بعد 12 عامًا... الإخوان ترفض الاعتراف بسقوطها الشعبي والسياسي

الخميس 03/يوليو/2025 - 01:17 ص
طباعة بعد 12 عامًا... الإخوان حسام الحداد
 
أصدرت جماعة "الإخوان المسلمين" بيانًا جديدًا في الذكرى الثانية عشرة لعزل محمد مرسي، في محاولة مكشوفة لإعادة إحياء سردية المظلومية وتجميل مشهد بات باهتًا ومستهلكًا، فقد بريقه منذ أن لفظه الشارع المصري في الثلاثين من يونيو 2013، حين خرج ملايين المصريين مطالبين بإنهاء حكم الجماعة وإنقاذ الدولة من مشروع اختطافها، وهو ما استجابت له المؤسسة العسكرية تنفيذًا لإرادة شعبية لا جدال فيها.
لكن البيان، الذي صدر في 2 يوليو 2025، يحمل خطابًا مأزومًا، يراوح مكانه بين التحريض المقنّع واستدرار العطف، دون أي مراجعة حقيقية أو جرأة على مواجهة الواقع. ومن خلال تحليل هذا الخطاب، يمكن رصد عدد من النقاط الجوهرية التي تكشف عن عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي تعيشها الجماعة.

السياق ومحاولة استدعاء شرعية مفقودة
تبدأ جماعة الإخوان المسلمين بيانها الأخير بإحياء ذكرى ما تصفه بـ"الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب"، في إشارة إلى المعزول محمد مرسي، محاولة بذلك إضفاء شرعية ميتة على تجربة حكم لفظها الشارع المصري، ليس فقط بسبب الأداء الفاشل، بل لأن الجماعة منذ اللحظة الأولى سعت إلى اختزال الدولة في مشروعها الأيديولوجي، دون اعتبار لموازين القوى أو تنوع البنية الاجتماعية والسياسية المصرية. هذا الاستدعاء المستمر لما تسميه "الشرعية" لا يعدو كونه تمسّكًا بخطاب تجاوزه الواقع، وتحللت مصداقيته أمام ملايين المصريين الذين ثاروا على هذا الحكم في 30 يونيو 2013.
الحقيقة التي تغفلها الجماعة عمدًا هي أن محمد مرسي لم يكن يمثل مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل كان مجرّد واجهة لتنظيم يسعى للهيمنة الشاملة على مفاصل الدولة، وهو ما ظهر بوضوح في تعيينات قيادية داخل مؤسسات حيوية، وفي محاولات فرض دستور إقصائي تم تمريره وسط انقسام مجتمعي عميق. الشرعية التي تتحدث عنها الجماعة سقطت ليس فقط بحكم الواقع السياسي، بل سقطت أخلاقيًا حين أدار الرئيس المعزول ظهره للشعب، وفضّل الولاء للتنظيم على التعايش مع شركاء الثورة.
ورغم ادعائها الدفاع عن الديمقراطية، كانت جماعة الإخوان أول من قوّض قواعد اللعبة الديمقراطية، حين تبنّت خطابًا فوقيًا، وأقصت خصومها، واستعدت القضاء والإعلام، واحتكرت مفاصل القرار. لم تكن الجماعة ترى في الديمقراطية إلا وسيلة للوصول، لا غاية في ذاتها. فحين شعرت بأن الشارع بدأ يتململ من وجودها، تعاملت مع الانتقادات باعتبارها خيانة، ومع المعارضة كعدو داخلي، ومع الدولة كغنيمة يجب السيطرة عليها.
أما الحديث عن "انقلاب" فهو تزوير فجّ للوقائع، وتجاهل متعمد لإرادة شعبية خرجت بالملايين في كل ميادين مصر، مطالبة بعزل نظام أثبت فشله وتهديده لهوية الدولة. لم يكن ما جرى في 3 يوليو 2013 سوى استجابة لمطلب شعبي مشروع، أنقذ البلاد من منزلق خطير، وكانت فيه الجماعة ماضية في طريق لا يُفضي إلا إلى الفوضى أو الاستبداد الثيوقراطي. استخدام كلمة "انقلاب" في هذا السياق هو محض دعاية، تُخفي وراءها الرغبة في التملص من مسؤولية تاريخية كبرى لا تزال الجماعة ترفض مواجهتها حتى اليوم.

