رغم الخلاف الأيديولوجي.. ماهي دوافع "التقارب الحذر" بين طالبان وإيران؟

أعرب أمير خان متقي، القائم بأعمال وزير خارجية حكومة طالبان، عن استعداد الحركة للتعاون مع الشعب الإيراني على أساس "المبادئ الإسلامية والإنسانية"، وذلك خلال لقائه مع بيير ألبرت ألساس، القائم بأعمال السفارة النرويجية في كابول. جاء هذا التصريح في سياق إقليمي متوتر تخلله تصاعد التهديدات بين إيران وإسرائيل، وتخوف من انفجار حرب شاملة في المنطقة.
تأتي هذه
التصريحات في وقت تشهد فيه العلاقات بين طالبان وطهران تذبذباً مقلقاً، تجمعه
ملفات أمنية مشتركة، وتفرقه رؤى عقائدية متجذرة، ومصالح متداخلة مع أطراف إقليمية
ودولية متناقضة. وبينما يبدو موقف طالبان الأخير محاولة للاقتراب من إيران ضمن
سياق براغماتي، فإن جذور الخلاف العقائدي لا تزال تفرض نفسها على أي مسار نحو
تفاهم استراتيجي دائم.
وفي يناير
الماضي، التقي وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي نظيره الأفغاني أمير خان متقي،
حيث عقدا جلسة مباحثات في مقر وزارة الخارجية الأفغانية، كما توجَّه لمقر رئيس
الوزراء محمد حسن أخوند، وذلك خلال أول زيارة رسمية إلى كابل منذ عودة حركة "طالبان" إلى السلطة. وناقش الجانبان
القضايا ذات الاهتمام المشترك وسُبل تعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية
والثقافية.
وقال عراقجي
إن إيران ملتزمة بعودة نحو 3.5 مليون لاجئ أفغاني، وأنها لا تنوي التدخل في الشؤون
الداخلية لجارتها، وفقاً لبيان من المتحدث باسم الحكومة الأفغانية.كما دعا إلى
التنفيذ الكامل لمعاهدة مياه نهر هيرمند، التي تتضمن موارد مائية مشتركة، وفقاً
للبيان.
وكانت وكالة
"إيرنا" الرسمية قد أفادت بأن زيارة عراقجي على رأس وفد رفيع المستوى
تركز على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان. بينما أوضح محمد حسين رنجبران،
مستشار وزير الخارجية الإيراني، أن ملفي "المهاجرين" والخلافات بشأن "مياه
نهر هيرمند" تصدَّرا مباحثات عراقجي ومتقي.
منذ بروز حركة
طالبان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، اتسمت العلاقة مع إيران بالتوتر المعلن،
نتيجة التباين العميق في الخلفية المذهبية بين الطرفين؛ فطالبان تمثل حركة سنية
سلفية تنتمي إلى التيار الديوبندي، وقد خاضت معارك عنيفة ضد الشيعة في أفغانستان،
وخاصة في مناطق الهزارة.
في المقابل،
تقدم إيران نفسها كدولة راعية للشيعة في المنطقة، وتحديدًا للطائفة الاثني عشرية،
وهي تملك شبكة واسعة من الحلفاء الإيديولوجيين في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
وقد بلغ الخلاف بين الطرفين ذروته عام 1998 عندما اجتاحت قوات طالبان مدينة مزار
شريف وقتلت تسعة دبلوماسيين إيرانيين، ما كاد أن يفجر حربًا مباشرة بين البلدين.
ولم يكن
الخلاف محصورًا في الجانب المذهبي، بل تعداه إلى التنافس على النفوذ داخل الأراضي
الأفغانية، خصوصًا في غرب البلاد، حيث تعيش أقلية شيعية أفغانية تحظى بدعم ثقافي
واقتصادي مباشر من طهران. كما أن إيران كانت لعقود حاضنة لكوادر معارضة لطالبان،
خصوصًا من تحالف الشمال، ووفرت ملاذًا سياسيًا وعسكريًا لهم في بعض الفترات.
دوافع التقارب
رغم هذه
الخلفيات المتوترة، فإن الجغرافيا السياسية فرضت على الطرفين نوعًا من التعاون
الحذر خلال السنوات الأخيرة. فإيران، التي تخشى من تمدد نفوذ تنظيم
"داعش" في أفغانستان، وجدت في طالبان حائط صدّ محتمل ضد هذا التنظيم
المتشدد، خصوصًا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد وسيطرة طالبان على الحكم
في أغسطس 2021.
