ترامب و"تطهير غزة".. استمرار سيناريو التهجير القسري للفلسطينيين

الإثنين 27/يناير/2025 - 04:19 ص
طباعة
 
عاد مقترح تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الواجهة مرة أخرى، هذه المرة عبر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي طرح فكرة "تطهير غزة" عبر نقل سكانها إلى دول مجاورة، وتحديدًا مصر والأردن. هذه الفكرة، التي تبدو وكأنها حل لمشكلة القطاع، تعكس في جوهرها توجهًا سياسيًا قديمًا يسعى إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي للفلسطينيين بما يخدم المصالح الإسرائيلية. فمنذ النكبة عام 1948، شهد الفلسطينيون محاولات متكررة لإجبارهم على مغادرة أراضيهم تحت ذرائع أمنية وسياسية، بهدف تصفية قضيتهم وتقويض حقهم في العودة وإقامة دولتهم المستقلة.
إن إعادة إحياء هذا الطرح من قبل ترامب يطرح تساؤلات حول مدى جديته، خاصة أنه يأتي بعد عدوان إسرائيلي واسع على غزة، أسفر عن تدمير هائل في البنية التحتية وتشريد عشرات الآلاف من السكان. في ظل هذه الظروف، قد يُنظر إلى التهجير ليس كحل طوعي، بل كسياسة فرض أمر واقع تستغل الأوضاع الإنسانية الكارثية لدفع الفلسطينيين إلى مغادرة وطنهم. كما أن الإشارة إلى مصر والأردن كوجهات محتملة للمهجرين تعكس رغبة في تصدير المشكلة إلى دول الجوار، بدلًا من معالجة جذور الصراع، وهو ما يضع هذه الدول في موقف حرج بين رفضها الرسمي لهذه المخططات وضغوط القوى الكبرى لتنفيذها.

 إعادة إنتاج مشاريع التهجير القسري
يُعيد مقترح ترامب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأذهان سلسلة من المحاولات التاريخية التي هدفت إلى تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين. فمنذ نكبة 1948، اتبعت إسرائيل سياسات ممنهجة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، سواء عبر المجازر، كما حدث في دير ياسين، أو عبر القوانين العنصرية التي حرمت اللاجئين من العودة إلى ديارهم. ولم تتوقف هذه المحاولات عند حدود النكبة، بل استمرت في نكسة 1967 حين احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، وفرضت سياسات تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني، سواء من خلال الاستيطان أو فرض قيود على البناء والتنقل أو حتى التهجير القسري المباشر كما حدث في قرى الضفة الغربية خلال تلك الفترة.
في العقود التالية، لم تتخلَّ إسرائيل عن سياسة التهجير، بل طوّرت أساليبها لتتناسب مع السياقات السياسية والأمنية المختلفة. ففي الضفة الغربية، اعتمدت على الاستيطان المكثف كأداة لطرد السكان الفلسطينيين، عبر مصادرة الأراضي وهدم المنازل. أما في غزة، فقد استخدمت الحصار العسكري والاقتصادي كوسيلة لدفع السكان إلى الهجرة الطوعية، حيث يعاني القطاع من معدلات بطالة مرتفعة وأوضاع معيشية كارثية نتيجة للحصار الذي فرضته إسرائيل منذ عام 2007. وفي كل هذه المراحل، كان الهدف الأساسي هو تقليص عدد الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة لصالح توسيع الهيمنة الإسرائيلية.
ما يجعل مقترح ترامب خطيرًا هو أنه يضفي طابعًا "دوليًا" على سياسة التهجير القسري، ويعيد إنتاج الحجج نفسها التي استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لكنه يطرحها الآن بغطاء أمريكي واضح. فهو يتذرع بأن قطاع غزة يعيش في "فوضى عارمة"، وكأن هذه الفوضى نشأت بشكل طبيعي، بينما الواقع يشير إلى أن الاحتلال والحصار هما السببان الرئيسيان لهذه الأوضاع المأساوية. كما أن هذه الذريعة تتجاهل حقيقة أن الفلسطينيين ليسوا مجرد سكان يبحثون عن حياة أفضل، بل هم أصحاب أرض يقاتلون من أجل حقهم في البقاء والعيش بكرامة في وطنهم، وفقًا للقانون الدولي والشرعية الدولية.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا المقترح يمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف التي تُجرّم التهجير القسري، وتعتبره جريمة حرب. كما أن التجارب السابقة أثبتت أن أي محاولة لفرض التهجير على الفلسطينيين ستواجه مقاومة عنيفة، سواء على المستوى السياسي أو الشعبي. فالفلسطينيون لطالما رفضوا أي محاولة لنقلهم قسرًا، وأصرّوا على حقهم في العيش في أرضهم. وبالتالي، فإن أي محاولة لفرض هذا المخطط لن تؤدي إلا إلى تعقيد المشهد السياسي وزيادة التوترات في المنطقة، بدلًا من تحقيق أي "سلام" مزعوم.

