تفكيك بروباجندا داعش.. استراتيجيات التلاعب والتجنيد والتحريض

السبت 01/فبراير/2025 - 01:53 ص
طباعة تفكيك بروباجندا داعش.. حسام الحداد
 
تعكس افتتاحية العدد 480 من صحيفة "النبأ" الصادر مساء الخميس 30 يناير 2025، خطاب تنظيم داعش الدعائي في غرب إفريقيا، والذي يهدف إلى تصوير التنظيم كقوة صاعدة قادرة على مواجهة الجيش النيجيري وحلفائه الإقليميين والدوليين. تستند الافتتاحية إلى استراتيجية تضخيم إنجازات التنظيم، مع التركيز على تصوير العمليات العسكرية التي ينفذها مقاتلوه باعتبارها انتصارات استراتيجية، رغم أنها في الواقع تعتمد على تكتيكات حرب العصابات وعمليات الكر والفر. كما تسعى الافتتاحية إلى التقليل من قدرات الجيش النيجيري، من خلال الإشارة إلى ما تصفه الافتتاحية بـ"فشل الاستراتيجية العسكرية" للحكومة النيجيرية، ولا سيما في ما يتعلق بإنشاء "المعسكرات الكبرى"، التي تمثل جزءًا من خطة الجيش لمحاصرة تحركات التنظيم.
تأتي هذه الافتتاحية في سياق الصراع المستمر بين تنظيم داعش في غرب إفريقيا (ISWAP) والقوات المسلحة النيجيرية، حيث تتركز المواجهات في الولايات الشمالية الشرقية، مثل "بورنو" و"يوبي"، خاصة في المناطق الوعرة مثل "غابات ألغارنو" التي تعتبر معقلًا استراتيجيًا للجماعات الجهادية. منذ سنوات، تبنّت الحكومة النيجيرية استراتيجيات متعددة للقضاء على التنظيم، بما في ذلك شنّ عمليات عسكرية واسعة، والتعاون مع قوى إقليمية مثل النيجر وتشاد، فضلًا عن تلقي الدعم اللوجستي والاستخباراتي من دول غربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا. إلا أن التنظيم يستغل هذه العمليات لتقديم نفسه كضحية لـ"حملة صليبية"، وهي حيلة دعائية تهدف إلى كسب مزيد من التعاطف والتجنيد.
إضافة إلى ذلك، تعكس الافتتاحية توترًا متزايدًا داخل المشهد الجهادي في غرب إفريقيا، حيث يحاول داعش ترسيخ هيمنته على الساحة بعد الصراعات الداخلية التي شهدها في السنوات الأخيرة، ولا سيما عقب الخلافات مع جماعة "بوكو حرام"، التي أدت إلى انشقاقات ومعارك داخلية بين الطرفين. من خلال هذه الافتتاحية، يسعى التنظيم إلى إظهار نفسه كقوة متماسكة قادرة على الصمود في وجه الحملات العسكرية المستمرة، وذلك في محاولة لتعزيز معنويات مقاتليه والتأثير على المتعاطفين معه، في ظل الضغوط التي يتعرض لها على المستوى الأمني والعسكري.
التحليل اللغوي والدعائي
هناك عدد من الأليات التي يتخدمها تنظيم داعش في خطابة التحريضي والدعائي من بينها:
التعبئة الأيديولوجية والدينية
تعتمد الافتتاحية على لغة دينية مشحونة، تهدف إلى خلق حالة من التعبئة الأيديولوجية بين أتباع التنظيم. فمن خلال الاستشهاد بآيات قرآنية وربطها بسياق المعركة ضد الجيش النيجيري، يسعى المقال إلى إضفاء طابع القدسية على القتال، وتصويره كجزء من صراع ديني بين "المؤمنين" و"الكفار". كما يتم التأكيد على مفهوم "النصر الإلهي"، وهو عنصر متكرر في أدبيات التنظيم، يُستخدم لرفع معنويات المقاتلين وإقناعهم بأن الهزائم العسكرية ما هي إلا "ابتلاءات مؤقتة"، بينما الانتصارات مهما كانت محدودة تُقدَّم باعتبارها "دلائل على تأييد الله". هذا الأسلوب ليس جديدًا، إذ درجت الجماعات الجهادية على استخدام الخطاب الديني لتعزيز شرعية أفعالها وإضفاء بُعد إيماني على معاركها، مما يساعد في عمليات التجنيد وجذب مزيد من الأنصار.
