انقسام المؤسسات الليبية.. بين صراع الرئاسات وتصاعد نفوذ الميليشيات والإرهاب

الخميس 26/يونيو/2025 - 10:54 ص
طباعة انقسام المؤسسات الليبية.. أميرة الشريف
 
في ظل انقسام حادّ داخل مؤسسات الدولة الليبية، وتحديداً المجلس الأعلى للدولة، تتجه البلاد إلى مزيد من الفوضى المؤسسية التي لم تَعُد تهدد فقط مسار العملية السياسية، بل باتت تشكّل بيئة خصبة لعودة الميليشيات وتعاظم خطر الإرهاب، في مشهد يعيد التذكير بسنوات الفوضى التي أعقبت سقوط النظام في 2011.
الخلاف الذي يتصاعد بين محمد تكالة وخالد المشري على رئاسة المجلس الأعلى للدولة، وتحوله إلى صراع مؤسسي يتداخل فيه القانوني بالسياسي، يفتح الباب على مصراعيه أمام تفكك داخلي لا يخدم إلا القوى غير الشرعية، التي تستفيد من ضعف الدولة لتوسيع نفوذها، سواء كانت جماعات مسلحة محلية أو تنظيمات إرهابية عابرة للحدود.
ورغم صدور حكم من المحكمة العليا لصالح المشري، فإن تكالة واصل ممارسة مهامه من مقر موازٍ، في دلالة على مدى عمق الانقسام وفقدان الانضباط المؤسسي، وهو ما أفرز كيانات مزدوجة، لا سلطة حقيقية لأي منها، بل وتُعدّ واجهة لمراكز قوى تعمل خلف الكواليس عبر دعم الميليشيات المسلحة.
وفي بلد يشهد تعدداً في مراكز القرار السياسي والأمني، تبرز الميليشيات كقوة فعلية على الأرض، تفرض قراراتها بقوة السلاح، وتستغل الانقسام السياسي لتعزيز سيطرتها على مناطق النفوذ.
 هذه المجموعات المسلحة، التي تختلف تسمياتها بحسب ولائها، أصبحت اليوم جزءاً من المعادلة السياسية، تمارس الابتزاز، وتدير السجون، وتفرض إتاوات، بل وتشارك في صفقات فساد عابرة للمؤسسات.
في طرابلس، على سبيل المثال، لا يُخفى أن تعيين علي محمد اشتيوي رئيساً لجهاز الشرطة القضائية من قِبل عبد الحميد الدبيبة جاء بعد اتهامه بالتورط في حادثة اقتحام مصرف ليبيا المركزي، في إشارة إلى تغلغل النفوذ الميليشياوي حتى داخل المؤسسات الأمنية، فاشتيوي محسوب على قوى مسلحة مقرّبة من الحكومة، ومثل هذه التعيينات تُعدّ مؤشراً خطيراً على تسييس الأجهزة الأمنية لحساب جماعات مسلحة بعينها.
ومع استمرار الانقسام السياسي وانعدام الثقة بين الفرقاء، تعود الجماعات الإرهابية لتستغل الفراغ الأمني، لا سيما في الجنوب الليبي والصحراء المفتوحة، حيث يتداخل الإرهاب مع الجريمة المنظمة وتهريب البشر والسلاح.
 ويجد داعش، الذي لا يزال يحتفظ ببؤر نائمة، في الجنوب المتوتر مناخاً مناسباً لإعادة التموضع، في ظل غياب التنسيق الأمني بين الجهات المتصارعة شرقاً وغرباً.
الإرهاب في ليبيا لم يكن يوماً ظاهرة معزولة، بل تغذّى على فوضى السلاح، وتضارب الولاءات، وتواطؤ بعض القوى المحلية مع التنظيمات المتطرفة، لأغراض تكتيكية، قبل أن تنقلب هذه التنظيمات على الجميع. 
فالحل الأمني في ظل الانقسام المؤسسي سيبقى هشاً، ما لم يرافقه مسار سياسي شامل، يعيد بناء مؤسسات الدولة على قاعدة توافقية ويضع حداً لتغوّل الميليشيات.
في خضمّ هذه الفوضى، جاءت مشاريع مثل "السجل الاجتماعي الموحد" الذي أطلقته حكومة الدبيبة كمحاولة لتنظيم الدعم الاجتماعي على أسس تقنية واقتصادية، لكن من دون وجود دولة موحّدة وأجهزة أمنية خاضعة للسلطة المدنية، تبقى هذه المشاريع مهددة بالفشل أو الاستغلال، حيث يمكن للميليشيات التحكم في آليات التنفيذ، وحرمان فئات دون غيرها، أو ابتزاز المواطنين مقابل تمرير أسمائهم ضمن الفئات المستحقة للدعم.
كما أن الانقسامات داخل الدولة تُفشل أي محاولة للرقابة أو المتابعة، بما يحوّل هذه المبادرات إلى واجهات إعلامية لا أكثر، في حين يتآكل الاقتصاد الليبي بفعل الفساد، وهيمنة السلاح، وغياب الشفافية، وهو ما ينعكس مباشرة على معيشة المواطن الذي يدفع الثمن في كل مرة.
وكشف التوتر الأخير بين ليبيا واليونان، بشأن إعلان أثينا عزمها بدء التنقيب عن الهيدروكربونات في مناطق بحرية متنازع عليها، عن غياب سياسة خارجية موحدة، حيث تفاعلت حكومة الشرق الليبي مع الأزمة بمعزل عن حكومة طرابلس، التي لم تصدر موقفاً واضحاً، وهو ما يعكس حالة الانقسام السيادي، ويمنح أطرافاً خارجية مبرراً للتدخل، بل ولتجاهل السيادة الليبية الكاملة.
ويبقي الاحتجاج الرسمي الذي سلّمته حكومة أسامة حماد إلى القنصل اليوناني في بنغازي، ورغم وجاهته القانونية، خطوة منفردة لا تصنع سياسة خارجية موحدة، ولا تخلق موقفاً ليبياً جامعاً يمكنه الدفاع عن الحقوق السيادية، وهو ما يفتح الباب أمام صفقات منفردة بين أطراف دولية وأقاليم داخل ليبيا، في ظل غياب الدولة المركزية.
ويري مراقبون أن استمرار حالة التنازع على الشرعيات، وتمدد الميليشيات، وتكرار التدخلات الأجنبية، كلها مظاهر تعكس أزمة بنيوية عميقة، لا يمكن معالجتها بتغييرات سطحية أو مبادرات مؤقتة. المطلوب اليوم هو حوار وطني شامل، تحت مظلة دولية واضحة، ينتهي إلى توافق على قاعدة دستورية، تُنهي الازدواج في المؤسسات، وتعيد بناء الدولة الليبية على أساس المواطنة والمؤسسات، بعيداً عن السلاح والولاءات المناطقية.
ويشير مراقبون إلي أن ليبيا مهددة بمزيد من التشظي، وربما بدخول مرحلة جديدة من الاحتراب، تكون فيها الميليشيات والإرهاب هما المنتصران الوحيدان، في غياب أي أفق سياسي حقيقي ينقذ ما تبقى من الدولة.

شارك