 تبنٍّ متزايد لسياسات التطهير العرقي
يحظى مقترح ترامب لتهجير الفلسطينيين بترحيب واضح داخل الأوساط اليمينية في إسرائيل، حيث عبّر وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش عن دعمه الصريح لهذه الفكرة، واصفًا إياها بأنها "حل خارج الصندوق" لمشكلة غزة. هذا التأييد يعكس التوجه العام للتيار الصهيوني اليميني، الذي لطالما اعتبر التهجير القسري حلًّا عمليًا لإنهاء الوجود الفلسطيني في المناطق المحتلة. فمنذ تأسيس إسرائيل، سعى التيار اليميني إلى فرض واقع ديموغرافي جديد يخدم المشروع الصهيوني، عبر وسائل متعددة مثل التهجير القسري، والاستيطان، والتمييز ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. اليوم، ومع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم، باتت هذه الأفكار تُطرح بشكل علني أكثر من أي وقت مضى، حيث لم يعد المسؤولون الإسرائيليون يترددون في الحديث عن التهجير كخيار مشروع.
لكن على الرغم من هذا الحماس داخل الأوساط اليمينية، فإن مثل هذه المقترحات لا تُسهم إلا في تعميق الصراع وزيادة حدة العنف، حيث يدرك الفلسطينيون والعالم أن تهجير سكان غزة لن يكون إلا خطوة أولى في مخططات توسعية أوسع. فتهجير الفلسطينيين يعني فعليًا إزالة أي عائق ديموغرافي أمام التوسع الإسرائيلي في المناطق المحتلة، وهو ما يعزز فكرة التطهير العرقي التي تسعى إسرائيل إلى تنفيذها تدريجيًا. إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه الأفكار تُشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي، إذ إنها تضع الدول المجاورة، مثل مصر والأردن، أمام تحديات أمنية وسياسية كبرى، مما قد يؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة بدلًا من تحقيق أي "سلام" مزعوم.

الموقف الفلسطيني
لاقى مقترح تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة رفضًا قاطعًا من جميع الفصائل الفلسطينية، سواء من حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو السلطة الفلسطينية، حيث شددت جميعها على أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم، وهو ما يعكس إجماعًا فلسطينيًا ضد فكرة التهجير القسري باعتبارها خطوة خطيرة تهدد الوجود الفلسطيني برمته. فبالنسبة للفلسطينيين، لا يمثل هذا المقترح مجرد تهديد سياسي، بل هو استمرار لمحاولات اقتلاعهم من وطنهم وتصفية قضيتهم، وهو ما يرفضه الشعب الفلسطيني بشكل قاطع، انطلاقًا من تجارب سابقة أثبتت أن التمسك بالأرض هو أحد أهم أسس النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
إن محاولات فرض حلول قسرية على الفلسطينيين أثبتت فشلها مرارًا، فالتهجير لن يؤدي إلا إلى تعقيد الوضع أكثر، وسيؤدي إلى موجات من المقاومة والتصعيد، كما حدث في محطات تاريخية سابقة، مثل الانتفاضات الفلسطينية. فالوعي الجمعي الفلسطيني يدرك جيدًا أن كل مشروع تهجيري لا يهدف إلى تحسين الظروف المعيشية، بل إلى خدمة الأجندة الإسرائيلية في إفراغ الأرض من سكانها الأصليين. إضافة إلى ذلك، فإن أي محاولة لفرض واقع جديد بالقوة ستؤدي إلى توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة المخطط، وهو ما قد ينعكس على تصعيد المقاومة بجميع أشكالها، سواء عبر التحركات الشعبية أو العمليات العسكرية. لذلك، فإن التهجير، بدلًا من أن يكون "حلاً" للصراع، قد يشعل فتيل مرحلة جديدة من المواجهات، خاصة مع تصاعد الوعي الدولي بجرائم الحرب الإسرائيلية ورفض المجتمع الدولي لسياسات التطهير العرقي.

