التلاعب بالدين.. قراءة نقدية لافتتاحية داعش الأخيرة
الجمعة 29/نوفمبر/2024 - 03:01 م
طباعة
حسام الحداد
تمثل افتتاحية العدد 471 من صحيفة النبأ الصادرة عن تنظيم داعش نموذجاً واضحاً لاستراتيجية الخطاب الدعائي للتنظيم، حيث يسعى إلى الجمع بين المكوّن الديني والمشروع العسكري في سياق يعكس رؤيته العقائدية. تأتي هذه الافتتاحية في مرحلة يعاني فيها التنظيم من تراجع جغرافي وعسكري، ما يجعله أكثر حاجة إلى تعزيز حالة الالتزام الإيديولوجي لعناصره بهدف الحفاظ على تماسكهم واستمرارية مشروعه.
تُركز الافتتاحية على مفهوم "التربية الإيمانية"، باعتبارها ضرورة دائمة للمجاهد في كل مراحل حياته، حتى في لحظات السكون والابتعاد عن المعارك. ومن خلال هذا الطرح، يُحاول التنظيم إعادة تعريف الجهاد كمفهوم شامل يتجاوز ميدان القتال ليشمل الحياة اليومية للعناصر. يتضح أن الخطاب موجه بالأساس نحو أفراد التنظيم لضمان تعزيز انضباطهم الداخلي وحمايتهم من الانزلاق الفكري أو ضعف الارتباط بالتنظيم.
تأتي هذه الرسالة في سياق أوسع تحاول فيه التنظيمات المتطرفة التأكيد على مركزية العقيدة كأداة لاستمرارية مشروعها رغم الهزائم الميدانية، حيث تعكس هذه الافتتاحية محاولة لاستنهاض القاعدة المؤمنة بالفكر الداعشي وتجديد ارتباطها النفسي والروحي بمشروعه. إنها دعوة للتعبئة من الداخل، تستغل النصوص الشرعية والتفسيرات المؤدلجة لترسيخ صورة مثالية للمجاهد، في مواجهة تحديات الواقع الذي يزداد صعوبة على التنظيم.
تحليل بنية الخطاب
تبدأ الافتتاحية بمقدمة تُحدد موضوعها بوضوح: حاجة "المجاهد" إلى تعزيز التربية الإيمانية.
تنتقل إلى تفصيل أهمية الإيمان ودوره كـ"وقود" لاستمرار المجاهد في طريقه، مع استشهاد مكثف بالآيات القرآنية والتفسيرات الشرعية لتعزيز الحجج.
تختتم بمواصفات "المجاهد المثالي" الذي يتسم بالتوازن بين الجانب الإيماني والقتالي.
الهيكلية تخلق خطاباً منظماً يجمع بين الوعظ والتوجيه، معتمداً على أسلوب متكرر التأكيد لزيادة التأثير على المتلقي.
اللغة والأسلوب:
يتسم النص بلغة دينية مشبعة بالألفاظ الإيمانية مثل: "الخشية"، "الخشوع"، "التقوى"، "الإخبات"، إضافة إلى ألفاظ قتالية مثل "الجهاد"، "النفير"، "المعسكرات".
يزاوج الخطاب بين لغة الإقناع (العقلية) ولغة التأثير العاطفي (الإيمانية)، ليشحن المتلقي دينياً ويعزله نفسياً عن الواقع الخارجي.
استخدام النص للمصطلحات ذات الطابع الإيماني يعزز من الشرعية الذاتية للخطاب ويحاول التلاعب بمشاعر المتلقي.
الأيديولوجيا الكامنة في النص
يقدّم النص الجهاد باعتباره محور الحياة، بحيث يعلو فوق العبادات الأخرى مع التأكيد على أن "أفضلية الجهاد" لا تُغني عن التربية الإيمانية. هنا يظهر سعي التنظيم إلى تقديم الجهاد ليس كفعل عسكري فقط، بل كحالة مستدامة تلزم الفرد في كل مراحل حياته، حتى في فترات الراحة أو البُعد عن ساحات القتال.
يُعيد النص تعريف بيئة الجهاد، ليشمل الحياة اليومية و"المضافات"، في محاولة لإبقاء عناصر التنظيم ضمن إطار المسؤولية الدينية المستمرة. الهدف هنا توسيع دائرة الجهاد بحيث لا تقتصر على الاشتباكات، مما يساعد التنظيم على الحفاظ على تماسك أفراده وإبقائهم داخل الإطار الفكري للجماعة حتى في غياب العمليات العسكرية.
