فرنسا ترفع مستوى الإنذار: تقرير يكشف شبكة الإخوان الخفية في المجتمعات المسلمة

الثلاثاء 20/مايو/2025 - 09:01 م
طباعة فرنسا ترفع مستوى حسام الحداد
 
عادت جماعة الإخوان المسلمين إلى واجهة الجدل السياسي والأمني في أوروبا، وهذه المرة من بوابة تقرير رسمي فرنسي أثار الكثير من الانتباه والقلق. التقرير، الذي أعده كل من السفير الفرنسي جيرار آرو ومسؤول كبير في جهاز الشرطة، جاء بتكليف مباشر من وزارات الداخلية والدفاع والخارجية، ما يعكس جدية الدولة الفرنسية في التعامل مع ما وصفته بـ"الاختراق المنهجي" الذي تقوم به الجماعة داخل النسيج الاجتماعي للجمهورية.
يحمل التقرير عنوان "الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا"، وقد أُعد بعد عمل ميداني وتحقيقي امتد لأشهر، شمل عشر زيارات ميدانية داخل الأراضي الفرنسية وأربع زيارات إلى دول أوروبية أخرى، بالإضافة إلى لقاءات موسعة مع 45 خبيرًا وأكاديميًا من خلفيات فكرية متعددة. هذه الخلفية الاستقصائية منحت التقرير مصداقية مضافة، خاصة مع تأكيده على التنسيق الوثيق مع أجهزة الاستخبارات الفرنسية ومختلف الإدارات الحكومية المعنية.
ما خلص إليه التقرير لا يقتصر على ملاحظات نظرية، بل يتحدث بلغة الأرقام والوقائع: إذ يشير إلى وجود 139 دار عبادة إسلامية في فرنسا تُعدّ "مقار رئيسية" تابعة لجماعة الإخوان، إلى جانب 68 مكانًا آخر يعتبر قريبًا من الجماعة، موزعين على 55 مقاطعة فرنسية. هذا الامتداد يشكل، بحسب التقرير، ما نسبته 7% من إجمالي المساجد في البلاد، و10% من المساجد التي تم افتتاحها خلال العقد الماضي، في مؤشر واضح على تسارع وتيرة التوسع.
لكن الأهم في مضمون الوثيقة هو التأكيد على أن الجماعة لا تنشط فقط من خلال المساجد، بل تعتمد على شبكة واسعة من الجمعيات، يُقدّر عددها بـ280 جمعية، تغطي مجالات متنوعة تشمل التعليم والدين والعمل الخيري والمجالات الشبابية وحتى القطاع المالي. ويصف التقرير هذا النشاط بأنه يندرج ضمن مشروع متكامل لإعادة "أسلمة" المسلمين في فرنسا وفقًا لأيديولوجية الجماعة، بهدف خلق بيئة موازية للجمهورية، تهيئ تدريجيًا لممارسات انفصالية وتخريبية تهدد وحدة الدولة وقيمها العلمانية.