 رفض مستمر لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية
على المستوى العربي، جاء الرفض واضحًا من مصر والأردن، اللتين شددتا على رفضهما القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيهما، وهو موقف يتماشى مع السياسة الثابتة لهاتين الدولتين في حماية الهوية الوطنية الفلسطينية ومنع تصفية القضية. فهذا المخطط، في حال قبوله، لن يكون مجرد استيعاب مؤقت للاجئين، بل سيُعتبر خطوة نحو إلغاء حق العودة، وتحويل القضية الفلسطينية من صراع تحرري ضد الاحتلال إلى أزمة إنسانية مرتبطة باللجوء والتوطين. كما أن تهجير سكان غزة إلى مصر أو الأردن قد يُحدث اختلالات ديموغرافية وسياسية داخل هذه الدول، مما يجعله خيارًا مرفوضًا من حيث الأمن القومي والاستقرار الداخلي.
ورغم هذا الرفض الرسمي، فإن التطورات الأخيرة تضع الدول العربية أمام اختبار حقيقي، خاصة في ظل الضغوط السياسية والاقتصادية التي قد تُمارس عليها لقبول مثل هذه السيناريوهات. فإسرائيل وحلفاؤها قد يسعون إلى فرض حلول "بديلة" من خلال تقديم حوافز اقتصادية أو ممارسة ضغوط دبلوماسية على الدول المعنية لإقناعها بالمشاركة في تنفيذ المخطط، ولو جزئيًا. في هذا السياق، يبرز دور جامعة الدول العربية، التي رغم إصدارها بيانات إدانة واضحة، لا تزال بحاجة إلى ترجمة هذا الرفض إلى خطوات عملية، مثل تصعيد التحركات الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وتفعيل أدوات الضغط السياسي على الدول الغربية لمنع تنفيذ أي مشاريع تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها. فمن دون تحرك عربي موحد وفعال، قد تجد بعض الدول نفسها مضطرة للتعامل مع تداعيات المخطط بدلًا من منعه في الأساس.