كما يُلمّح النص إلى "عدو داخلي"، متمثل في ضعف الإيمان أو النزعات الفردية التي تُضعف المجاهد. كما يشير إلى "عدو خارجي"، يتمثل في القوى المعادية للتنظيم. هذا التقسيم يسعى إلى تعزيز حالة التأهب لدى عناصر التنظيم، مع التذكير بأهمية الانضباط الداخلي للتفوق على العدو الخارجي.
بالإضافة إلى ذلك، يوظّف النص مفهوم الجهاد كعملية تطهير ذاتي تسبق وترافق الفعل العسكري، حيث يعيد تشكيل العلاقة بين "الجهاد الظاهر" المتمثل في القتال، و"الجهاد الباطن" المرتبط بتزكية النفس وتعزيز الإيمان. هذه الثنائية لا تُقدَّم فقط كعامل تعزيز للفرد المجاهد، بل كشرط ضروري لضمان نجاح التنظيم ككل، إذ يتم تصوير التربية الإيمانية كخط دفاع داخلي يحمي التنظيم من الانهيار أمام الأعداء الخارجيين أو الضعف الداخلي. بهذا، يسعى النص إلى إضفاء شرعية روحية على نشاطات التنظيم وربطها بمسار طويل من "الارتقاء الإيماني"، ما يجعل الالتزام العقائدي جزءاً لا يتجزأ من الفعل العسكري.
كما يُظهر النص بُعداً آخر لتوسيع مفهوم الجهاد من خلال محاولته فصل الفرد عن بيئته الاجتماعية والثقافية المعتادة. فهو يشير ضمنياً إلى ضرورة انفصال المجاهد عن أي نظام اجتماعي أو ثقافي يتعارض مع منهج التنظيم، ليصبح المجاهد في حالة دائمة من "الاغتراب العقائدي" الذي يدفعه إلى البحث عن معاني الجهاد والتضحية فقط داخل إطار التنظيم. هذه الاستراتيجية تهدف إلى ترسيخ عزلة الأفراد نفسياً واجتماعياً عن محيطهم، وبالتالي تعزيز تبعيتهم الكاملة للأيديولوجيا الداعشية وتحويلهم إلى أدوات طيّعة داخل مشروع التنظيم.
الحجاج والدعاية
يعتمد النص بشكل كبير على الآيات القرآنية والتفاسير لتعزيز حججه. فعلى سبيل المثال، استشهاده بالآية: {وَتزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْر الزَّادِ التقَّوَىٰ} يعكس محاولة للتأكيد على أهمية الإعداد الروحي، مما يُعطي خطاب التنظيم شرعية دينية واضحة.
كما يقارن النص بين منهجين متناقضين: فريق يبالغ في أهمية التزكية الإيمانية حتى يجعلها شرطاً يعطّل الجهاد، وفريق يُهملها تماماً لصالح القتال فقط. ثم يطرح التنظيم نفسه كممثل للوسطية بين المنهجين، ليُظهر خطابه كالأكثر اتزاناً، وهو أسلوب حجاجي يحاول كسب ثقة المتلقي.
يتم تفعيل الخوف من "ضعف الإيمان" باعتباره أحد أهم أسباب الهزيمة، وفي المقابل يُقدَّم الأمل في "المجاهد المثالي" الذي يستطيع التفوق من خلال التربية الإيمانية. هذا التوازن بين الترهيب والترغيب يُبقي الأفراد تحت تأثير الحاجة إلى الالتزام بتعاليم التنظيم.
علاوة على ذلك، يستخدم النص آلية "الاحتكار التأويلي" للنصوص الشرعية، حيث يُقدّم تفسيراته للآيات القرآنية والأحاديث النبوية باعتبارها الفهم الصحيح والحصري للدين. هذا الأسلوب يعزز سلطة التنظيم على أتباعه، ويمنع أي محاولات للتأويل المختلف أو النقد، إذ يتم تصوير الالتزام بتفسيرات التنظيم كجزء من الطاعة الإيمانية التي لا تقبل النقاش. وبهذا، يتحول النص إلى أداة لإغلاق دائرة التفكير لدى الأفراد وربط فهم الدين كلياً بمنهج التنظيم، مما يضمن بقاءهم في إطار الولاء الفكري والعقائدي.