من الدعوة إلى التغلغل المؤسسي
أوضح التقرير الفرنسي أن جماعة الإخوان المسلمين لم تعد تكتفي بالأدوار التقليدية التي ارتبطت بها تاريخيًا، مثل الدعوة الدينية أو العمل الخيري البسيط، بل باتت تنتهج مسارًا مؤسساتيًا منظمًا يستهدف إعادة هندسة البنية الإسلامية داخل فرنسا. هذه الهندسة لا تقوم على تنمية دينية أو اجتماعية طبيعية، بل على بناء نفوذ استراتيجي طويل الأمد، تتحول فيه المساجد والمراكز الثقافية إلى أدوات تعبئة وتشكيل أيديولوجي، لا مجرد أماكن للعبادة أو التعليم.
الانتشار المكثف لدور العبادة المرتبطة بالجماعة، والذي يشمل ما مجموعه 207 مساجد ومراكز دينية موزعة على أكثر من نصف المقاطعات الفرنسية، لا يُقرأ كأمر عفوي. بل يعكس وجودًا مدروسًا قائمًا على اختيار مناطق بعينها لبناء حواضن فكرية مغلقة تُعيد إنتاج الخطاب الإسلاموي، وتعيد تعريف علاقة المسلم بالدولة والمجتمع من منظور أيديولوجي. هذه العملية، بحسب التقرير، تُنفذ عبر خطاب تربوي هادئ المظهر، لكنه يحمل في طياته مشروعًا سياسيًا يُراد له أن يتغلغل بهدوء داخل النسيج الجمهوري.
الخطير في هذا النشاط هو تبنّيه استراتيجية "التدرج الناعم"، التي تبدأ بما يسميه التقرير "إعادة الأسلمة"، أي استعادة الجاليات المسلمة من فضاء المواطنة والانفتاح، وإدخالها في حقل ثقافي ديني محافظ ومتقوقع، غالبًا ما يستبطن مفاهيم الولاء للجماعة لا للدولة. وعندما تترسخ هذه البيئة المغلقة، يبدأ ما يسميه التقرير بـ"الانفصال"، ليس جغرافيًا، بل رمزيًا واجتماعيًا، حيث يُعاد بناء ولاءات موازية للدولة على أسس دينية حزبية، تمهّد لاحقًا لنوع من "التخريب المدني".
ولا يعني "التخريب" هنا عمليات عنف مباشرة، بل ما هو أخطر منها على المدى الطويل: زعزعة أسس الدولة العلمانية عبر صناعة واقع اجتماعي بديل داخل الدولة ذاتها. هذا الواقع يقوم على خطاب مزدوج، تتحدث فيه الجماعة علنًا عن التسامح والتعددية، بينما تدفع سرًا نحو خلق مجتمع مسلم "مفصول الهوية"، يُقدّم الولاء للأمة الإسلامية كما تراها الجماعة، لا للجمهورية الفرنسية. وبهذا الشكل، تتحول مؤسسات الدولة وقيمها إلى ساحة صراع صامت مع كيان يلبس لبوس الدين، لكنه يتحرك بمنطق التنظيم السياسي الممنهج.

الإخوان كجماعة فوق قومية
ما يثير قلق الدولة الفرنسية، بحسب التقرير، لا يقتصر على انتشار الجمعيات أو المساجد التابعة لجماعة الإخوان، بل يتعداه إلى الطابع "الفوق-وطني" للمشروع الإخواني نفسه. فالجماعة، في جوهرها، لا ترى في الحدود الوطنية إلا حواجز مصطنعة، وتُعلي من شأن ما تسميه "الأمة الإسلامية" كمفهوم شمولي يتجاوز الانتماءات القومية. هذا التصور يُنتج، بطبيعته، حالة من التعارض الجوهري مع فكرة الدولة-الأمة التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، ويحوّل ولاء المواطن المسلم من الداخل الوطني إلى كيان رمزي عابر للدول.
في هذا الإطار، لا يعود المسلم الفرنسي يُنظر إليه كفرد مندمج في منظومة المواطنة الفرنسية، بل كعضو محتمل في مشروع أوسع، يتلقى توجيهه الأيديولوجي والثقافي من مرجعيات خارجية. ففكر الإخوان، كما يشير التقرير، لا ينبع من تجربة دينية فردية أو روحية محلية، بل من منظومة مؤدلجة تستمد روحها من كتابات سيد قطب وحسن البنا، حيث يُنظر إلى الغرب – بما فيه فرنسا – على أنه فضاء للهيمنة الثقافية يجب مقاومته عبر "التمكين" التدريجي للإسلام السياسي.
وفي هذا السياق، تصبح فرنسا، ليس فقط وطنًا للمسلمين الفرنسيين، بل "ساحة صراع" كما تراها الجماعة، لاختبار مفاهيم الهوية والولاء والانتماء. المؤسسات، والقوانين، وحتى قيم الجمهورية مثل العلمانية وحرية التعبير، تُعاد قراءتها وتفسيرها وفقًا لمنظور الحركة، بحيث تُستخدم أحيانًا كوسائل لحماية المشروع الإسلاموي، لا كغايات تُحترم. وهذا ما يفتح المجال أمام ازدواجية خطيرة في الخطاب والممارسة: احترام علني للدستور الفرنسي، يقابله التزام داخلي بتغيير المجتمع وفق منطق الجماعة.
الأخطر من ذلك، أن هذا الولاء الفوق-قومي لا يبقى في دائرة الفكر أو الطموح النظري، بل يُترجم عمليًا من خلال شبكات تنسيق عابرة للحدود. فبعض الجمعيات النشطة في فرنسا، بحسب ما يوحي التقرير، على صلة مباشرة بمراكز قرار إخوانية في دول أخرى، سواء عبر التمويل أو التوجيه أو التدريب. هذا يخلق نوعًا من "الكيانات الموازية" داخل الدولة الفرنسية، لا تكتفي بممارسة العمل الدعوي، بل تُشارك في تشكيل مواقف الجاليات، وفي أحيان كثيرة، تضغط باتجاه سياسات تنسجم مع أجندات خارجية لا تعترف بخصوصية الدولة الفرنسية أو أولوياتها الوطنية.

