وثيقة الحرية والتعامل مع الأخر.. موعظة الجل
الأربعاء 31/مايو/2023 - 06:08 م
طباعة
"فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانُ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ" ( مت ۲۸:۷-۲۹) .
وما زلنا حتى اليوم من جيل إلى جيل نقف مشدوهين أمام كل وصية من وصايا المسيح، التي تتردد صداها في النفوس لتتخلل الضمائر، فتشد أفكارنا لما فيها من غرابة عن كل ما هو مألوف للمنطق البشري. وما زال الفكر الإنساني يغترف من غناها ليتفهم طبيعة وجوده وينهل منها تطبيقات إنسانية عملية لمسيرة حياته على الأرض. فلا يسع الإنسان إلا أن يري في قوة وجمال بنيانها العجيب إلا عملا إلهيا، ينظر للإنسان من علو وارتفاع الخالق ليضع النفس البشرية بكل تفاصيلها المستعصية تحت الرؤية وتحت الفحص. فما كان غير ممكنا أن نراه من أنفسنا رأيناه. وبذلك يقول لنا القديس بولس تغيروا عن شكلكم بتغيير أذهانكم فأصبح تغيير النفس وقيادتها الصعبة أمرا ممكنا ليصحح الإنسان مساره ويقوم اعوجاج مسيرته، ليقيم كل واحد كيانه الأبدي صلبا فوق الصخر. بذلك الحديث قدم المسيح لنا منهجا عمليا روحيا لبناء النفس البشرية حتى يتشكل إنسانا الملكوت في وضع غاية من الرفعة والتحضر.
الموعظة على الجبل هي العظة الأولى من خمسة عظات أقامت ملكوت السماوات على الأرض بقيام الكنيسة.
بهذه العبارة التي تعتبر علامة مميزة لإنجيله يختم القديس متّى الموعظة على الجبل، كما يضع عبارة مثيلة في ختام كل من مواعظه الخمس التي غيرت العالم وقادته إلى التحضر وأضفت
رؤية إنسانية جديدة
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلْأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلْأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ." (مت 5: 43-48)
إن كلمات السيد المسيح في الموعظة على الجبل هي موعظة في حقيقتها سمو ورقي بالذات الإنسانية لتصل إلى درجة حب الاعداء فهي فصل بين كراهية ما نختلف حولة وبين حب البشر للبشر مهما اختلفنا..لذا فيمكن ان نختلف في الرأي لكن لا يجب ابدا ان تختلف قلوبنا لدرجة التباغض.
إن الموعظة على الجبل تعبر عن منتهى الرقي الإنساني فنحن جميعا من نفس واحدة وأب واحد فكيف نكون اعداءا مهما اختلفنا في اي شأن من الشئون.
لذلك تجد ذات المعنى بالقرآن حيث يقول الله رب العالمين بالقرآن: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) }( سورة فصلت )
غاندي وتولستوي:
العظة على الجبل أو عظة الجبل الموعظة على الجبل، وتعرف أيضًا باسم شريعة العهد الجديد، مجموعة من الأقوال المنسوبة إلى السيد المسيح والموجودة في إنجيل متى (الفصول 5 و 6 و 7) التي تؤكد على تعاليمه الأخلاقية. وهي أول خطاب من خمسة خطابات في الإنجيل وكان أحد أكثر أقسام الأناجيل المقتبسة على نطاق واسع.
طرح المسيح في هذه العظة إحدى وعشرين قضية تنظيمية تشكل لب الإنجيل والعهد الجديد، موضحًا نقاطًا في شريعة موسى، وملقيًا عددًا من الإرشادات التي يلتزم بها المسيحيون. تدعى العظة (عظة الجبل) لأن المسيح ألقاها من على جبل، لعله أحد جبال الجليل بالقرب من كفر ناحوم. الشرّاح والمفسرين يرون في عظة الجبل لبًا لمواعظ المسيح جميعها، وقد يكون أعاد جزءًا منها في مواضع أخرى من بشارته خارج كفر ناحوم، ولعلها استغرقت عدة أيام، وهي تشكل ثلاث فصول كاملة من إنجيل متى، وأهمّ ما فيها التطويبات والصلاة الربيّة.