إلى جانب ذلك، يحرص المقال على استخدام مصطلحات تكفيرية مثل "الطاغوت" عند الإشارة إلى الجيش النيجيري والحكومة، مما يعكس توجهات التنظيم في استباحة دماء خصومه بناءً على أحكام التكفير. كما يتم وصف مقاتلي داعش بـ"الثلة المؤمنة"، وهو مصطلح يحمل دلالة النخبوية الدينية، في محاولة لإقناع الأتباع بأنهم يمثلون "الفرقة الناجية" التي تواجه تحالفًا عالميًا من "الكفار والمرتدين". هذه الصياغة الخطابية تسعى إلى ترسيخ قناعة لدى عناصر التنظيم بأنهم جزء من معركة مقدسة تتجاوز الأبعاد السياسية والعسكرية، مما يعزز التزامهم الأيديولوجي، ويقلل من احتمال انشقاقهم أو تراجعهم أمام الضغوط العسكرية المتزايدة.
التضليل الإعلامي والمبالغة
تعتمد الافتتاحية على تضخيم المكاسب العسكرية للتنظيم، حيث تزعم أن "المعسكرات الكبرى" للجيش النيجيري تنهار بسهولة أمام هجماته، دون تقديم أي أدلة ميدانية موثوقة تدعم هذا الادعاء. هذه الاستراتيجية الإعلامية تهدف إلى إعطاء انطباع بأن التنظيم يحقق تقدمًا استراتيجيًا، بينما الواقع يشير إلى أن داعش في غرب إفريقيا يواجه ضغوطًا عسكرية متزايدة من قبل الجيش النيجيري والقوات المتحالفة معه. استخدام لغة حاسمة مثل "تهاوي معسكرات الجيش" هو أسلوب متعمد لخلق صورة ذهنية مضللة عن ضعف الجيش النيجيري، على الرغم من استمرار العمليات العسكرية ضده.
كما أن هناك تناقضًا واضحًا في السردية، حيث يتم تصوير "المعسكرات الكبرى" على أنها حصون منيعة بُنيت لتكون "دوائر مغلقة لا تُخترق"، ثم يتم الادعاء بأن التنظيم نجح في تجاوزها بسهولة باستخدام تكتيكات حرب العصابات. هذا التناقض يهدف إلى إظهار الجيش النيجيري وكأنه يعتمد على استراتيجيات دفاعية فاشلة، بينما يتم تقديم داعش كقوة مرنة قادرة على التكيف مع الظروف الميدانية. لكن الواقع يؤكد أن هذه "المعسكرات" رغم كونها مستهدفة أحيانًا، لا تزال تشكل عائقًا أمام تحركات التنظيم، وهو ما يدفعه إلى التركيز على الهجمات المتفرقة بدلًا من المواجهة المباشرة التي قد تكبّده خسائر فادحة.
استراتيجية قلب الأدوار
يستخدم المقال أسلوب "قلب الأدوار" في محاولة لإعادة صياغة الصراع، حيث يصوّر داعش على أنه في موقع الدفاع ضد "العدوان الصليبي"، بينما يتجاهل حقيقة أن التنظيم هو المعتدي الذي ينفّذ عمليات إرهابية تستهدف المدنيين والقوات الأمنية على حد سواء. هذا الأسلوب ليس جديدًا في أدبيات التنظيمات الجهادية، إذ غالبًا ما تسعى إلى تصوير نفسها كضحايا لـ"حرب عالمية ضد الإسلام"، وهو خطاب يهدف إلى كسب التعاطف والتأييد من الفئات المتعاطفة.
في المقابل، يتم تصوير الجيش النيجيري على أنه في حالة ضعف مستمر، بينما الوقائع الميدانية تُظهر أن الحكومة النيجيرية مستمرة في حملاتها العسكرية ضد داعش، مدعومة بغارات جوية مكثفة شنتها طائرات مسيرة، مما ألحق بالتنظيم خسائر كبيرة في العديد من معاقله. ورغم أن الجيش النيجيري يعاني من تحديات لوجستية واستراتيجية في مواجهة التنظيم، فإن تصويره على أنه "ينهار تمامًا" يخالف التقارير الميدانية التي تشير إلى استمرار المواجهات والضربات العسكرية ضد داعش. هذه المبالغات تهدف إلى رفع معنويات مقاتلي التنظيم من جهة، والتقليل من وقع خسائره على أنصاره من جهة أخرى.
إخفاء الأزمات الداخلية للتنظيم
تتجاهل الافتتاحية بشكل كامل الأزمات الداخلية التي يعاني منها تنظيم داعش في غرب إفريقيا، خاصة الصراعات بينه وبين جماعة "بوكو حرام"، والتي وصلت إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين بعد مقتل زعيم بوكو حرام، أبو بكر شيكاو، عام 2021. هذه الانقسامات الداخلية أثّرت بشكل كبير على قوة التنظيم في المنطقة، حيث أدت إلى تفكك بعض خلاياه وانشقاق بعض أفراده. لكن المقال يتجنب الإشارة إلى هذه الحقائق، في محاولة للحفاظ على صورة التنظيم كقوة موحدة ومتماسكة.
