كاملات عقل ودين.. دور النشر وتنامي التطرف
الإثنين 03/فبراير/2025 - 06:49 ص
طباعة

في عالم يفترض أنه يسير نحو مزيد من الانفتاح الفكري، نجد أنفسنا أمام مشهد متكرر من التراجع والرقابة المجتمعية. شركة السراج للنشر والتوزيع أصدرت بيانًا تعلن فيه سحب كتاب الأستاذة أسماء عثمان الشرقاوي من التداول، بعد أن أثار جدلًا بسبب مناقشته للأحاديث النبوية. لكن البيان لم يكتفِ بسحب الكتاب، بل جاء محمّلًا بروح الاعتذار والتبرؤ، وكأن مجرد طرح الأفكار أصبح تهمة تستوجب الاستغفار.
ما حدث ليس مجرد قرار إداري، بل هو انعكاس لإشكالية أعمق تتعلق بحرية الفكر والنشر في العالم العربي. إلى أي مدى يمكن للناشرين أن يكونوا شركاء في النقاش الثقافي إذا كانوا أول من يهرب عند أول اختبار؟ هل أصبحت الرقابة الشعبية اليوم أكثر سطوة من الرقابة الرسمية؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن نهضة فكرية بينما يتم إسكات كل صوت يجرؤ على فتح باب النقاش؟ هذه الأسئلة وأكثر نناقشها في هذه الحلقة.
حرية النشر بين التبرير والخضوع
يحاول البيان أن يضع نفسه في موقع الحياد، مؤكدًا أن الشركة لم تتعمد "المساس بأحاديث النبي" أو "تبني" ما ورد في الكتاب، لكنه في النهاية ينتهي بإعلان سحب الكتاب وإيقاف نشره بالكامل. هذا التناقض يعكس أزمة الناشرين في العالم العربي، الذين يجدون أنفسهم مضطرين للتراجع أمام أي جدل ديني، حتى لو كان الكتاب المطروح لا يتجاوز إطار النقاش العلمي أو الفكري.
المفارقة هنا أن دور الناشر، في أي بيئة ثقافية حقيقية، لا يُفترض أن يكون تبنيًا أو رفضًا للأفكار المطروحة في الكتب التي ينشرها، بل يجب أن يكون مجرد وسيط يتيح للقراء الاطلاع على مختلف الآراء دون وصاية. حين يتحول الناشر إلى جهة تبرر وتنأى بنفسها عن مضمون الكتب التي تنشرها، فهذا يعني أن الفضاء الثقافي أصبح خاضعًا بالكامل لرقابة غير معلنة، تفرضها ردود الفعل لا المعايير العلمية أو الفكرية.
مثل هذه التراجعات لا تؤدي فقط إلى تقييد حرية النشر، بل تخلق بيئة معادية للنقاش العقلاني، حيث يصبح أي رأي مخالف عرضة للمنع والتجريم. في ظل هذا المناخ، يجد الفكر المتشدد فرصة ذهبية لترسيخ منطقه، إذ يقدم نفسه كحارس للقيم والمقدسات، ويستفيد من انسحاب الأصوات العقلانية التي كان يمكن أن توازن المشهد. ومع كل كتاب يُسحب أو يُمنع، تتعزز هيمنة خطاب التحريم والإقصاء، على حساب التعددية الفكرية التي تشكل جوهر أي مجتمع متقدم.
والأخطر أن هذه الرقابة غير الرسمية، المدفوعة بغضب الشارع أو نفوذ القوى الدينية، لا تقتصر على محاصرة الكتب فقط، بل تمتد إلى تشكيل الوعي العام. حين يتعلم الناس أن الأفكار الجديدة يمكن إسكاتها بسهولة، يترسخ لديهم منطق الرفض المسبق لأي نقاش خارج الأطر التقليدية، وهو ما يُغذي بيئة خصبة لتنامي التطرف. فالتطرف لا ينمو فقط في المساجد المتشددة أو عبر الجماعات الأصولية، بل يبدأ عندما يُقتل التنوع الفكري، وعندما يصبح الخوف من الجدل هو القاعدة، بدلًا من أن يكون الاستثناء.