وقد تم تبني الأفكار التي تضمنتها هذه العظة من قبل العديد من المفكرين الدينيين والأخلاقيين، مثل تولستوي وغاندي. على الرغم من أن محتويات العظة في الغالب أقوال للسيد المسيح.
فيقول طوني سماحة في مقال له على موقع الحوار المتمدن بعنوان "يسوع الثائر.. غاندي والمسيح": ابتدأ غاندي قراءة الكتاب المقدس كيما يحافظ على وعد قطعه لأحد الاصدقاء بقراءته. وجد غاندي العهد القديم مملا بعض الشيء خاصة كتاب العدد، لكنه أصبح صيدا ثمينا في شبكة المسيح. ليس من دليل على أن غاندي اعتنق اللاهوت المسيحي، لكنه، ومن خلال قراءته الموعظة على الجبل (متى 5-7)، طوّر رؤيته وفلسفته السلمية للحياة التي قادته فيما بعد لتطبيقها على نطاق واسع في مقاومته الاستعمار. "يحتل يسوع مكانا مميزا في قلبي"، يقول غاندي لأبناء شعبه. "أريد أن أقول للهنود، حياتكم سوف تبقى قاصرة ما لم تتعرفوا على تعاليم المسيح".
الألم، الفقر، الصليب، الموت، السلام، المحبة، كلها جزء من ملكوت السماوات الذي بشر به المسيح. "لكن ما بهرني في شخص المسيح،" يقول غاندي، "هو الناموس الجديد الذي أتى به، ليس ناموس العين بالعين إنما ناموس من ضربك على خدك الايمن در له الايسر، وناموس من طلب منك ان تمشي معه ميلا، إمش معه ميلين". شكلت الموعظة على الجبل نواة المسيحية بالنسبة لغاندي وهذا ما جعل من المسيح شخصاغاليا على قلبه. وفي النهاية، شكل الصليب النهاية المنطقية والحتمية للمسيح الذي على كل من أراد اتباع تعليمه ان يحمله هو أيضا.
عندما توجه غاندي الى مستعمريه الانكليز خاصة والى المسيحيين عامة، قال لهم "أحب مسيحكم وأنفر منكم أيها المسيحيين، لأنكم لا تشبهون مسيحكم أبدا... أيها المسيحيون، خاصة المبشرون فيكم، عليكم ان تعيشوا كالمسيح. عليكم ان تنشروا انجيل المحبة وأن تتعمقوا بدراسة الديانات المختلفة كيما ينشأ لديكم قبولا لإيمان الآخرين."
في كتابه "ماهو إيماني؟"، المنشور في العام 1884، يروي ليف تولستوي كيف اهتدى إلى مذهب المسيح وكيف غيَّر ذلك حياته كلها. إن فقرتي الإنجيل اللتين صارتا بنظره "مفتاح كل شيء" وفتحتا له معنى تعليم المسيح هما الآيتان 38 و39 من الإصحاح الخامس من إنجيل متَّى اللتان تلغيان شريعة "العين بالعين" وتدعوان المسيحي إلى عدم مقاومة الشر بالعنف: "سمعتم إنه قيل: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر".
أراد تولستوي أن يفهم هذا الكلام بمدلوله المباشر، طاعنًا في صحة كل مراوغة تتيح الالتفاف عليه. فمؤداه بنظره واضح: لا ترتكبْ أبدًا عنفًا، بعبارة أخرى، لا ترتكب أبدًا أية فعلة مناقضة للمحبة.
ويقول تولستوي مدققا: حالما أدركت معنى هذه الكلمات البسيط والدقيق، كما قيلت، سرعان (....) ما انصهر كل شيء في كلٍّ متناغم، كل جزء منه يكمل الجزء الآخر، مثل قطع تمثال محطم يتم جمعها بحسب الأصول. في الموعظة على الجبل، كما في سائر الأناجيل، من كل الأنحاء، كنت أرى مذهب عدم مقاومة الشر بالعنف نفسه يتأكد.