كما لا يتطرق المقال إلى الخسائر التي تكبّدها داعش نتيجة الضربات الجوية والعمليات العسكرية التي تنفذها القوات النيجيرية، فضلًا عن الخسائر البشرية التي تعرّض لها جراء الاشتباكات مع "بوكو حرام" نفسها. هذا التجاهل المتعمّد يعكس انتقائية شديدة في نقل المعلومات، حيث يتم التركيز على النجاحات المزعومة، بينما يتم التعتيم على أي نكسات قد تضر بصورة التنظيم أمام مقاتليه أو المتعاطفين معه. هذه الاستراتيجية الإعلامية ليست جديدة، إذ سبق أن اعتمدها داعش في العراق وسوريا خلال فترات تراجعه العسكري، حيث كان يروّج لانتصارات وهمية لإبقاء عناصره في حالة تعبئة دائمة.
تحليل الأهداف الاستراتيجية للمقال
هناك عدد من الأهداف الاستراتيجية تضمنتها افتتاحية صحيفة النبأ الداعشية من بينها:
رفع الروح المعنوية لمقاتلي التنظيم
تحمل الافتتاحية بُعدًا دعائيًا داخليًا واضحًا، حيث تسعى إلى تعزيز معنويات مقاتلي التنظيم عبر تصوير الجيش النيجيري في حالة ضعف وتراجع مستمر. يتم توظيف خطاب ديني تعبوي من خلال التأكيد على أن "نصر الله قادم"، مما يهدف إلى بث الطمأنينة في نفوس المقاتلين وإقناعهم بأنهم على الطريق الصحيح، بغض النظر عن التحديات العسكرية التي يواجهونها. هذا النوع من الخطاب يهدف أيضًا إلى الحفاظ على وحدة الصف الداخلي ومنع حالات الإحباط أو الانشقاق داخل التنظيم، خاصة في ظل الحملات العسكرية المكثفة التي تستهدفه.
كما أن المقال يعتمد على إبراز العمليات العسكرية التي يشنها التنظيم، حتى لو كانت عمليات كرّ وفرّ ذات تأثير محدود على موازين القوى. يتم تقديم هذه العمليات باعتبارها "انتصارات حتمية"، وذلك لإعطاء انطباع زائف بأن التنظيم يحقق تقدمًا مستمرًا. هذه الإستراتيجية ليست جديدة في أدبيات التنظيمات الجهادية، حيث يتم التركيز على إبراز النجاحات، ولو كانت رمزية، مع التعتيم على الخسائر والهزائم بهدف الحفاظ على الحماسة القتالية بين عناصره.
التجنيد والاستقطاب
يحمل المقال نبرة تحريضية واضحة تهدف إلى جذب واستقطاب مجندين جدد إلى صفوف التنظيم. أحد الأساليب المستخدمة لتحقيق ذلك هو التأكيد على "إمكانية تحقيق النصر" رغم الفارق العسكري الكبير بين التنظيم من جهة، والجيش النيجيري وحلفائه من جهة أخرى. يتم تصوير القتال كواجب شرعي وملحمة مستمرة ضد "أعداء الإسلام"، وهو خطاب مصمم خصيصًا لاستهداف الشباب المتحمسين أو الساخطين الذين يبحثون عن معنى ودور في سياق صراع أيديولوجي أوسع.
إضافةً إلى ذلك، يتعمد المقال الإشارة إلى "فشل الصليبيين"، في محاولة لتأجيج مشاعر العداء تجاه الغرب، وهي إستراتيجية دائمة في خطاب التنظيمات الجهادية. هذا الأسلوب يهدف إلى استثارة الحماسة الدينية وتعزيز الشعور بالمظلومية، مما قد يدفع بعض الأفراد المتعاطفين إلى اتخاذ خطوة فعلية والانضمام إلى التنظيم. كما أن استدعاء مصطلحات مثل "الصليبيين" يخدم هدفًا آخر، وهو وضع التنظيم في سياق تاريخي ممتد، مما يمنحه شرعية في نظر بعض المتأثرين بهذا الخطاب.
