من «آية الله» إلى «روحاني».. مراحل السيطرة الإيرانية على الأوضاع العراقية
الخميس 12/ديسمبر/2019 - 06:41 م
طباعة
محمد عبد الغفار
كانت أحداث 1979 نقطة فاصلة في تاريخ إيران، التي تحولت من دولة ذات علاقات إقليمية متوازنة وجيدة، إلى أخرى تسعى للتدخل والسيطرة والهيمنة على محيطها؛ لبث أفكار ثورتها الإسلامية، ونشر معتقداتها.
ولم يتوقف التدخل الإيراني عند حدود دولة بعينها، لكنه امتد إلى المحيط الإقليمي بأكمله، حتى باتت أذرع وميليشيات نظام الملالي تمتد في عدة دول عربية، مثل حزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق.
وكان للأخيرة نصيب الأسد من التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية، فالعلاقات «الإيرانية ــ العراقية» الأقدم توترًا في التاريخ؛ حيث تفاعلت الدولتان مع بعضهما البعض عبر ميراث مشترك، تضمن حربًا خلفت وراءها خليطًا من الكراهية، وتناقض الهوية والأزمات الأيديولوجية.
وكان احتلال الولايات المتحدة لبغداد عاملًا مساعدًا بالنسبة لإيران في التدخل بالشؤون العراقية، لذا كان السؤال، كيف تأثر العراق بالسياسة الخارجية الإيرانية خلال العقدين الأخيرين؟
السياسة الخارجية الإيرانية
ركزت الثورة الاسلامية الإيرانية منذ قيامها على التأثير في محيطها الجغرافي، ووضعت ذلك ضمن أهدافها العليا، ووضعته في الدستور، انطلاقًا من مفهوم عقائدي وحضاري.
واعتمدت السياسة الخارجية الإيرانية على تحقيق عدة أهداف، وعلى رأسها جوانب أيديولوجية، ممثلة في نشر مبادئ وأفكار وتصدير الثورة إلى دول المنطقة؛ بهدف تشكيل قاعدة ثابتة لهذه الأفكار في المحيط الإقليمي.
وكانت هذه الخطوة بمثابة نقطة انطلاق لتحقيق هدف أكبر وأهم بالنسبة لنظام الملالي، ممثلًا في إقامة جمهورية إسلامية في المنطقة، تتبع بصورة عقائدية وأيديولوجية وسياسية طهران.
واعتبرت طهران أن هذا الأمر يحافظ على أمنها القومي، ويمنحها القدرة على أن تكون دولة ذات كلمة مسموعة في منطقتها، ورأى آية الله الخميني (قائد ثورة عام 1979 التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي)، عند وصوله إلى السلطة أن أفضل طريقة يمكن أن يحافظ بها على نظامه هي تصدير الثورة للخارج، وعدم التركيز على إصلاح الشؤون الداخلية.
كما ركزت السياسة الإيرانية على رفع شعار عدم الانحياز؛ حيث رفضت الانضمام لأي من المعسكرين الشرقي أو الغربي، وكانت طهران ترغب من خلال ذلك إلى التأكيد على مكانتها وقوتها الإقليمية، وهو ما أكدت عليه المواد «152، و153، و154» من دستورها، كما ركز عليه «الخميني» في وصيته قائلًا: «عليكم أن تجتنبوا كل أمر يشتم منه رائحة التبعية؛ لأنها تؤدي إلى تفسخ جذور الدولة، حتى وإن كان لها مظهر خارجي جيد أو تؤدي لمنافع شخصية».
محاولات السيطرة على العراق
مرت العلاقة «العراقية ــ الإيرانية» بعدة مراحل، ركزت خلالها طهران على التمدد والسيطرة على بغداد، ويمكن تقسيم ذلك لعدة مراحل، ففي مرحلة الرئيس محمد خاتمي، الذي تقلد الحكم منذ 1997 وحتى عام 2005، حاول أن يتبع موقف الحياد الإيجابي في الحرب الأمريكية على العراق، أي أنه لم يقاتل فعليًّا إلى جانب قوات الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه لم يعرقل عملياتها.
ورغم موقف طهران المعلن الذي أدان الحرب، وطالبت بعدم حدوثها، إلا أنها في حقيقة الأمر كانت تهدف إلى نهاية سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم في العراق، ولكن ما كان يقلقها أن القوات الأمريكية سوف تطوقها من جهتين سواء في العراق أو أفغانستان.
كما أن قوات تابعة لميليشيا بدر التابعة للحرس الثوري الإيراني حاولت الاستفادة من حالة الفوضي الناجمة من الاحتلال الأمريكي، إذ ركزت خطة طهران على السيطرة على الشمال والوسط والجنوب، من خلال امتلاك الأراضي والعقارات، ونجحت في القيام بذلك، وتشكيل شبكة من المتمردين بقيادة عميل يُدعى مصطفى الشيباني.
وركزت السياسة الخارجية الإيرانية في تلك الفترة على الاعتراف بالحكومة الانتقالية في العراق، رغم أنها حكومة ناتجة عن قوة احتلال، إلا أن ذلك لم يمنع طهران من التعامل معها، ومع مجلس الحكم الانتقالي الذي سبقها؛ بهدف إيجاد موطئ قدم لنفسها.
كما عملت طهران على توطيد علاقتها مع المراجع الدينية الشيعية العليا في العراق؛ بهدف منع تأسيس دولة علمانية، والدفع بقيام دولة ذات مرجعية دينية تتماشى مع الأهداف الإيرانية.
