ترامب والجولاني في مرمى داعش: هل انتهى زمن "النبوة" الجهادية؟
الإثنين 19/مايو/2025 - 02:16 ص
طباعة

شهدت ساحة الجهادية المعولمة في الآونة الأخيرة تطورًا لافتًا تمثل في تداول تقارير صحفية أجنبية عن لقاء مباشر بين أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السعودية. هذا الحدث، بما يحمله من رمزية سياسية ودلالات استراتيجية، لم يمرّ مرور الكرام على التنظيمات الجهادية المنافسة، وفي مقدمتها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي سارع إلى استثماره خطابياً في افتتاحية عدده الجديد (495) من صحيفة النبأ، والتي جاءت كصرخة غضب عقدية أكثر منها قراءة سياسية هادئة.
تتسم الافتتاحية بأسلوب دعائي فجّ، يشكّل امتدادًا لسردية داعش القديمة القائمة على التفرد بالحق وتكفير الخصوم السياسيين والدينيين، حيث تحوّل اللقاء إلى ذريعة لشنّ هجوم شعائري على الجولاني، واتهامه بالردة والولاء "للصليبيين واليهود"، في مشهد يعكس ليس فقط الحقد الإيديولوجي القديم بين التنظيمين، بل أيضًا حالة الارتباك العقائدي التي يعيشها داعش بعد انحسار مشروع خلافته المزعومة وتراجع حضوره الميداني في سوريا والعراق.
ومع أن الحدث بحد ذاته – أي لقاء الجولاني بترامب – يحمل في طياته تساؤلات مشروعة حول مسارات التحول داخل هيئة تحرير الشام، ومحاولتها إعادة التموضع ضمن لعبة التوازنات الإقليمية والدولية، فإن معالجة داعش له جاءت مشحونة بخطاب يتراوح بين الفقه الصحراوي المتشدد والدعاية الثأرية الشعبوية، حيث جُيّر النص لتحريك غرائز العداء والانتقام، أكثر مما سعى لتقديم فهم موضوعي لطبيعة المشهد السوري المعقد.
الافتتاحية، من حيث الشكل والمضمون، ليست سوى انعكاس جديد للأزمة البنيوية التي تعاني منها التنظيمات الجهادية الراديكالية، وفي مقدمتها داعش، بعد أن اصطدمت مشاريعها بالشعوب قبل أن تصطدم بالجيوش، وها هي اليوم تواصل الهروب إلى الأمام عبر اجترار خطاب التخوين والتكفير في مواجهة خصومها السابقين الذين غادروا مربع "الجهاد العالمي" إلى رحاب "السياسة المحلية"، ما يكشف عن الهوة الواسعة بين تنظيم فقد قدرته على التكيّف، وآخر يسعى – ولو بانتهازية واضحة – إلى النجاة من مصير السحق الكامل.
شخصنة الجهاد وتحويله إلى دراما أخلاقية
تفتتح صحيفة النبأ عددها 495 بمشهد أقرب إلى مسرحية دينية سوداوية، تصوّر فيه زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، وهو "ينطرح على عتبة ترامب"، وفق تعبيرها، في مشهدية أقرب إلى طقس تكفيري منه إلى قراءة تحليلية. هذا التناول، الذي يفترض خنوع الجولاني أمام "السيد الصليبي"، لا يعبّر فقط عن حدة الخصومة بين داعش وهيئة تحرير الشام، بل يُظهر بوضوح كيف يختزل الخطاب الداعشي المشهد السياسي المعقد إلى سردية أخلاقية بدائية: خيانةٌ وخنوعٌ من جهة، وثباتٌ على التوحيد من جهة أخرى.
تعتمد الافتتاحية على خطاب شعائري فج، يُفرغ اللقاء الحقيقي – الذي أكدته تقارير صحفية أجنبية موثوقة – من أبعاده الجيوسياسية، ليُقدَّم كدليل "قاطع" على الردة والانبطاح. هنا، لا تحاول داعش فهم دوافع الجولاني أو تموضعه الجديد ضمن معادلات الصراع السوري، بل تكتفي بإدانته بناءً على صورته المتخيلة في خيالها العقدي، وتلبسه لباس "الخائن" الذي باع الجهاد من أجل البقاء السياسي، دون أي مقاربة واقعية لعناصر القوة أو الضرورة التي قد تفسر هذا اللقاء.