التأثير على الرأي العام الجهادي
يسعى المقال إلى ترسيخ صورة تنظيم داعش في غرب إفريقيا كقوة صامدة، قادرة على مواجهة الضغوط العسكرية التي تتعرض لها. هذه الرسالة ليست موجهة فقط إلى مقاتلي التنظيم، بل تمتد إلى الجمهور الجهادي الأوسع، سواء داخل المنطقة أو خارجها. الحفاظ على صورة القوة والثبات أمر حيوي بالنسبة للتنظيم، خاصة في ظل المنافسة مع جماعات جهادية أخرى، مثل "القاعدة" والفصائل المتحالفة معها، التي تسعى أيضًا إلى استقطاب المقاتلين وكسب التأييد.
علاوةً على ذلك، فإن المقال يحاول الدفاع عن شرعية التنظيم داخل الدوائر الجهادية، من خلال تقديمه ككيان قادر على الصمود والتكيف مع الضغوط العسكرية. في ظل التحديات التي تواجهه، مثل الهجمات المتكررة من قبل الجيش النيجيري أو الانقسامات الداخلية، يحتاج التنظيم إلى الحفاظ على مصداقيته أمام أنصاره. لذا، يتم تقديم الرواية بشكل يسلط الضوء على نجاحاته، مع التقليل من شأن التحديات، بهدف منع انتشار الشكوك حول مستقبله ومصيره في المنطقة.
الخلاصة النقدية
المقال يُعد نموذجًا للدعاية الجهادية التي تعتمد على التحريض الديني والتلاعب بالمعلومات، حيث يستخدم خطابًا تعبويًا يهدف إلى تأجيج المشاعر الدينية وتحفيز أنصار التنظيم عبر تصوير الصراع على أنه معركة مقدسة ضد "أعداء الإسلام". كما يعتمد على المبالغة في تصوير الانتصارات، حتى لو كانت محدودة التأثير ميدانيًا، بهدف إقناع الجمهور المستهدف بأن التنظيم في موقف قوة، رغم التحديات التي يواجهها. هذه الإستراتيجية تتماشى مع النهج التقليدي للتنظيمات الجهادية التي تسعى إلى توظيف الحرب النفسية لتعزيز تماسكها الداخلي وكسب أنصار جدد.
لا يقدم المقال أي أدلة موضوعية تدعم ادعاءاته حول انهيار الجيش النيجيري أو نجاح استراتيجية داعش في استنزافه. بدلاً من ذلك، يعتمد على سردية انتقائية تركز على عمليات محددة للتنظيم، متجاهلًا الردود العسكرية القوية التي تلقاها، فضلًا عن الدعم الإقليمي والدولي الذي يعزز قدرات الجيش النيجيري في مواجهة التهديدات الإرهابية. هذا النهج الانتقائي يهدف إلى خلق صورة وهمية عن تفوق التنظيم، بينما الواقع يشير إلى معارك كرّ وفرّ لا تؤدي إلى تغييرات جوهرية في موازين القوى على الأرض.
يتجاهل المقال الأزمات الداخلية التي يعاني منها التنظيم، مثل الانقسامات الداخلية والضربات العسكرية التي تلقاها مؤخرًا. هذه الأزمات، التي تشمل خلافات قيادية وعمليات تصفية داخلية، تعد من العوامل التي أضعفت التنظيم وأثرت على تماسكه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الهجمات العسكرية المتكررة التي تنفذها القوات النيجيرية، بدعم من شركائها الإقليميين والدوليين، تسببت في خسائر كبيرة للتنظيم، وهو ما لا يتم الإشارة إليه في المقال، نظرًا لأنه يركز على إبراز النجاحات فقط، حتى لو كانت رمزية.
الهدف الأساسي من المقال هو رفع معنويات مقاتلي التنظيم، والتأثير على المتعاطفين معه، واستقطاب مجندين جدد. من خلال استخدام لغة دينية تحريضية، ومحاولة تصوير التنظيم كقوة لا تُهزم، يسعى المقال إلى الحفاظ على الروح القتالية بين عناصر التنظيم ومنع أي شعور بالإحباط أو التراجع. كما أن استهداف المتعاطفين يهدف إلى توسيع قاعدة التنظيم، من خلال إقناعهم بأن الانضمام إليه هو جزء من "الجهاد المستمر"، رغم الظروف العسكرية الصعبة التي يواجهها.
بالتالي، فإن هذه الافتتاحية لا تعكس الواقع العسكري الفعلي، بل تمثل جزءًا من حرب الدعاية التي يخوضها التنظيم لتعويض خسائره الميدانية. فهي ليست تحليلًا واقعيًا للوضع في نيجيريا، بل مجرد محاولة للتأثير على الرأي العام الجهادي وصناعة صورة غير واقعية عن قوة التنظيم. في النهاية، يبقى هذا المقال جزءًا من آلة الدعاية التي يعتمد عليها داعش للحفاظ على وجوده، في ظل الضغوط المتزايدة التي تهدد استمراريته.

شارك