عنف ممنهج وتجريم للأنوثة المرأة الإيرانية بين القمع والمقاومة.. صراع مستمر على جسد الحرية

الجمعة 27/يونيو/2025 - 10:30 م
طباعة عنف ممنهج وتجريم فاطمة عبدالغنى
 
منذ تأسيس ما يُعرف بـ"الجمهورية الإسلامية" فى إيران عام ١٩٧٩، تحوّلت المرأة الإيرانية إلى ساحة صراع مفتوحة بين نظامٍ ثيوقراطى يسعى لتثبيت أركانه على حساب الحقوق الإنسانية، وبين حراك نسوى متجذّر لا يزال يتحدى كل أدوات القمع والتهميش، لم تكن قضية الحجاب مجرد إشكال دينى أو ثقافى كما يصوّرها النظام، بل تحوّلت إلى سلاح سياسى أيديولوجى يستخدمه نظام "الولى الفقيه" لتركيع النساء وإخضاعهن للسيطرة السياسية والاجتماعية.. هذا الصراع تجاوز حدود اللباس ليصير معركة على الوجود، والكرامة، والهوية.
قائمة الانتهاكات ضد النساء فى إيران طويلة ومعقدة، تتدرج من التضييق القانونى والاجتماعى إلى القمع الوحشى والعقوبات الغرائبية، ويُعد قانون "حماية العفة والحجاب" (٢٠٢٣) أحد أخطر التشريعات التى منحت الشرطة سلطات شبه مطلقة لمعاقبة النساء على "الفساد الأخلاقي"، ما أدى إلى حالات متكررة من الاعتقال، الطرد من العمل أو الدراسة، والتعذيب الجسدى والنفسي.
سجّلت المنظمات الحقوقية حالات عقوبات غير مسبوقة، مثل إرغام النساء غير الملتزمات بالحجاب الإجبارى على تغسيل جثث الموتى، فى سلوك يحمل بعدًا انتقاميًا عبثيًا يعكس انحدارًا أخلاقيًا غير مسبوق، ومع تطوّر أدوات القمع لجأ النظام إلى استخدام تقنيات "الذكاء الاصطناعي" وكاميرات التعرف على الوجوه لرصد المخالفات، وحرمان النساء من الخدمات الحكومية لمجرد كشف خصلات من الشعر.
شرطة الأخلاق.. العدو المعلن
من أبرز أدوات البطش المباشر بحق النساء ما يُعرف بـ"شرطة الأخلاق"، وهى وحدة أمنية مسؤولة عن ملاحقة النساء فى الشوارع والأماكن العامة، وقد اتُّهمت بارتكاب انتهاكات جسيمة، أبرزها ما أدى إلى وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أمينى فى سبتمبر ٢٠٢٢ بعد اعتقالها بسبب "عدم ارتداء الحجاب بشكل صحيح"، وفجّرت هذه الحادثة موجة احتجاجات ضخمة رفعت شعار "المرأة، الحياة، الحرية"، لتدخل إيران فى مرحلة جديدة من المواجهة مع النساء.
الحجاب كسلاح سلطوي
لم يكن فرض الحجاب مجرد مسألة دينية، بل أداة رمزية فى يد السلطة، تُمثل الطاعة والخضوع للنظام الحاكم، وقد استخدم الخمينى هذه الأداة منذ اللحظة الأولى لتأسيس نظامه، حيث أصدر فى ٧ مارس ١٩٧٩ أولى فتاواه التى فرضت الحجاب فى الدوائر الحكومية، لتكون المرأة أول من استشعر قمع النظام، وخرجت فى تظاهرة واسعة يوم ٨ مارس، تزامنًا مع اليوم العالمى للمرأة تنديدًا بهذا القرار واستمرت الاحتجاجات لمدة ستة أيام، من ٨ مارس إلى ١٤ مارس ١٩٧٩، بمشاركة آلاف النساء.
السياسيون المحافظون أمثال على مطهرى لم يتوقفوا عن المطالبة بتشديد العقوبات على النساء، وهو الذى سأل وزير الداخلية علنًا عام ٢٠١٤ عن سبب "سماح النساء بارتداء السراويل تحت المعاطف"، فى تعبير فجّ عن هوس السلطة بالتحكم بالجسد الأنثوي.
صعود نسوى رغم الدماء
رغم استمرار القمع لم تنكسر إرادة النساء الإيرانيات، فمنذ حركة "فتيات الشوارع" عام ٢٠١٨ إلى احتجاجات ٢٠٢٢، ظهرت المرأة الإيرانية كقائدة فعلية لحركة التحرّر والمقاومة، تسجل الإحصاءات أن ٦٥٪ من طلبة الجامعات فى إيران هنّ من الفتيات، ومعظمهن يحملن رؤى مدنية حداثية تهدد خطاب الثيوقراطية الذكوري.
وبحسب المراقبين للشأن السياسى فإن النظام يخشى من هذا الوعى المتنامى لدى النساء، لأنه يهدد جوهر سلطته الأبوية، ولذلك يلجأ إلى حملات تشويه ممنهجة تتهم المحتجات بأنهن "عميلات للغرب"، ويستخدم ضدهن خطاب "الضبط والعقاب" القمعي.
سجون بلا رحمة