وبادرت الخارجية الإيرانية بعقد أكبر مؤتمر اقتصادي مشترك بين وزراء عراقيين، وكبار التجار في طهران، وبلغ عدد من به 400 مسؤول، وهو ما اعتبر بداية فعلية للتدخل الإيراني في الشأن الداخلي للعراق.
وفي يناير 2004، قام وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي، بزيارة رسمية إلى دمشق، وحضر الاجتماع وفد تركي؛ بهدف التنسيق بشأن الأوضاع الداخلية العراقية، وخرج الاجتماع بتوصيات من أهمها منع تأسيس كيان كردي في العراق.
وفي ديسمبر من نفس العام، استضافت طهران اجتماعًا لوزراء داخلية العراق ودول الجوار؛ بهدف مناقشة آليات الحفاظ على الأمن القومي، وصرح «خرازي» باستعداد بلاده لتعزيز قواتها المرابطة عى الحدود، وندد بكل أعمال العنف في العراق، والتي تساعد في إطالة وجود القوات الأجنبية.
كما عملت إيران على تدريب أكثر من مائة رجل دين شيعي في مدينة «قم» جنوب العاصمة طهران، ثم عملت على إعادتهم مرة أخرى إلى العراق، تمهيدًا لإقامة حكومة شيعية، وذلك منذ عام 2003.
كما ركزت على دعم الأحزاب الشيعية، والتي نشأ بعض منها بداخل طهران، مثل حزب الدعوة الإسلامي، وهو ما ظهر واضحًا في انتخابات أعوام 2004 و2005 و2006 و2010، وكان الهدف أن يكون العراق ضعيفًا، ومكانًا لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أحمدي نجاد يواصل مخطط الإصلاح
واصل الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، 2005-2013، تحقيق الأهداف الأولى للثورة الإيرانية، من خلال الصدام مع العالم الخارجي بصورة واضحة، خشية من الوجود الأمريكي المكثف، ففي المناطق المحيطة بها.
لذا اهتم أحمدي نجاد بصورة واضحة بالملف النووي، واعتبره قضية أساسية في الوضع الإيراني؛ ما أسهم في إشعال الأوضاع فيما بينه وبين واشنطن بصورة كبيرة.
وكانت القضية العراقية ضمن أولويات «نجاد»، الذي استكمل ما بدأه سابقه محمد خاتمي، وكلاهما ينتمي للتيار الإصلاحي في إيران، وعلى الرغم من رغبة «نجاد» الانفتاح على الدول العربية، إلا أن العراق كان له وضع خاص، لاسيما مع عدم استقرار الأوضاع الأمنية بها خلال فترة رئاسة نوري مالكي للوزراء 2006-2013.
وساعد «نجاد» كثيرًا وجود حكومة ذات خلفية شيعية برئاسة المالكي، الذي عمل بصورة طائفية خلال حكمه للبلاد، وذلك بإيعاز من النظام الإيراني، وهو ما أسهم في طرد 511 سياسيًّا، وإيجاد ما عُرف باسم «هيئة المساءلة والعدالة ضد المرشحين السنة»، بإدارة أحمد الجلبي وعلي اللامي، وكلاهما معروف بعلاقته الوطيدة مع طهران.
ويتضح أن «نجاد» ركز على حصد ثمار الوضع الطائفي الذي زرعه الرئيس السابق «خاتمي»، لذا حاول تغيير وجهة العراق إلى وجهة دينية شيعية؛ ما يسمح لإيران بالوجود بداخلها عبر قوة دينية.
وعمل «نجاد» على استغلال الاقتصاد العراقي، وذلك عن طريق توقيع اتفاقيات متعددة مع الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني (2005 – 2014)، وهو ما عبر عنه «نجاد» قائلًا: «ربط الاقتصاد العراقي بعجلة الاقتصاد الإيراني»، مضيفًا «أن العراق وأفغانستان اللتين كانتا تمثلان تهديدًا مباشرًا لإيران، جعلهم الله في سلة إيران».
روحاني على الدرب
الأمر لم يختلف في عهد الرئيس الإيراني التالي حسن روحاني (أغسطس 2013)، الذي لم يغير من طريقة تعامل طهران مع الملف العراقي بصورة نهائية، ولكنه زاد الطين بلة، عن طريق دعم إيران بصورة واضحة وعلنية للميليشيات الإرهابية التي تحاول السيطرة على مقاليد الأمن في العراق، مثل عصائب أهل الحق، وميليشيات الحشد الشعبي وغيرهم.
كما ترك «روحاني» الملف العراقي في يد الحرس الثورى، ومكتب المرشد الأعلى بصورة مطلقة، خصوصًا الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، الذي يعد الحاكم الفعلي للعراق، والمسيطر على مقاليد الأمور به.
أي أنه أضاف بعدًا عسكريًّا واضحًا تم الاعتراف الرسمي به، إلى جانب البعد السياسي، الممثل في سيطرة حزب الدعوة الإسلامية على قيادة الحكومة لدورتين متتاليتين 2005 و2010.
لذا يتضح أن طهران تعاملت مع الملف العراقي وفقًا لعدة أبعاد، الأول، سياسي ممثلًا في سيطرة الأحزاب الموالية لإيران على الحكومة، والثاني أمني ممثلًا في الحضور المكثف للميليشيا والأذرع الإيرانية ببغداد، والبعد الثالث ديني عبر رجال الدين الشيعة المدربين بالأساس في مدينة قم.
واستغلت طهران الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ضربت العراق عقب الاحتلال الأمريكي في 2003، وعملت على التوغل والتغلغل، وهو ما نجحت به بالفعل، ولكن خرج الشعب العراقي في مسيرات حاشدة للتخلص من تلك السيطرة.