كما يعتمد النص على أسلوب الإيحاء الجماعي، حيث يتم تقديم التربية الإيمانية كمسؤولية فردية وجماعية في آن واحد. هذا الأسلوب يخلق شعوراً بالضغط المتبادل بين الأفراد داخل التنظيم، بحيث يصبح كل فرد حارساً على إيمان الآخرين وأدائهم. وبهذه الطريقة، لا يُسمح لأي شخص بالخروج عن الخط الفكري أو الروحي للتنظيم دون مواجهة العزلة أو الشعور بالفشل الجماعي، مما يعزز انضباط المجموعة ويحافظ على ولاء الأفراد تحت تأثير دائم من الرقابة الداخلية.
الأهداف الدعائية للخطاب
يسعى التنظيم من خلال هذه الافتتاحية إلى تعزيز حالة الانضباط الداخلي لعناصره، عبر الدعوة إلى المراجعة المستمرة للنفس وإعادة شحن الإيمان.
وعبر تقديم التربية الإيمانية كأداة ضرورية للجهاد، يحاول التنظيم إضفاء شرعية دينية على فكره، مع عزل عناصره نفسياً عن العالم الخارجي الذي يوصف بـ"الجاهلية".
كما ان النص يوجه رسالة غير مباشرة بأن الابتعاد عن التربية الإيمانية يعني ضعف الإيمان وبالتالي الانحراف أو الهزيمة. هذه الرسالة تضمن أن يبقى الفرد ضمن دائرة الالتزام بتنظيم داعش.
بالإضافة إلى ذلك، تهدف الافتتاحية إلى ترسيخ مفهوم الاستمرارية في الالتزام بالتنظيم، حتى في الفترات التي قد يغيب فيها النشاط العسكري المباشر. من خلال تصوير التربية الإيمانية كعملية دائمة لا تتأثر بالظروف الميدانية، يسعى التنظيم إلى ملء الفراغ الزمني والنفسي لعناصره، مما يضمن إبقاء ولائهم وتحفيزهم بشكل مستمر. هذا يعكس استراتيجية طويلة الأمد للتنظيم، تهدف إلى بناء أتباع غير قابلين للانفصال عنه، سواء في أوقات الهدوء أو أثناء فترات الاشتباك.
كما يُلاحظ أن النص يُحاول بناء صورة بطولية للمجاهد المثالي الذي يجمع بين الإيمان العميق والكفاءة القتالية، مع تصويره كقدوة يُفترض على الأفراد الاقتداء بها. هذه الصورة تُستخدم كأداة دعائية لتشجيع أفراد التنظيم على بذل المزيد من الجهد والسعي لتحقيق هذه المثالية، مع خلق تنافس داخلي يؤدي إلى تعزيز ارتباط الأفراد بفكر التنظيم وسلوكياته. وبذلك، تصبح هذه الصورة البطولية وسيلة ضغط نفسي تُحفّز المجاهدين على الاستمرار في أداء أدوارهم داخل التنظيم، مهما كانت الظروف المحيطة.
نقد خطاب داعش
يُظهر الخطاب انتقائية واضحة في تفسير النصوص الدينية، حيث يتم توظيفها فقط لتأييد رؤى التنظيم، دون اعتبار للسياقات الشاملة للآيات أو التفسيرات الأخرى التي قد تُظهر تفسيرات مغايرة.
كما يرسم النص صورة مثالية لـ"المجاهد"، تجمع بين الكمال الإيماني والبراعة القتالية. هذه الصورة ليست فقط غير واقعية، بل تضغط على الأفراد وتُسهم في خلق شعور مستمر بالذنب أو التقصير، مما يُعزز التبعية للتنظيم.
والخطاب يُغفل الجوانب الإنسانية والنفسية للفرد، ويُركّز فقط على تعزيز ارتباطه العقائدي بالتنظيم. هذا يُحوّل المجاهد إلى أداة فاقدة للقدرة على التفكير النقدي أو التفاعل الإنساني الطبيعي.