البُعد الأمني والسياسي
يمثل التقرير الفرنسي نقطة تحول في تعامل الدولة مع ملف الإسلام السياسي، لا سيما أنه لم يُبنَ على انطباعات عامة أو تحليلات مكتبية، بل جاء ثمرة عمل استقصائي موسّع جمع بين الرصد الميداني والدراسة الأكاديمية والتعاون الأمني. فقد اعتمد معدّوه، وهما دبلوماسي ومسؤول أمني بتكليف من وزارات الداخلية والدفاع والخارجية، على عشر زيارات ميدانية داخل فرنسا، وأربع أخرى خارجها في دول أوروبية، إضافة إلى مقابلات مع أكثر من 45 خبيرًا وأكاديميًا من اتجاهات فكرية متنوعة، مما يمنحه ثقلًا معرفيًا وسياسيًا يصعب تجاهله.
هذا العمق البحثي لم يكن معزولًا عن الأجهزة السيادية، بل كان جزءًا من تعاون وثيق مع الاستخبارات الفرنسية، التي قدّمت تقييمات ومعطيات مباشرة حول طبيعة نشاط جماعة الإخوان داخل البلاد. التقرير لم يتردد في وصف هذا النشاط بأنه يشكّل "تقويضًا من الداخل"، وهو تعبير بالغ الدلالة في السياق الأمني، إذ يُفهم منه أن الجماعة تعمل بأساليب غير مباشرة، ناعمة أحيانًا، لكنها ممنهجة وتستهدف بنية الدولة من حيث التكوين القيمي والثقافي، وليس فقط عبر تهديدات مادية أو أمنية تقليدية.
في هذا الإطار، تستحضر الدولة الفرنسية تاريخًا طويلًا من المواجهة مع التيارات التي تسعى لإعادة تشكيل المجال العام وفق منطلقات دينية. فمنذ ترسيخ العلمانية في بداية القرن العشرين، ظلّت الجمهورية في حالة حذر من أي اختراق إيديولوجي قد يُعيد تديين المجال السياسي والاجتماعي. والجديد في حالة الإخوان، كما يفهم من التقرير، أنهم لا يسلكون طريق المواجهة العنيفة، بل يعملون على إعادة صياغة الفضاء العام تدريجيًا، من داخل المؤسسات الشرعية ذاتها، ما يجعل اكتشافهم ومقاومتهم أكثر تعقيدًا.
أما البُعد السياسي للتقرير، فيتجلى في توقيته ومكان عرضه المنتظر: اجتماع المجلس الأعلى للدفاع الوطني برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون. هذا يعني أن الدولة لم تعد تنظر إلى نشاط الجماعة كمسألة دينية أو اجتماعية فحسب، بل باتت تعتبره ملفًا استراتيجيًا ذا أولوية على أجندة الأمن القومي. إدراج هذا الملف في إطار المجلس الأعلى للدفاع لا يرمز فقط إلى خطورته، بل أيضًا إلى تحوّل في كيفية إدارة الدولة الفرنسية لعلاقتها مع جماعات الإسلام السياسي، وربما تمهيدًا لسياسات أكثر حزمًا في المرحلة القادمة.