الرقابة الشعبية: قمع ناعم باسم "الرأي الغالب"
ما يلفت النظر في البيان هو استخدامه لعبارة "الرأي الغالب يرفض هذا الطرح"، وكأن الأفكار لا تُقيَّم بناءً على حججها ومنطقها، بل وفقًا لمدى قبولها لدى الجمهور. هذا التصور يُحول الثقافة والفكر إلى سلع خاضعة لقانون العرض والطلب الشعبي، حيث يتم تحديد ما يمكن مناقشته أو طرحه بناءً على ردود الفعل الجماهيرية، لا على أساس قيم البحث العلمي أو حرية التعبير.
مثل هذا الخطاب يعيد إنتاج شكل جديد من الرقابة، لكنه ليس قادمًا من السلطات الرسمية أو القوانين المقيدة، بل من الجماهير نفسها التي باتت تلعب دور الرقيب الأعلى. في السابق، كانت الرقابة تُفرض من قبل الدولة أو المؤسسات الدينية، لكننا اليوم أمام شكل أكثر خطورة، حيث يصبح الشارع هو من يقرر ما يُقال وما يُمنع، وما يُقبل وما يُحرَّم، في عملية قمع ناعمة لكنها شديدة التأثير.
هذه الظاهرة ليست عشوائية، بل تعكس انحرافًا واضحًا في الاتجاهات الفكرية للمجتمع، حيث تزداد النزعة السلفية قوةً وتأثيرًا، مستفيدةً من هذا الميل العام إلى رفض النقاش النقدي. فحين تُستخدم الجماهير كأداة لقمع الأفكار، يصبح التيار الأكثر قدرة على استغلال العاطفة الدينية هو التيار المهيمن. السلفية، بتركيزها على النصوص الجامدة ورفضها للنقد التاريخي والدراسات الحداثية، تجد في هذا المناخ فرصة ذهبية لتعزيز خطابها باعتباره "الصوت الشرعي" الوحيد.
مع الوقت، يؤدي هذا الاتجاه إلى تجريف التنوع الفكري وتحويل الفضاء العام إلى بيئة مغلقة، لا مكان فيها إلا للرؤية الأحادية. حين تصبح أي محاولة للنقاش أو المراجعة محفوفة بالمخاطر، لن يتبقى سوى الخطاب الذي يرفض الجدل من أساسه، وهو ما يمثل البيئة المثالية لترسيخ الفكر السلفي كمرجعية مجتمعية. هكذا، يتحول "الرأي الغالب" إلى أداة لتكريس الفكر المحافظ، ويصبح الانحياز إلى السلفية ليس مجرد خيار، بل هو المسار الطبيعي في ظل تراجع الجرأة الفكرية وانسحاب الأصوات المستنيرة.
الناشر.. بين الثقافة والتجارة
من المحتمل أن يكون قرار شركة السراج للنشر والتوزيع بسحب الكتاب نابعًا من دوافع تجارية بحتة، حيث تسعى إلى تجنب الخسائر المادية التي قد تنتج عن المقاطعة الجماهيرية أو الهجوم الإعلامي. في ظل بيئة يزداد فيها تأثير الرأي العام على القرارات الاقتصادية، قد يكون تراجع الشركة محاولة للحفاظ على استقرارها المالي بدلًا من الدخول في صدام غير مضمون العواقب.
لكن هذا يفتح تساؤلًا جوهريًا حول طبيعة دور الناشرين في مجتمعاتنا: هل هم مؤسسات ثقافية مستقلة تُعنى بنشر الأفكار والمساهمة في تشكيل الوعي، أم أنهم مجرد مشاريع تجارية تتعامل مع الكتب كمنتجات تخضع لقوانين السوق؟ الناشر، في الأساس، يُفترض أن يكون جسرًا لنقل الفكر، لا مجرد موزع يبحث عن أكثر المحتويات أمانًا وربحًا.