علاوة على ذلك، يُظهر الخطاب تجاهلاً للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المحيط، إذ يقدم تصوراً معزولاً للجهاد والتربية الإيمانية دون الإشارة إلى الظروف الملموسة التي يعيشها الأفراد. هذا التجاهل يعكس استراتيجية التنظيم في تهميش القضايا الواقعية التي قد تؤدي إلى تشكيك الأفراد في جدوى التضحيات الكبيرة المطلوبة منهم. بدلاً من ذلك، يُحاول التنظيم ترسيخ خطاب عقائدي مغلق يعزل الأفراد عن التفكير في الأسباب الحقيقية التي دفعتهم للانضمام إليه أو في البدائل المتاحة.
كما يتجاهل الخطاب تنوّع الخلفيات الفكرية والثقافية للأفراد داخل التنظيم، إذ يُفترض وجود قاعدة موحدة من الفهم والالتزام، مما يُلغي أي مساحة للحوار أو التفاعل الداخلي. هذا النهج يعزز من طابع التنظيم السلطوي، حيث تُفرض الأيديولوجيا بشكل قسري دون مراعاة لحاجات الأفراد المختلفة أو اختلاف مستوياتهم الفكرية والدينية. هذا الإقصاء لأي تنوع فكري يُضعف مرونة التنظيم على المدى الطويل، ويجعل خطابه أقل قابلية للاستيعاب من قبل أفراد جدد قد يبحثون عن إجابات تتجاوز إطار الرؤية الضيقة التي يفرضها.
خاتمة
افتتاحية العدد 471 من صحيفة "النبأ" تُظهر كيف يستخدم تنظيم داعش التربية الإيمانية كأداة دعائية لتعزيز الانضباط الداخلي وإبقاء أفراده ضمن منظومة فكرية مغلقة. الخطاب، رغم بنائه المنهجي ولغته المؤثرة، يفتقر إلى المصداقية والواقعية، إذ يتلاعب بالنصوص الشرعية، ويضع أعباء مثالية على أفراده. إن هذا النوع من الخطابات يُبرز الطبيعة التلاعبية للتنظيم، الذي يسعى إلى خلق مجتمع مغلق يتغذى على الإيمان الأيديولوجي المعزول عن الدين الحقيقي والإنسانية.
إن هذا الخطاب الدعائي يُظهر بوضوح كيفية استغلال تنظيم داعش للمفاهيم الدينية كأداة لفرض سيطرته على أتباعه، ليس فقط من خلال تقديم رؤية مشوهة للتعاليم الإسلامية، ولكن أيضاً عبر خلق شعور دائم بالذنب والتقصير لدى عناصره. هذا النهج لا يهدف إلى تعزيز الإيمان بقدر ما يهدف إلى تكريس حالة من التبعية المطلقة للتنظيم، مما يُفقد الأفراد القدرة على التفكير المستقل أو إعادة النظر في خياراتهم.
علاوة على ذلك، فإن التركيز على التربية الإيمانية كشرط للاستمرارية في "الجهاد" يكشف عن استراتيجية التنظيم في سد الثغرات النفسية والعقائدية التي قد تنشأ لدى أفراده. بدلاً من معالجة هذه الثغرات بطرق واقعية وإنسانية، يلجأ التنظيم إلى استغلالها كفرصة لإعادة إنتاج الولاء وتعزيز ثقافة التماسك الداخلي، حتى لو كان ذلك على حساب الأفراد أنفسهم. هذا الأسلوب الدعائي يتجاهل الطبيعة البشرية ويحوّل أتباع التنظيم إلى أدوات تخدم غاياته بعيداً عن أي مراعاة لحاجاتهم أو طموحاتهم الفردية.
وأخيراً، فإن افتقار الخطاب إلى الواقعية وعدم قدرته على التكيف مع المتغيرات الميدانية والاجتماعية يكشف عن ضعف التنظيم في مواجهة التحديات الحقيقية. إن التركيز المفرط على الجوانب الإيمانية كوسيلة للبقاء يعكس تراجع التنظيم عن تقديم رؤية متماسكة وشاملة للتعامل مع أزماته. هذا النهج قد يضمن ولاء الأفراد لفترة قصيرة، لكنه في المدى الطويل يؤدي إلى انشقاقات داخلية وفقدان الحماسة لدى العناصر التي تبحث عن واقع أكثر ارتباطاً بالقيم الإنسانية والدينية الحقيقية، بعيداً عن التفسيرات المؤدلجة التي يفرضها التنظيم.