لكن السؤال المركزي: لماذا الآن؟
يظل السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: لماذا يظهر هذا التقرير الآن، رغم أن نشاط جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا ليس بالأمر الجديد؟ الإجابة الأقرب، وفق السياق السياسي والأمني الراهن، ترتبط بتصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية الفردية، التي باتت تُنفذ من قبل عناصر "ذئاب منفردة"، يصعب ربطها تنظيميًا بجهات معروفة، لكنها في الغالب تحمل تأثرًا عميقًا بأدبيات الإسلام السياسي وخطابه التحريضي. الاعتداءات الأخيرة، كالهجوم على كنيس يهودي، أو عمليات الطعن في الأماكن العامة، ليست معزولة عن سياق أيديولوجي يغذي التطرف ويعيد تأطيره بأشكال تتجاوز التنظيمات التقليدية.
هذه الحوادث، على محدوديتها العددية، أثبتت للدولة الفرنسية أن الخطر لم يعد يتمثل فقط في المجموعات المسلحة، بل في بيئة فكرية موازية تنمو داخل المجتمع، وتُنتج قابليات للعنف السياسي من خلال خطاب يُلبس العنف ثوب "الواجب الشرعي" أو "المظلومية الدينية". وهنا تبرز خطورة "الأسلمة السياسية" التي لا ترفع السلاح بالضرورة، لكنها تمهّد له ثقافيًا ونفسيًا، وتُنتج حالة من العزلة والهويات المغلقة التي تجعل من التطرف خيارًا مقبولًا في أوساط بعض الشباب.
بموازاة هذا البُعد الأمني، يبرز بُعد سياسي داخلي لا يمكن إغفاله. فصعود التيارات اليمينية واليمين المتطرف في فرنسا، وسط أجواء انتخابية مشحونة، خلق ضغطًا شعبيًا متزايدًا على الحكومة لاتخاذ مواقف صارمة تجاه ما يُعرف بـ"الانفصالية الإسلامية". هذه الانفصالية، التي سبق أن حذر منها الرئيس ماكرون نفسه، لم تعد مفهوماً غامضًا أو نظريًا، بل باتت ماثلة في أشكال متعددة من الرفض الضمني لقيم الجمهورية، بدءًا من عدم احترام العلمانية، وصولًا إلى محاولات بناء مجتمعات موازية داخل المدن الفرنسية.
وبالتالي، فإن توقيت التقرير لا ينفصل عن حاجة الدولة إلى ترسيخ خطاب سياسي واضح تجاه الجماعات التي تستغل مناخ الحريات لتقويض النظام من داخله. فالإخوان المسلمون، بحسب كثير من المراقبين، يتعاملون مع الديمقراطية كأداة مؤقتة للوصول، لا كقيمة يُؤمن بها المشروع. وهذا التوظيف الانتهازي للمجال الديمقراطي، هو ما دفع الدولة الفرنسية إلى دق ناقوس الخطر، ليس فقط لحماية أمنها القومي، بل أيضًا لصون نموذجها الجمهوري العلماني من التآكل البطيء الذي قد لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يضرب في العمق.

الإخوان والازدواجية: الاندماج كقناع
من بين أكثر الجوانب إشكالية في حضور جماعة الإخوان المسلمين داخل المجتمع الفرنسي – وسائر أوروبا – هي تلك الازدواجية المتقنة التي تتقن الجماعة توظيفها. فهي تُقدّم نفسها كفاعل مدني يندرج ضمن إطار الحريات الدينية والتعددية الثقافية، بينما تمارس في الواقع سلوكًا سياسيًا متخفّيًا، يُعيد إنتاج منظومة قيم مغلقة لا تنتمي إلى المجال المدني الأوروبي. هذا النمط المزدوج من الخطاب والسلوك يسمح للجماعة بالتحرك في الهامش القانوني للدولة، والاستفادة من الحماية التي توفرها الديمقراطية، لتغذية مشروع لا ديمقراطي في جوهره.
الخطاب العلني للجماعة في فرنسا، كما يظهر في تصريحات مسؤولي الجمعيات أو أئمة المساجد المرتبطين بها، غالبًا ما يُشدد على مفاهيم التعايش والحوار والانفتاح. لكن هذا الخطاب لا يعكس البنية الفكرية العميقة للجماعة، التي ما تزال مشبعة بأدبيات سيد قطب وحسن البنا، حيث تكون الأولوية لبناء "الطليعة المؤمنة"، لا للاندماج الفعلي في المجتمع. وهكذا يُصبح مفهوم "الاندماج" نفسه أداة استراتيجية، لا هدفًا حقيقيًا، يُستخدم لتأمين الغطاء القانوني والمؤسسي الذي تحتاجه الجماعة لمدّ نفوذها.
أحد أخطر تجليات هذه الازدواجية يتمثل في بناء مؤسسات تعليمية وثقافية ودينية تعمل على خلق "مجتمع داخل المجتمع"، يُعيد إنتاج الهوية الإسلامية وفق تفسير أيديولوجي إخواني، لا إسلامي جامع ولا مواطني شامل. فالمدارس الخاصة، والجمعيات الخيرية، والمراكز الثقافية المرتبطة بالجماعة، تُعيد تعريف العلاقة بين المسلم والدولة الفرنسية بطريقة تعزّز الانكفاء والهويات الانعزالية. وفي بعض الحالات، يتم تقديم الالتزام بالدين – كما تفسّره الجماعة – كبديل عن الالتزام بالقانون أو قيم الجمهورية.
هذا النهج، في محصلته النهائية، لا يؤدي فقط إلى زعزعة التجانس الاجتماعي، بل يُغذي أيضًا روايات الضحية والتهميش، التي تُمكّن الجماعة من تأطير الشباب المسلم ضمن خطاب مظلومي يبرر العزلة أو حتى التمرد الرمزي. وما يبدو "اندماجًا" على السطح – عبر مشاركة في الانتخابات أو الأنشطة المدنية – يخفي في جوهره منطقًا موازٍيًا، يُقيم توازنًا بين البقاء داخل الدولة والعمل من أجل مشروع مغاير لها. إنها ازدواجية تُجيد التحايل على القانون، لكنها لا تخفي في النهاية هدفًا واضحًا: إعادة تشكيل المجتمع من الداخل، باسم الدين، وبأدوات القانون ذاته.