وفي كتابة "ملكوت الله فيكم" الذي انتهى من وضعه في العام 1893 والذي نُشِرَ في العام نفسه في فرنسا بعنوان الخلاص فيكم، دقق تولستوي لماذا يعتبر هذا الدين الرسمي المسمى "مسيحية" من قبيل الهرطقة فيقول: إنه برأيي يفترق عن دين المسيح في العديد من نقاط الخلاف التي تبينتُ في عدادها أول ما تبينتُ إلغاء الوصية التي تحرِّم علينا مقابلة الشر بالعنف. إن هذا التباين المذهبي، أكثر من أي تباين سواه، يبين بوضوح إلى أي حدٍّ شوهت الكنيسة الرسمية مبادئ المسيح.
ويخاطب تولستوي جميع الذين يشجبون تصوره للمسيحية بهذه العبارات: كيف نوفق بين العقيدة التي عبَّر المعلم بجلاء والمحتواة في قلب كل منا – الغفران، التواضع، الصبر، محبة الجميع، أصدقاء وأعداء – وبين فريضة الحرب بكل عنفها على مواطنينا أو على الغريب.
فليس عنده أدنى شك في أنه "محرَّم على المسيحي إتيان أي عنف"
إن السبب الرئيس للتفسيرات الزائفة لرسالة الإنجيل بحسب تولستوي، كما نوَّه ألان رفالو، هو فكرة أن شريعة موسى القديمة (العين بالعين والسن بالسن) يجوز أن تتوافق مع شريعة يسوع الجديدة التي تقضي بعدم الرد على الشر بالعنف. شريعة يسوع تنطوي على نسخ شريعة موسى وتفرض هذا النسخ. فالشريعتان لا يجوز أن تتوافقا ولا تتكاملا لأنهما، بكل بساطة، تتناقضان تناقضًا جذريًّا حول مسألة أساسية هي شرعية اللجوء إلى الغضب والإدانة والعنف والحرب.
التعامل مع الأخر:
"لا تدينوا لكي لا تدانوا. لانكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون. وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين اخيك. واما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. ام كيف تقول لأخيك دعني اخرج القذى من عينك وها الخشبة في عينك. يا مرائي اخرج اولا الخشبة من عينك. وحينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين اخيك. لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير. لئلا تدوسها بارجلها وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 1-6)
في الجزء الخامس من "عظة الجبل" يستكمل السيد المسيح منهجه الروحي ليضع الأساس لعلاقة الفرد بالآخر والمجتمع. وبقدر ما حرص في ما سبق من العظة وحديثه عن تحرير النفس واحترام حرية الفرد ففي هذا الجزء يضع للفرد القواعد لاحترام حرية الآخر ويرسي علاقة الفرد بالمجتمع. إن كان الله يحترم حريتنا حتى أنه لا يستطيع أن يفرض علينا أرادته دون موافقتنا، فيلزم أن نحافظ على حرية الآخر الذي من حقه أن يرفض التعدي على حريته ونقده إخضاع الآخر لرأيي وقياساتي التي تحتمل الخطأ والصواب وأن أضعه في مجال رؤيتي التي تشل حركته أمر مرفوض روحيا وأخلاقيا.
والوصايا الخاصة بالعلاقة مع الآخر وربط ذلك بالعمل الروحي لبناء النفس تركزت في "الإدانة، افعلوا ما تريدوا أن يفعل الناس بكم، المعلمون الكذبة"، وفي كتابه "وثيقة الحرية.. الموعظة على الجبل" يقدم لنا المهندس فؤاد نجيب يوسف دراسة تحليلية لما جاء في الموعظة حيث يعرف "الإدانة" بأنها اعتداء على حرية ورأي الآخر وامتهان لحقه في أن يختار أفعاله دون قيد، إن مراقبة خطأ الآخر طبقا لقياساتي ورؤيتي الشخصية للأصول والقانون والناموس، أمر ليس فقط يضر الآخر بل يضر من يدين ويضر المجتمع كله. إنه يجعل من الآخر مجرد موضوع يخضع لخبرتي ورؤيتي المحدودة. خطية الإدانة تعتبر من أسوء الخطايا التي تخضع النفس لعبودية الآخر، وهي السبب الذي يجعل الإنسان يعمل حسابه لأقوال الناس بحسب المظاهر دون اعتبار للحق والضمير فيفقد الإنسان حريته من أجل رأي الناس، ويضطر للنفاق. دافع الإدانة أن يرفع الإنسان نفسه فوق الجميع والتقليل من شأن الآخر. فالدافع إما يكون الكبرياء أو الغيرة أو الحسد حيث لا يريد الإنسان أن يكون هناك من هو أفضل منه. الإدانة تعوق الآخر وتحبط محاولاته في إصلاح نفسه بسبب رؤية الناس له وتلك هي العثرة في أسوء صورها.