الأكثر لفتًا هو أن هذا الهجوم لا يستند إلى وقائع موثقة أو قراءة ميدانية، بل ينهل من قاموس المحاكمات الغيبية التي تلاحق "النية" قبل "الفعل"، حيث يُتهم الجولاني بـ"نقض ملة إبراهيم"، في إسقاط تاريخي لا يستقيم سياسيًا ولا عقديًا. حتى الاتهام بالتطبيع مع اليهود، الذي يورده النص تلميحًا، يأتي دون أي سند أو توثيق، ويبدو أقرب إلى استثمار عاطفي في سرديات الكراهية الجاهزة، منها إلى تفكيك سلوك سياسي يستحق النقد.
بهذا، يتحول الجهاد – كما تصوّره داعش – إلى دراما أخلاقية مغلقة، لا مكان فيها لتحليل السياقات أو فهم التحولات، بل فقط لتحديد من دخل "الحظيرة الأمريكية" ومن بقي على "الصفاء العقدي". وهذا النمط من الشخصنة والتخوين، بدل أن يُقوّي موقع داعش كتيار "نقي"، يكشف حدودها الفكرية والتنظيمية، ويؤكد أنها باتت عاجزة عن التعامل مع التعقيد السياسي، لتكتفي بتجديد طقوس اللعن والتكفير في وجه كل من خرج من عباءتها.
"الديمقراطية شرك": فخ المفاصلة والتكفير
تُعيد افتتاحية النبأ في عددها 495 إنتاج واحدة من أبرز سرديات تنظيم داعش، القائمة على الثنائية الصارمة بين "التوحيد الخالص" و"الديمقراطية الكافرة"، حيث تُصنَّف الديمقراطية باعتبارها نظامًا شركيًا يضاد حكم الله ويمنح السيادة للشعب لا للشرع. هذا الطرح الذي يبدو للوهلة الأولى امتدادًا لمنظومة فقهية متشددة، يكشف في جوهره عن أزمة أعمق: عجزٌ عن التكيف مع الواقع السياسي المتغير، وفشلٌ في إنتاج خطاب يجمع بين العقيدة والمصلحة، بين المبادئ والواقع.
تعتمد هذه السردية على قراءة تجريدية للنصوص الدينية، تُنزع فيها الآيات من سياقها التاريخي والاجتماعي وتُوظف لبناء حكم مطلق على النظم السياسية المعاصرة، دون تمييز بين الأطر العقدية والوسائل الإجرائية. فوفق منطق داعش، لا فرق بين من يشارك في انتخابات محلية في بلد مسلم، وبين من يعلن صراحة تبعيته للقيم الليبرالية الغربية؛ الجميع في خانة الشرك، وكلهم "مرقوا من الدين"، وهي قراءة تختزل العالم الإسلامي في ثنائية الكفر والإيمان، دون أي مساحة للاجتهاد أو المقاربة السياسية الواقعية.
الأخطر من هذه المقاربة ليس فقط الحكم على الديمقراطية بالشرك، بل توظيف هذا الحكم لإقصاء وتكفير كل من خالف التنظيم، من الحركات الإسلامية السياسية إلى فصائل الجهاد المحلية، مرورًا بالحكومات والشعوب. تصبح الديمقراطية هنا أداة شعائرية بحتة، لا باعتبارها نظامًا سياسيًا قابلًا للنقد أو التعديل، بل كـ"رمز" للردة والخيانة، ما يفتح الباب أمام تبرير القتل والتصفية الدموية تحت لافتة "الولاء والبراء"، في منطق إقصائي لا يستبقي أحدًا خارج حدود التنظيم.
وهكذا يتحول الفضاء الجهادي – كما تصوّره الافتتاحية – إلى معركة داخلية ضد الخصوم الأقرب، أكثر من كونه ساحة مواجهة مع الخصوم البعيدين. فبدلًا من توجيه طاقة الصراع نحو "العدو الأكبر"، تُستنزف الجهود في اجتثاث الداخل، وفي تكفير الآخر "المنحرف" عن خط التوحيد الداعشي. إنها حالة من الانغلاق الذاتي، تنسف أي إمكانية لتوحيد الصف أو بناء مشروع بديل، وتُبقي التنظيم في دائرة دموية مغلقة لا تنتج سوى المزيد من العزلة والانكفاء.
دابق والحنين إلى الرمزية الغيبية
تستحضر افتتاحية النبأ رقم 495 مدينة دابق، التي لطالما شكّلت في أدبيات تنظيم داعش رمزًا لنبوءة آخر الزمان ومعركة المصير بين "جند الإسلام" و"جند الكفر"، بحسب تصورهم. وعلى الرغم من أن التنظيم فقد السيطرة على دابق منذ سنوات، إلا أن استدعاءها مجددًا في سياق الحديث عن الصراع مع الجولاني والغرب يعكس رغبة دفينة في إحياء البعد "الغَيبي" للصراع، حيث تتحول المعارك من وقائع سياسية وعسكرية إلى علامات على طريق النهاية الكونية.