الإزدواجية العابرة للحدود
ما كشفه التقرير الفرنسي بشأن ازدواجية جماعة الإخوان في خطابها وسلوكها داخل فرنسا، لا ينفصل عن نمط مماثل شهدته دول أوروبية أخرى خلال العقدين الأخيرين. إذ بات واضحًا أن الجماعة تعتمد في أوروبا على استراتيجية متعددة الطبقات: التماهي مع القيم الليبرالية في الظاهر، وتغذية مشروعها الأيديولوجي الخاص في العمق. وهي لا تقدم نفسها كخصم مباشر للنظام السياسي، بل كمكوّن مجتمعي يسعى لتمثيل "الإسلام الأوروبي"، في حين أن حقيقة ما يجري هو توظيف للديمقراطية من أجل تثبيت خطاب غير ديمقراطي في جوهره.
في ألمانيا، على سبيل المثال، دقّت تقارير الاستخبارات الداخلية (BfV) ناقوس الخطر أكثر من مرة، محذرة من محاولات "الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية" (DITIB) و"منظمة المجتمع الإسلامي Milli Görüş" التي تحمل فكرًا قريبًا من الإخوان، في استخدام التعليم الديني والمساجد لبناء فضاء موازٍ. وقد لاحظت الأجهزة الأمنية وجود خطاب مزدوج: واحد علني يركّز على التسامح والاندماج، وآخر داخلي يستحضر أدبيات سياسية محافظة تميل إلى الانعزال وتروّج لهوية فوق قومية.
أما في بريطانيا، فقد اتبعت جماعة الإخوان تكتيكًا مشابهًا، لكنها استثمرت بشكل أكبر في "النضال الحقوقي" و"التمثيل السياسي المحلي". فقد تمكّنت من التغلغل داخل مجالس محلية ومنظمات مجتمع مدني تحت شعارات تمكين الأقليات والدفاع عن الحقوق الدينية. غير أن تقارير بريطانية رسمية – مثل تقرير السير جون جنكينز عام 2015 – كشفت أن خطاب الجماعة في الخارج يختلف جذريًا عن خطابها باللغة العربية، حيث يُعاد إنتاج مفاهيم الولاء للجماعة كتنظيم أممي يتجاوز الحدود الوطنية، تمامًا كما هو الحال في فرنسا.
وفي النمسا، تم اتخاذ خطوات أكثر صرامة مع ما يُعرف بـ"خريطة الإسلام السياسي"، التي أعدّتها الحكومة النمساوية بهدف كشف الشبكات التي تديرها جماعات إسلامية سياسية، على رأسها الإخوان. وقد أثار هذا المشروع جدلاً واسعًا حول الموازنة بين حرية العقيدة والحق في الأمن الفكري والثقافي. إذ تبين من خلال هذا العمل أن الجماعة تستخدم المؤسسات التعليمية والدينية كمراكز لإعادة إنتاج خطاب موازٍ يعزز الانفصال الثقافي عن الدولة.
تُظهر هذه الحالات الأوروبية المتعددة أن الجماعة تتبنى تكتيكًا مشتركًا يقوم على استثمار أدوات الديمقراطية الغربية، لا للاندماج فيها، بل لتأسيس مشروع متمايز عنها. إنها براجماتية سياسية محنكة تجعل من "الاندماج" قناعًا وليس غاية، ومن "الحرية" وسيلة لتكريس خطاب غير تحرري. وهو ما يُحتم على الدول الأوروبية إعادة النظر في أدوات مواجهتها، ليس فقط أمنيًا أو تشريعيًا، بل على المستوى الرمزي والثقافي، حيث تُخاض المعركة الحقيقية.

