها السلطة التي تحكم وتدير شئون المجتمع ما دامت كلمة الحكم في مثل هذه الآيات لم يقصد منها معنى السلطة هذه لا من قريب ولا من بعيد.
ويشدّد خلف الله على وجوب أن يكون معنى الحاكميّة لله مستمدًّا من المفهوم القرآني لمادّة حكم ومشتقاتها حسب الاستخدامات القرآنيّة لهذا المفهوم أي القضاء والفصل في الخلافات والخصومات والمنازعات.
خطاب السبعينيات التوفيقي
وتتمثل النتيجة الثالثة في أنّ القرآن الكريم عند حديثه عن الحكم بمعنى الفصل في الخصومات لم يجعل السلطة للحاكم بمعنى القاضي، وإنّما جعلها للتشريع الذي يحكم به القاضي، وهو في الحقيقة صادر عن الله، وما يمكن أن يبنى على هذا فيما يخصّ الإسلام أنّه دين وتشريع أو عقيدة وشريعة، ومن هذا المنطلق لا يصحّ أن يقال: الإسلام دين ودولة.
ورابع نتيجة هي أنّ الحاكم بمعنى القاضي أو الحكم لم يكن وقفًا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنّما كان يمتدّ إلى غيره من كلّ من يتحاكم الناس إليهم، وهذا إنّما يعني أنّ محمّدًا عليه السلام كان أحد الحكّام ولم يكن رئيسًا لهم، أي أنّه لم يكن رئيس دولة أو حكومة لا بالمعنى القديم ولا بالمعنى الحديث، (هذه النتيجة وصل إليها علي عبد الرازق قبله)
أمّا النتيجة الأخيرة، فهي تتمثّل في أنّ النبي لم يحكم الناس بمعنى قهرهم إلى حيث يريد وتوجيههم في الحياة حسب ما يريدون على الرغم منهم، لقد بعث الله محمدًا رسولاً ولم يبعثه حاكمًا أو رئيس دولة، ولو اقتضت حكمة الله أن يكون محمد رئيس دولة لكانت الصيغة القرآنيّة فاحكمهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم، وفي لهجة تقريريّة يقول: "يجب أن نفرّق دائمًا بين صيغة محمد يحكم الناس وصيغة محمد يحكم بين الناس، الصيغة الأولى هي التي تصلح لرئيس الدولة، أمّا الصيغة الثانية، فهي التي تصلح للقاضي والحكم وكلّ عبارات القرآن الكريم وردت في الصيغة الثانية الحكم بين الناس ولم تكن أبدا حكم الناس"،
وبعد، على الرغم من مشروعيّة مراجعة تراثنا وإعادة تأويله، فإنّنا ينبغي أن نتجاوز الحلقة المفرغة التي قد يؤدّي إليها قصر البحث في مفهوم الحكم على الجانب السياسي أو القضائي.
خطاب السبعينيات التوفيقي
فلم يعد هناك بدّ في القرن الواحد والعشرين من أن نركّز مجهودنا الفكري على تعميق النظر في الحكم، باعتباره موضوعًا لعلم السياسة، إنّ من مقتضيات الحداثة أن نضيف إلى التراث الفكري السياسي الحديث انطلاقًا من اقتناعنا بأنّ كلمة الحكم في كلّ جماعة من الجماعات تعني السلطة المنظّمة ومؤسسات القيادة والإكراه،
بقيَ أنّ تقوقعنا في دائرة ما أنتجه التراث أو ما يخيّل إلينا أنّه أنتجه يفوّت علينا فرصة إثبات طاقة الفكر الإسلامي الحديث على التكيّف مع آخر المستجدّات في علوم الإنسان عامّةً وفي العلوم السياسة خاصّةً.



شارك