لا توجد فئة نسوية لم تطلها أذرع القمع فى إيران: الفتيات، الأمهات، الحوامل، المسنات، ففى الثمانينات شهدت البلاد موجات إعدامات مروعة ضد النساء، لا سيما المنتميات إلى حركة "مجاهدى خلق"، المعارضة الرئيسية للنظام، تم إعدام فتيات مراهقات بعضهن فى عمر ١٣ عامًا، دون تسجيل أسمائهن، ونُشرت صورهن فى الصحف الرسمية فى سابقة فريدة فى التاريخ الإجرامى لأنظمة الحكم، وتعرضت نساء كثيرات فى السجون لتعذيب مزدوج كونهن معارضات وكونهن نساء.
فى طليعة المقاومة
فى يوم ٢٠ يونيو من كل عام، يحيى الإيرانيون ذكرى انطلاقة المقاومة الكبرى ضد النظام الديني، وهو اليوم الذى يُعرف بيوم الشهداء والسجناء السياسيين، وتأتى المرأة فى صدارة هذا الحدث الوطنى الرمزي، نظرًا لدورها المحورى فى إشعال جذوة التمرد.
فى مظاهرة ٢٠ يونيو ١٩٨١ التى شارك فيها نصف مليون متظاهر فى طهران، كانت النساء فى الطليعة ودفعن الثمن من دمائهن، كما نظّمت النساء والأمهات مظاهرة حاشدة يوم ٢٧ أبريل ١٩٨١، شاركت فيها ٢٠٠ ألف امرأة للاحتجاج على تعذيب واعتقال أبنائهن، وقد أرعبت هذه الموجة الملالي، وكانت بداية لصياغة حركة نسوية مقاومة متكاملة.
ومنذ ذلك الحين، ظلت النساء الإيرانيات فى قلب انتفاضات ١٩٩٩، ٢٠٠٩، ٢٠١٨، ٢٠١٩، و٢٠٢٢، متحدّيات الرصاص والجلاد، متمسكات بشعار: لا استسلام، بل حرية حتى النصر.
أخوات الباسيج
وفى الوقت الذى كانت فيه نساء المقاومة يدفعن أثمانًا باهظة من أجل الحرية، ظهرت ميليشيا نسوية جديدة على النقيض تمامًا، تدعى "أخوات الباسيج"، بقيادة مرضية حداد تشى دباغ، وتابعة للحرس الثورى الإيرانى تأسس هذا الجناح خلال الحرب العراقية الإيرانية، حين أنشأ النظام معسكرًا لتدريب النساء على القتال والخدمة العسكرية والإعلامية والدينية، وتوسعت صفوفه حتى بلغ عدد المنتسبات إليه عام ١٩٩٤ نحو ١٤٧ ألف امرأة.
كان الهدف المعلن هو الدعم الخلفى للجبهة، لكن سرعان ما تحوّل هذا الجهاز إلى أداة قمع داخلى ضد النساء، وتحديدًا المعارضات للحجاب القسرى والنظام الديني، وفى سنوات ما بعد الحرب مع العراق تم تطوير وحدات طوارئ خاصة من "أخوات الباسيج" لاعتقال وتعذيب المعارضات، وخاصة فى فترات الاحتجاج، كما حصل بعد الانتخابات الرئاسية فى ٢٠٠٩، حين شاركت هذه الميليشيات فى مطاردة واعتقال النساء المشاركات فى الحركة الخضراء.
مرضية دباغ – التى عرفها الإيرانيون بـ"المرأة التى رافقت الإمام فى منفاه" – كانت أكثر من مجرد ضابطة أو قيادية، فقد جمعت بين الرمز الثورى واليد الحديدية للنظام، من تدريب النساء على حمل السلاح فى مرتفعات كردستان، إلى قيادتها التعبئة النسائية على مستوى البلاد، ثم دخولها البرلمان، كانت دباغ تمثل نموذجًا نسويًا مشوّهًا، وظّف النضال النسائى فى خدمة استبداد رجعى يستخدم النساء لقمع بنات جنسهن.
ويرى المراقبون أنّ النظام الإيرانى رغم توغله فى استخدام أدوات القمع، يواجه أزمة وجودية فى ظل اتساع وعى النساء، فالنظام الذى بنى سلطته على تهميش المرأة، يواجه اليوم جيلاً من المثقفات، الصحفيات، الطالبات، والناشطات اللواتى لم يعدن يخفن من السجن أو الموت، بل يرين أن ثمن الحرية يستحق الدفع.
ويحذر خبراء فى الشأن الإيرانى من أن استمرار القمع، لن يؤدى إلا إلى تعميق شرخ الشرعية، وسيدفع مزيدًا من النساء نحو الانخراط فى الحراك المعارض، لا سيما أن أدوات القمع لم تعد تخيف النساء كما كانت فى الماضي، بل تثير لديهن دافعًا أكبر للمواجهة والانعتاق.
لم تعد المرأة الإيرانية ضحية صامتة تحت عباءة الملالي، بل أصبحت رمزًا وراية للمقاومة تشعلها فى كل انتفاضة، وتدفع عنها كل محاولات التبخيس والإذلال، لقد انتصرت نساء إيران على الخوف وعلى محاكم التفتيش الحديثة وعلى السجون "الإسلامية"
واليوم، لا تبدو المعركة سهلة، لكنها أيضًا لم تعد كما كانت: جدار السلطة يتآكل من الداخل، بينما تواصل النساء طرق أبواب الحرية، مهما كان الثمن.
 



 

شارك