هذا الاستخدام المفرط للرمزية يكشف عن إفلاس سياسي، إذ لم يعد لدى التنظيم ما يقدّمه من رؤى أو حلول، سواء على مستوى الحكم أو التنظيم أو حتى التعبئة. فبدلًا من تحليل الوقائع أو تقديم قراءة عقلانية للتحولات التي تشهدها الساحة السورية، يلجأ إلى القفز فوق الواقع نحو مشاهد أسطورية، يتحول فيها كل شيء إلى اختبار إيماني، وكل معركة إلى تجلٍّ لقدَرٍ مكتوب، متجاهلًا تعقيدات السياسة وتغير ميزان القوى.
إن إعادة تدوير رمزية دابق ليست سوى قناع ديني لتبرير الهزائم، فكلما خسر التنظيم موقعًا ميدانيًا أو انكفأ أمام خصومه، لجأ إلى تبريرات غيبية تُحيل الخسارة إلى "ابتلاء" تمهّد للنصر المنتظر. هذا المنطق لا يبرر فقط الفشل، بل يروّج لمفهوم "الطريق الدموي إلى التمكين"، حيث تصبح المعاناة والتضحيات والانتحار الجماعي شروطًا ضرورية لتحقيق الوعد المؤجل.
والنتيجة أن التنظيم يظل حبيس سردياته الأسطورية، غير قادر على الانخراط في الواقع أو إنتاج مشروع بديل. فالحنين إلى "دابق" ليس استدعاءً لجغرافيا فقدها، بل محاولة لإحياء شرعية خطاب ميت، لم يعد يحرّك الجماهير إلا من باب الحنين إلى وهمٍ قديم. وبهذا، يقدّم نفسه لا كقوة سياسية لها أهداف واضحة، بل كطائفة باطنية تتغذى على الدم والأسطورة، في انتظار معركة لن تأتي.
دعوة للاستسلام المقنع والعودة إلى "سرايا الدولة"
في القسم الأوضح من افتتاحية النبأ، يتوجه تنظيم داعش برسالة دعوية علنية إلى المقاتلين الأجانب الذين لا يزالون في صفوف هيئة تحرير الشام، داعيًا إياهم إلى "التوبة" والعودة إلى صفوف "الدولة الإسلامية". لكنها ليست دعوة ناصحة أو منفتحة، بل أشبه ببيان محكمة تفتيش، مشحون بالتحقير والوعيد، حيث يُعامل هؤلاء كمذنبين لا بد أن يُطهّروا بالخضوع مجددًا لسلطة "الخلافة"، وكأن العودة ليست موقفًا سياسيًا حرًا، بل طقس إذلال يُفرض على من ضلّ الطريق.
هذه الرسالة تكشف بوضوح أزمة في الموارد البشرية التي يعاني منها التنظيم، بعد خسارته لمساحات شاسعة من نفوذه الميداني ومقتل عدد كبير من قادته ومقاتليه، لا سيما في سوريا. لم يعد داعش قادرًا على استقطاب عناصر جديدة عبر شعارات التمكين أو صورة "الدولة الراشدة"، بل بات يراهن على تفكيك معسكرات خصومه من الداخل، عبر تحريض أفراده على الانشقاق والعودة، ولو من باب "الكفارة السياسية".
الخطير في هذا الخطاب أنه لا يعِد المنشقين السابقين بـ"عفو" أو "احتواء"، بل يبتزهم أخلاقيًا، ملوّحًا بأن استمرارهم خارج طاعة "الدولة" يجعلهم في خانة الخيانة والعمالة. إن ما يقدمه داعش هنا ليس "ملاذًا تنظيميًا" بل صفقة إذعان: عد إلينا مكسورًا، واعترف بخطاياك، وسنمنحك فرصة جديدة للموت في سبيلنا! فالعودة ليست انتماءً حرًا بل استسلامًا مشروطًا بالولاء الكامل.
إن هذا التحول في نبرة الخطاب من "الوعد بالجنة" إلى "التحريض على التوبة المذلة" يعكس طبيعة التحول الأيديولوجي العميق الذي طرأ على التنظيم. لم يعد داعش يجذب الأتباع بحلم يوتوبيا الخلافة أو العدالة السماوية، بل يعبّئهم بشحنات من الكراهية والثأر، محرّكًا إياهم لا نحو البناء بل نحو الانتحار الانتقامي ضد من يراهم خصومًا ومرتدين، حتى لو كانوا يومًا رفاق السلاح.