كما أن
الاضطرابات في محافظة هلمند، ومناطق الحدود المتاخمة لإيران، دفعت طهران إلى فتح
قنوات اتصال غير مباشرة، ثم مباشرة، مع طالبان لضبط الأوضاع الأمنية ومنع تهريب
المخدرات وتدفق اللاجئين. وقد تم عقد عدة اجتماعات أمنية بين مسؤولي طالبان والحرس
الثوري الإيراني، ركزت على ضبط الحدود والتعاون الاستخباراتي في مكافحة الجماعات
المسلحة المناوئة للطرفين.
في المقابل،
وجدت طالبان في إيران منفذًا حيويًا لتجنب العزلة الدولية، خاصة في ظل رفض واسع
للاعتراف بحكومتها من قبل الدول الغربية. إيران، التي لا تعترف رسميًا بحكومة طالبان،
تعاملت معها واقعيًا، وفتحت سفارتها في كابول، وسمحت لطالبان بتمثيل دبلوماسي،
وأجرت معها تفاهمات اقتصادية شملت الكهرباء والغاز وتبادل السلع.
ومن اللافت أن
تصريحات متقي جاءت خلال لقاء مع ممثل النرويج، ما يعكس رغبة طالبان في إيصال رسالة
للغرب عبر إيران مفادها أنها شريك قابل للتفاهم إقليميًا، إذا ما تم منحه شرعية
دولية وتخفيف العزلة المفروضة عليه.
ورغم ملامح
التقارب هذه، فإن التوتر بين الطرفين لم يغب يومًا. ففي مايو 2023، وقعت اشتباكات
مسلحة على الحدود بين طالبان والقوات الإيرانية بسبب نزاع على مياه نهر هلمند، وهو
نهر حيوي لإيران، وسبق أن اتهمت طالبان طهران بقطع الإمدادات الكهربائية لأغراض
سياسية.
كما اتهمت
تقارير أفغانية الحرس الثوري الإيراني بتدريب وتسليح جماعات مسلحة مناهضة لطالبان
في إقليم بنجشير وغرب أفغانستان. ورغم نفي إيران لهذه الاتهامات، فإنها تظل سببًا
مستمرًا لتآكل الثقة بين الطرفين.
ملف اللاجئين
هو الآخر يشكل نقطة خلاف، حيث يتهم مسؤولو طالبان طهران بإساءة معاملة المهاجرين
الأفغان داخل الأراضي الإيرانية، وهي قضية حساسة تتفاعل شعبيًا في الداخل الأفغاني.
وردّت إيران مرارًا بأن طهران تستضيف ملايين اللاجئين منذ عقود، وأن الأعباء
الاقتصادية المتزايدة تفرض قيودًا على قدرتها على الاستيعاب.
لكن على الرغم
من كل ذلك، يظل العامل الأهم هو إدراك الطرفين أن العلاقات بينهما ليست خيارًا
بقدر ما هي اضطرار تفرضه الجغرافيا وتغذيه المصالح المتقاطعة، لا القناعات
العقائدية.
في ضوء
المعطيات الراهنة، يبدو أن العلاقة بين إيران وطالبان محكومة بتوازنات دقيقة أكثر
من كونها تحالفًا استراتيجيًا. فطهران تتعامل مع طالبان بوصفها أمرًا واقعًا يصعب
تجاوزه، لكنها لا تثق بها كحليف عقائدي. أما طالبان، فهي تحاول توظيف العلاقة مع
إيران كورقة ضغط في ملفات الاعتراف الدولي، وكسند لوجستي في مواجهة بعض التحديات
الأمنية والاقتصادية.
ويبدو أن
تصريحات متقي الأخيرة، رغم لغتها الإيجابية، لا تعبّر عن تحوّل جذري بقدر ما هي
تعبير عن تقاطع ظرفي في المصالح. إذ تدرك طالبان أن أي تصعيد كبير في المنطقة بين
إيران وإسرائيل سيترك تداعيات كارثية على الداخل الأفغاني، سواء على مستوى
اللاجئين أو الأمن أو حركة التجارة عبر الحدود.
وبالتالي، فإن
استمرار هذا "التحالف القلق" سيظل مرهونًا بعوامل كثيرة، أهمها التزام
طالبان بضبط الجماعات الجهادية السنية على حدود إيران، وموقف طهران من المطالب
الشيعية في الداخل الأفغاني، ومدى استعداد المجتمع الدولي للتعاطي مع حكومة طالبان
في حال قدمت تنازلات سياسية وحقوقية، وفي المشهد الإقليمي الذي تتسارع فيه
الاصطفافات والمحاور، قد تجد طالبان في إيران شريكًا مؤقتًا، لكنه شريك لا يمكن
الركون إليه على المدى الطويل، تمامًا كما تنظر طهران إلى طالبان بوصفها
"جارًا متقلبًا".