الإدانة هي خطية المتدينين والرؤساء إنها خطية الفريسي الذي يري في نفسه البر ويبدأ يحاسب الناس طبقا لأحكام ومقاييس شخصية غير ثابتة. "ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها"
فإدانة الآخر تعتبر من أخطر الخطايا التي تفقد الإنسان قدرته على رؤية الحق في حياته الشخصية من ينتقد الناس في كل شيء يسقط بسهولة في نفس الخطأ بطريقة أسوء. إن رأيت نفسك معذبا بضعف أو خطية لا تستطيع الشفاء منها فقد يرجع السبب لأنك لا ترحم من لسانك ونقدك الخطاة بهذه الخطية. "لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة والرحمة تفتخر على الحكم" (يع ۱۳:۲)
الإدانة عمل يختص بالعلاقات على المستوى الشخصي الفردي أما على مستوي المجتمع فكل فرد مسئول ويلزم أن يكون أمينا في ما يُكلف به، ويتحمل المسئولية كاملة كل حسب واجبه الوظيفي. كل واحد مسئول عن قراراته ويلزم أن يتوقع حكم المجتمع عليه ومحاسبته على أي تقصير فيما يقدم من عمل. لا يوجد من هو كبير على المحاسبة بل كلما كبرت مسئوليات الإنسان تكون محاسبته ضرورية. وحتى لو كان الشخص يقوم بعمل تطوعي فهو ملتزم أمام المجتمع بأن يقدم عملا كاملا ولا بد أن يتوقع المحاسبة دون أن يعتبر ذلك إدانة. فالإدانة هي علاقة فرد بسلوك فردي شخصي. كل من يعمل لخدمة المجتمع يلزم أن يحاسب، فهو مطالب بأن يقدم حساب وكالته أمام الناس والله وبقدر ما له الحق في أن يدافع عن خدمته، بقدر ما المجتمع له الحق أن يسائله دون أن نعتبر ذلك إدانة.
يختم المسيح الحديث عن الإدانة بعبارة تبدو أنها عكس حديثه السابق عن الإدانة حسب الفكر الشائع اليوم. التعليم عن الإدانة ليس هدفه إنكار أو تجاهل حقيقة الشر والتقليل من بشاعته لكن الهدف هو عدم التدخل في حرية الآخر كما يعاملنا الله حتى عندما نخطئ في نفس الوقت يلزم أن يكون لنا موقفا واضحا من الشر والأشرار الذي يؤثر علينا حتى نتجنب أضرار شرورهم .
افعلوا ما تريدوا أن يفعل الناس بكم
«فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالْأَنْبِيَاءُ» (مت ١٢:٧).
ويستكمل نجيب يوسف ويقول: بهذه الآية يقدم السيد المسيح الخلاصة الوافية لعلاقة المسيحي بالآخر. واضح أن هذه الآية تكمل الحديث عن الإدانة وهي تؤكد أن حديث الموعظة على الجبل كله يدور حول العلاقات الفردية. عندما يضع الإنسان نفسه في موضع الأخر فهو سلوك إنساني حضاري يعصم الإنسان ويصحح سلوكه ومشاعره ويؤهله لقبول الآخر كما هو دون أن يحاول تغييره. في ذلك تكميل لوصايا الناموس والأنبياء ليصحح رؤية الفرد ومشاعره نحو الآخر بواقعية وعدل تعمل على المصالحة ووحدة الجماعة.