بين "العرض من الدنيا" والواقعية السياسية
في معرض هجائها للجولاني، تصف افتتاحية النبأ ما قام به بـ"الارتداد من أجل عرض من الدنيا"، في إشارة إلى تحوّله السياسي ومحاولته كسر القطيعة مع المجتمع الدولي. لكن هذه العبارة، رغم صخبها التكفيري، تبدو قاصرة عن الإحاطة بطبيعة التحولات التي خاضها الرجل. فمهما اختلفنا مع خيارات الجولاني، فإن تفسيرها بمعايير "الإيمان والكفر" فقط، يتجاهل السياقات المعقدة التي تدفع الجماعات المسلحة إلى إعادة تموضعها، خاصة في بيئة شديدة التشظي كالساحة السورية.
الواقع أن الجولاني انتقل من قيادة فصيل جهادي عابر للحدود، إلى رأس مشروع محلي يسعى –ولو شكليًا– للتماهي مع منطق "الدولة"، محاولًا كسب شرعية داخلية وخارجية، وتقديم نفسه كفاعل يمكن احتواؤه لا استئصاله. هذا التحول لا يعني بالضرورة تبرئة الرجل من تاريخه الدموي، لكنه يشي بوعي براغماتي متنامٍ، يُدرك استحالة العيش في عزلة مطلقة عن النظام العالمي وموازين القوى. ومن هنا، فإن الهجوم الداعشي عليه يعكس عجزًا عن فهم منطق السياسة الواقعية، وليس مجرد رفض عقدي للـ"تطبيع".
المفارقة الصارخة أن داعش نفسه لم يكن يومًا نقيًا من التكتيك أو المساومة، فقد دخل في تفاهمات ميدانية ضمنية مع قوى مختلفة، وتبادل المنافع مع خصومه حين اقتضت الحاجة، لكنه يبرّر ذلك دائمًا تحت لافتة "الضرورة القتالية" أو "المصالح الشرعية"، ثم يعود ليُحاكم الآخرين بمنطق "الثوابت الإيمانية" و"الولاء والبراء"، في استعراض مزدوج للفقه والواقعية على حسب المقام والموقع.
إن هذه الازدواجية ليست سوى انعكاس لانفصام بنيوي في الخطاب الداعشي، الذي يدّعي الطهرانية العقدية بينما ينغمس في صفقات التكتيك على الأرض، ويمنح لنفسه حق الاجتهاد السياسي بينما يُنكر على الآخرين مجرد محاولة التكيّف. في المحصلة، لا يدور الصراع هنا حول "من هو الأتقى"، بل حول من يحتكر التفسير، ومن يملك حق الفتوى والتمثيل، وهي معركة سلطة بقدر ما هي معركة تأويل.
دلالات الافتتاحية وتأثيرها على تنامي الإرهاب:
تعكس الافتتاحية الأخيرة من صحيفة النبأ حجم التوتر الأيديولوجي داخل التيار الجهادي، وهي ليست مجرد ردّ فعل على لقاء الجولاني وترامب، بل تعبّر عن محاولة داعش استعادة زمام الخطاب "الطهراني" بعد سنوات من التراجع الميداني. هذا التصعيد اللفظي، المغموس بالتكفير والتخوين، لا يُعبر عن قوة فكرية بل عن أزمة هوية في التنظيم، حيث يحاول عبر خطاب شعائري متشدد أن يُعيد رسم حدوده العقائدية في مواجهة منافسيه الجهاديين. وبالتالي، فإن دلالة الافتتاحية تتجاوز محتواها المباشر، لتكشف عن نزعة ارتدادية تعزز الانغلاق والتشدد كوسيلة لإثبات الذات داخل التيار الراديكالي.
على المستوى المحلي، يمثّل هذا النوع من الخطاب مادةً خصبة لتغذية عمليات التجنيد، خاصة في البيئات الهشة التي تعاني من التهميش والفوضى. فحين يُقدَّم الانخراط في صفوف داعش كـ"توبة من الردة"، فإن التنظيم لا يخاطب خصومه فقط، بل يوجّه رسالة تحريض ضمنية للكوادر المنشقة أو المترددة، مفادها أن العودة تمرّ عبر الولاء العقائدي الأعمى لا عبر مراجعة نقدية. هذا المنطق يُعيد إنتاج الإرهاب داخليًا، من خلال تأجيج الصراعات بين الفصائل المسلحة، وفتح الباب أمام موجات جديدة من العنف الانتقامي تحت لافتة "تطهير الصفوف".