إذا كان الناشرون يتخذون قراراتهم بناءً على مدى القبول الجماهيري، لا على أساس القيمة الفكرية، فإن ذلك يعني أن حرية النشر نفسها أصبحت رهينة لأهواء السوق. في هذه الحالة، لن يكون دور الناشرين دعم الحريات الفكرية، بل فقط نشر ما هو مأمون العواقب، ما يحولهم إلى مجرد منصات لإعادة إنتاج الأفكار السائدة بدلًا من فتح المجال للأفكار الجديدة والجريئة.
النتيجة النهائية لهذه الديناميكية هي بيئة ثقافية راكدة، حيث يُستبعد كل ما قد يثير جدلًا أو يحتاج إلى تفكير نقدي، بينما يُترك المجال مفتوحًا فقط لما يحقق المبيعات دون أن يثير أي اعتراض. وهذا ليس مجرد تراجع للنشر الحر، بل هو تواطؤ ضمني في تضييق مساحة النقاش العام، حيث يصبح السوق نفسه أداة رقابية، تحدد من يستحق أن يُسمع ومن يجب أن يُسكت.
النتيجة: المزيد من التراجع
هذا البيان لا يقتصر فقط على كونه إعلانًا عن سحب كتاب، بل هو انعكاس أعمق لحالة التراجع المستمر في حرية الفكر والتعبير داخل المجتمعات العربية. حين يصبح منع الكتب استجابة طبيعية لأي جدل، فهذا يعني أن المساحة المتاحة للنقاش تتقلص تدريجيًا، ويتم استبدال الحوار المفتوح بمنطق الإقصاء والتخويف. الفكرة التي لا تحظى بإجماع تُمنع، والرأي الذي يثير الجدل يُخنق، مما يكرّس ثقافة الصمت بدلًا من ثقافة التفكير النقدي.
في كل مرة تخضع فيها المؤسسات الثقافية أو دور النشر للضغوط الشعبية أو الدينية، فإنها لا تحمي نفسها فقط، بل تساهم أيضًا في تقويض المساحة المتاحة للنقاش العام. هذا النوع من الانسحاب لا يمثل مجرد خسارة لكتاب واحد، بل هو فقدان لفرصة بناء حوار أكثر انفتاحًا حول القضايا الجدلية، مما يؤدي إلى تآكل تدريجي في قدرة المجتمع على التعامل مع الأفكار الجديدة بأسلوب نقدي ومنهجي.
من المهم أن ندرك أن هذه ليست حادثة معزولة، بل حلقة في سلسلة طويلة من الاستسلامات أمام موجات الرفض المجتمعي. ما دام هناك خوف من الرأي العام، وما دامت الرقابة الذاتية تحكم قرارات النشر، فإن هذه الحوادث ستتكرر مرارًا. لن يكون هذا الكتاب الأخير الذي يُمنع، ولن يكون هذا البيان الأخير الذي يعكس التراجع عن المواقف، لأن المشكلة ليست في كتاب أو دار نشر معينة، بل في بيئة ثقافية بأكملها تخشى المواجهة الفكرية.
الأخطر من ذلك أن هذه التراجعات لا تؤثر فقط على ما يمكن نشره أو قراءته، بل ترسّخ لدى الأفراد قناعة بأن الأفكار يجب أن تمر عبر "فلتر" اجتماعي صارم قبل أن تُطرح للنقاش. ومع مرور الوقت، يتحول المجتمع إلى كتلة متجانسة ترفض الاختلاف وتخشى التجديد، ما يحدّ من إمكانية التطور الفكري والإبداعي. في مثل هذه الأجواء، يصبح الإقصاء هو القاعدة، وتصبح حرية التعبير مجرد شعار فارغ يُرفع في المناسبات، بينما يُمارس القمع بآليات ناعمة لكنها فعالة.