بين الحظر والمواجهة الثقافية
السؤال الجوهري الذي يطرحه التقرير الفرنسي – ضِمنًا إن لم يكن صراحة – هو: ما السبيل الفعّال لمواجهة التمدد الإخواني داخل البنية الاجتماعية والدينية الفرنسية؟ هل يكفي الحل الأمني أو القانوني القائم على الحظر والتجريم؟ الواقع يشير إلى أن جماعة الإخوان طوّرت على مدى عقود قدرة عالية على التأقلم، بل وعلى "التحايل المؤسسي"، بحيث تتحول بسرعة عند كل تضييق إلى كيانات رديفة تحمل أسماءً مختلفة، دون أن تتخلى عن بنيتها العقائدية الأصلية. وبالتالي، فإن الاعتماد الحصري على أدوات الحظر قد يعطي شعورًا زائفًا بالسيطرة دون معالجة الجذور العميقة للمشكلة.
ما تحتاجه فرنسا – وربما أوروبا كلها – هو استراتيجية مواجهة شاملة تبدأ من الداخل الثقافي والفكري، لا من الخارج الأمني فقط. المواجهة الناعمة التي تستهدف البنية الفكرية للجماعة قد تكون أكثر جدوى على المدى الطويل. ويقصد بذلك دعم سرديات بديلة داخل المجتمعات المسلمة ترفض الاختزال الديني للهُوية، وتتبنّى مفاهيم المواطنة والعيش المشترك والانفتاح على الحداثة، دون الشعور بتهديد للانتماء الديني. فالمشكلة ليست في الإسلام كدين، بل في المشروع الإخواني الذي يُعيد تشكيل هذا الدين وفق منطق سياسي مغلق ومتسلط.
وفي هذا الإطار، لا بد من الاستثمار في التعليم والثقافة والإعلام كوسائل أساسية لبناء مناعة فكرية داخل الأوساط المسلمة، وخاصة بين الشباب. فالثغرات التي تتسلل منها الجماعة تتعلق غالبًا بحالة فراغ قيمي أو شعور بالاغتراب داخل المجتمع الفرنسي. لذا، فإن دعم نماذج من الإسلام المدني المعتدل – ذلك الذي يؤمن بقيم الجمهورية ولا يُزاوج بينها وبين أي مشروع فوق وطني – يمثل ضرورة ملحّة. هذا يتطلب شراكة حقيقية مع فاعلين مسلمين يرفضون المشروع الإخواني، لا تهميشهم أو اختزالهم في خانة "الإسلام الرسمي".
وأخيرًا، فإن المواجهة الحقوقية لا تقل أهمية عن الثقافية. من الضروري كشف تلاعب الجماعة بمفاهيم حقوق الإنسان وحرية المعتقد، والتي تستخدمها كمظلة للتوغل وليس كإيمان حقيقي بها. وهذا يستدعي تطوير خطاب قانوني وأخلاقي يُميّز بين الدين كمعتقد خاص، والسياسة كأداة للسيطرة. مواجهة المشروع الإخواني تتطلب، إذن، عزل هذا الفكر ضمن نطاقه الحقيقي كأيديولوجيا سياسية، لا كمكوّن طبيعي من مكونات التنوع الديني. وهنا فقط، تستطيع فرنسا أن تبني نموذجًا متوازنًا يجمع بين الحرية والأمن، وبين التنوع والانسجام الوطني.

خاتمة
ما يكشفه التقرير ليس جديدًا تمامًا، لكنه يُعبّر عن وعي رسمي فرنسي متزايد بخطورة الإسلام السياسي – لا كدين، بل كمشروع سلطوي يتسلل عبر المساجد والجمعيات. ولعل الأهم في هذه المرحلة هو التمييز بين الإسلام كدين، وجماعة تستغله لتحقيق أجندة لا تعترف بالجمهورية ولا بالدولة، بل تحلم بخلافتها.

شارك