الأبعاد الإنسانية والقانونية
يمثل التهجير القسري للفلسطينيين انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي، حيث تجرّمه اتفاقيات جنيف بوضوح وتعتبره جريمة حرب. فقد نصت المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على حظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أي مكان آخر، بغض النظر عن الدوافع، إلا في حالات استثنائية مرتبطة بأمن المدنيين أنفسهم. وبما أن تهجير سكان غزة يتم تحت ذرائع أمنية وسياسية، فهو يشكل انتهاكًا صارخًا لهذه القوانين، ويعكس سياسة إسرائيلية ممنهجة للتخلص من الفلسطينيين من خلال وسائل غير مباشرة، مثل الحصار والتدمير الممنهج للبنية التحتية، لخلق بيئة غير صالحة للحياة تدفع السكان إلى مغادرة وطنهم قسرًا.
إضافة إلى ذلك، تؤكد منظمات حقوق الإنسان أن عمليات التهجير القسري ترقى إلى "جريمة تطهير عرقي"، وهو ما وثقته تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية". فالتطهير العرقي ليس فقط عملية عسكرية تهدف إلى إخلاء مناطق معينة من سكانها، بل يشمل أيضًا السياسات التي تؤدي إلى دفع السكان للرحيل من خلال العنف أو الحصار أو التدمير الاقتصادي. وفي حالة غزة، فإن منع وصول المساعدات الإنسانية، واستهداف المناطق السكنية، وعرقلة إعادة الإعمار كلها تدخل في إطار سياسات تهدف إلى دفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع، ما يعزز الاتهامات بأن إسرائيل ترتكب جريمة تطهير عرقي بحق السكان.
كما أن هذه السياسات تتناقض مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، التي تضمن لكل شعب حقه في البقاء على أرضه وعدم تهجيره بالقوة. فالحق في السكن، والحق في حرية التنقل، والحق في الأمن الشخصي كلها حقوق أساسية تنتهكها مخططات التهجير القسري. علاوة على ذلك، فإن أي عملية تهجير واسعة النطاق مثل هذه قد تؤدي إلى كارثة إنسانية إقليمية، حيث سيتحول الفلسطينيون المهجرون إلى لاجئين جدد يواجهون مصاعب قانونية واقتصادية وسياسية في الدول المضيفة. وبالتالي، فإن تنفيذ مثل هذه الخطة لا يشكل فقط خرقًا للقانون الدولي، بل يهدد الاستقرار الإنساني في المنطقة بأسرها، ويخلق تداعيات طويلة الأمد لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

 بين الواقع والمقاومة
لا يبدو أن مقترح ترامب مجرد تصريح سياسي عابر، بل هو انعكاس لتوجه أوسع يهدف إلى إعادة صياغة واقع غزة بطريقة تخدم المصالح الإسرائيلية، سواء من خلال التهجير القسري أو عبر فرض ترتيبات إقليمية جديدة تُخرج الفلسطينيين من معادلة الأرض والهوية. فالموقف الإسرائيلي الداعم لهذه الخطة، إلى جانب محاولات تصوير غزة على أنها "عبء أمني" يستدعي حلاً جذريًا، يعكس استمرار النهج الإسرائيلي في تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. ومع ذلك، فإن مثل هذه المخططات تصطدم بواقع فلسطيني رافض لأي محاولات تهجير، مدعومًا بقاعدة قانونية دولية تجرّم مثل هذه السياسات وتعتبرها جريمة تطهير عرقي.
ورغم أن المجتمع الدولي، بما في ذلك المنظمات الحقوقية والأممية، يعارض التهجير القسري، فإن التجربة أثبتت أن إسرائيل تستفيد من حالة الضعف والتردد الدولي لتمرير سياساتها على الأرض. لذلك، يبقى التحدي الحقيقي هو كيفية ترجمة الرفض الدولي إلى خطوات عملية تمنع تنفيذ مثل هذه المخططات، سواء عبر فرض عقوبات دولية على إسرائيل، أو تعزيز الحراك الدبلوماسي العربي والفلسطيني في المحافل الدولية. كما أن الدور الشعبي والمجتمعي يبقى أساسيًا في تشكيل ضغط مستمر عبر الاحتجاجات، وحملات التوعية، واستخدام الإعلام لإبقاء القضية الفلسطينية حية في الوعي العالمي.
المعركة لم تعد تقتصر على الأرض فقط، بل أصبحت أيضًا معركة رواية وتصورات، حيث يسعى كل طرف لفرض رؤيته لمستقبل القضية الفلسطينية. إسرائيل تحاول تصوير تهجير الفلسطينيين كـ"حل منطقي" لمشكلة غزة، بينما يسعى الفلسطينيون إلى إثبات أن هذا المخطط ليس سوى استمرار لسياسات التطهير العرقي التي تمارسها إسرائيل منذ عقود. في ظل هذا الصراع، فإن الحفاظ على وحدة الموقف الفلسطيني، وتعزيز التحركات العربية والدولية، سيكونان العامل الحاسم في إفشال هذه المخططات ومنع فرض واقع جديد يُكرّس الاحتلال والتهجير كأمر واقع.

شارك