"احترزوا من الانبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا. هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة. واما الشجرة الردية فتصنع اثمارا رديّة. لا تقدر شجرة جيدة ان تصنع اثمارا رديّة ولا شجرة رديّة ان تصنع اثمارا جيدة. كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. فاذا من ثمارهم تعرفونهم الرب نوري" (مت 17: 15-20)
ويقول نجيب يوسف: عندما يقول المسيح لا تدينوا فهو لا يلغي حق الإنسان في التمييز والاحتراز من سلوك الآخر المعادي. لذلك فبعد أن يشجب خطية الإدانة ينبه احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ليكمل الفكر الروحي. فذلك الاحتراز ليس إدانة بل هو ضرورة يوصي بها المسيح تحتمها المشاركة المجتمعية. الخلط بين الاحتراز والإدانة أمر يفسد سلوك الفرد ويضر بالمجتمع جدا حيث النفاق والتغطية على الشرور مما يثير الفوضى والخداع ونشر الفساد في المجتمع تحت غطاء ديني. عدم الإدانة لا يعني أن يلغى الإنسان عقله وقدرته على التمييز بين الخير والشر كضرورة إنسانية في المعاملات سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، «لا تكن بارا كثيرا ولا تكن حكيما بزيادة لماذا تخرب نفسك» (جا ١٦:٧). المبالغة في مظهر البر يؤدي إلى تخريب النفس. السذاجة في تميز الإنسان الشرير وما يضمره من شرور أمر يتنافى مع الحكمة الروحية، "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام» (مت ١٦:١٠). المسيح الذي يرسل خرافه بين الذئاب يستودعهم الحكمة والتمييز لينقذهم من الذئاب ليس بالسذاجة والبلاهة.
المسيح لم يقل لا تدينوا لكي لا تدانوا ليحمي الشرير والانتهازي والمغامر لكي ينفث شروره وأضراره في المجتمع بحرية دون محاسبة ، بل الهدف هو أن يحمي حرية الفرد في ضعفه، من تشهير المجتمع به حتى يعطيه الفرصة أن يراجع نفسه ويرجع عن الخطأ بكل حرية، كما أنه عندما يقول احترزوا من الأنبياء الكذبه فهو يحمي المجتمع من خطاً الفرد خصوصا من الانتهازي طالب المنفعة. الأنبياء الكذبة يقصد بهم المعلمين والقادة الانتهازيين .
وأخيرا فانه بدون النقد الواعي تسقط الإنسانية تحت تأثير الجشع وأنانية الفرد التي تقود المجتمع الغير واعي للفساد والضياع. النقد والمحاسبة يصححان مسار الإنسان ويوجهان المجتمع نحو حياة أفضل بالإصلاح، فيتحقق هدف الوجود في التقدم المستمر. إن أخطر ما يمكن أن يتعرض له مجتمع هو توقف النقد وتعويق محاسبة المسئولين خصوصا إذا استُخدمت في ذلك شعارات دينية مضللة تخاطب عواطف الشعب لتمنعه عن استخدام العقل مثل استخدام شعار لا تدينوا لكي لا تدانوا»، لتعوق محاسبة المسئولين عن الخطأ. كان عمل الأنبياء الرئيسي هو نقد المجتمع خصوصا قيادات الشعب الملوك والكهنة. كان ذلك أمراً حيوياً لازماً لتصحيح مسار المجتمع وقيادته نحو حياة أفضل. لذلك أرسل الله الأنبياء للمجتمعات القديمة لنقد الملك ورجل الدين، لتصحيح مسيرة المجتمع قبل أن تحدث الكوارث الناتجة عن الفساد. ولقد تعرض أنبياء العهد القديم جميعا في أداء رسالتهم الناقدة لجميع أنواع الإهانات والتجريح والتشكيك، بل والرفض والتعذيب والقتل ولقد قام السيد المسيح بذلك النقد الواعي. ولقد كان نقده للشر والفساد المجتمعي هو الطريق للصليب. وكل من يتبع المسيح يلزمه أن يحمل الصليب خلفه. التمسك بالحق هو طريق الصليب الحتمي الذي يتجنبه الكثيرون بالنفاق والغش.