أما إقليميًا، فإن استمرار هذا الخطاب التكفيري يغذّي التوتر بين الفصائل الإسلامية المسلحة، ويؤجج منطق "الاقتتال الجهادي"، وهو ما يعمّق عدم الاستقرار في مناطق مثل إدلب وشمال سوريا. كما يعيد إنتاج نموذج "المجتمع المنكوب" الذي يتحول فيه المدنيون إلى رهائن في معركة فقهية لا ترحم، ويمنح بعض الدول الإقليمية ذريعة لمزيد من التدخل تحت شعار مكافحة الإرهاب، بينما يكون الهدف الحقيقي هو تصفية الحسابات أو تثبيت النفوذ الجيوسياسي.
أما على الصعيد العالمي، فإن هذه الافتتاحية، وما تحمله من نَفَس إقصائي، تفضح زيف الادعاءات السابقة عن "التوبة" و"الاندماج" لبعض التيارات الجهادية. فهي تُعيد تعريف الجهاد كحالة مطلقة من العداء مع العالم، وترفض منطق السياسة والدبلوماسية بوصفهما "كفرًا"، ما يهدد بإعادة إحياء سردية "نهاية الزمان" التي تستقطب الذئاب المنفردة والمتحمسين خارج مناطق الصراع التقليدية. بهذا المعنى، تُسهم هذه الافتتاحية في إعادة تدوير الإرهاب عالميًا، لا عبر العمليات فقط، بل من خلال زرع أفكار سوداء في عقول من يستهويهم خطاب المطلقات والعنف المقدّس.
الإفلاس العقائدي في ثياب "النبوة"
تقدم افتتاحية العدد 495 من صحيفة النبأ التابعة لتنظيم داعش نموذجًا صارخًا للإفلاس العقائدي الذي يعاني منه التنظيم اليوم، حيث لا ترتقي إلى مستوى تحليل سياسي أو رؤية استراتيجية، بل تقتصر على كونه "بيان إدانة ديني" يحمل نزعة تأبينية لمشروع جهادي انتهى فعليًا. النص مشحون بحقد ومرارة، ويتخذ شكلًا شعائريًا يهدف إلى فرض هيمنة رمزية على الساحة الجهادية، كنوع من الرد على فقدان التنظيم لتفوقه العملياتي والنفوذ الميداني. هذا الخطاب لا ينم عن قوة، بل عن أزمة عميقة تعكس حالة من التيه الفكري والسياسي.
في هذا السياق، تحاول الافتتاحية رسم حدود صارمة للتيار الجهادي، من خلال ترسيخ بنية انقسامية جديدة تكرس الصراعات الداخلية بين الفصائل الإسلامية المسلحة، مما يهدد بتصعيد جديد من عمليات الاقتتال والتصفية البينية. هذا التمزق الداخلي ليس وليد المصادفة، بل هو نتاج طبيعي لتراجع تنظيم كان يتصدر المشهد لكنه وجد نفسه اليوم مضطرًا للدفاع عن وجوده عبر خطاب متشنج ينزع إلى التشدد والتكفير المطلق. هذه السردية الانقسامية تزيد من تعقيد المشهد الجهادي، وتعزز من فرص تفكك أوسع وأخطار أعمق على الأمن والاستقرار.
أما بشأن اللقاء بين زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السعودية، فتؤكد الافتتاحية على خطأ تقييم هذا الحدث كخيانة دينية أو سياسية بالمعنى الضيق. فاللقاء، يعكس بوضوح التشابكات المعقدة في السياسة الدولية التي لا يمكن فهمها عبر مقاييس مطلقة مثل "الإسلام والخلافة" و"الكفر والردة". داعش، برفضها لهذا الواقع، تُظهر عجزًا في التكيف مع المشهد الدولي الجديد، مما يعمّق أزمة تشتتها وانغلاقها على نفسها.
في المحصلة، تعبر افتتاحية النبأ عن حالة تائهة ومتمسكة بوهم سلطة لم تعد قائمة في أرض الواقع، بل في فضاء خيالي يرفض الاعتراف بالتغيرات السياسية والجغرافية التي طرأت على الساحة الجهادية. هذا الخطاب الشعائري التدميري، بدلاً من أن يكون أداة للبقاء، قد يكون مؤشرًا على اقتراب مرحلة جديدة من الانهيار داخل التنظيم، وإعلان صامت عن نهاية حقبة كانت مليئة بالصراعات والتضليل، مما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل داعش وأثرها في الحركات الجهادية والعالمية.