الخطاب العاطفي والإيهام بالبطولة
يُبنى بيان جماعة الإخوان المسلمين في هذه الذكرى على خطاب عاطفي محمّل بالتوصيفات الدرامية، التي تستحضر مشهدًا قاتمًا يراد به ترسيخ صورة مصر كدولة "منهارة"، وشعب "مضطهد"، وسلطة "غاشمة". يستخدم البيان تعبيرات من قبيل "وطن يئن من المظالم"، و"فساد ينخر في جسد الدولة"، و"قتل ممنهج وتصفية بطيئة"، في محاولة مكشوفة لخلق صورة كربلائية تضع الجماعة في موضع الضحية المطلقة، مقابل سلطة مطلقة في الشر. هذه الطريقة في السرد لا تعكس خطابًا سياسيًا ناضجًا بقدر ما هي إعادة إنتاج لأسلوب تعبوي يُراد منه استدرار العاطفة وتعطيل التفكير النقدي.
تكمن الإشكالية هنا في أن الجماعة ما زالت تصرّ على مخاطبة جمهورها بلغة الشكوى والبكائيات، رغم مرور أكثر من عقد على سقوطها المدوي. لم تقدّم الجماعة أي تحليل عقلاني لما جرى، ولم تبادر إلى تقييم موضوعي لأسباب فشلها في الحكم، بل لا تزال أسيرة سردية "الضحية" التي تحاول تسويقها لدى الداخل والخارج، في وقت باتت فيه قطاعات واسعة من المصريين ترى في هذه الجماعة سببًا رئيسيًا في دخول البلاد مرحلة اضطراب سياسي واقتصادي كانت في غنى عنه.
كما يتجلى الخطاب العاطفي في تعامل البيان مع سيرة محمد مرسي، حيث تصفه الجماعة بـ"الشهيد"، وهو توصيف سياسي منحاز، لا يستند إلى أي توصيف قانوني أو تقويم موضوعي. فالرجل كان رئيسًا معزولًا بإرادة شعبية واسعة، وأُدين بموجب إجراءات قضائية جرت وفق قوانين الدولة المصرية، ولم يكن ضحية صراع مسلح أو قتيل مواجهة. استخدام وصف "الشهيد" هنا لا يهدف سوى إلى إضفاء مسحة قدسية على شخص المعزول، لإخفاء فشله في إدارة الدولة، ومحاولة إعادة تلميعه أمام جمهور لم يعد يقتنع به.
هذا النوع من التقديس القيادي ليس جديدًا على أدبيات الإخوان؛ فالجماعة اعتادت عبر تاريخها تحويل قادتها إلى رموز شبه معصومة، تُستحضر سيرتهم لا باعتبارهم رجال سياسة خاضوا تجارب يمكن نقدها، بل كـ"شهداء" و"أبطال" يجب الإذعان لتضحياتهم. مثل هذا الخطاب لا يخدم أي مشروع وطني جاد، بل يعمّق الانفصال عن الواقع، ويكرّس ذهنية التنظيم المغلق الذي لا يرى في النقد فرصة للتصحيح، بل خيانة لثوابته.

الرسائل المسكوت عنها في خطاب الجماعة
رغم أن البيان الأخير لجماعة الإخوان المسلمين يبدو ظاهريًا كدعوة وطنية لإنقاذ مصر واستعادة مكانتها، إلا أن القراءة التحليلية تكشف عن كمّ كبير من القضايا المسكوت عنها والمتعمَّد إغفالها. فالبيان، في جوهره، ليس مجرد استعادة لخطاب مظلومية تقليدي، بل هو محاولة للهروب من المساءلة التاريخية، عبر تجاهل أخطاء فادحة ساهمت في سقوط الجماعة المدوي. ومن أبرز ما تم تغييبُه عن عمد: الجرائم السياسية خلال فترة حكمها، وتورّط بعض قياداتها وقواعدها في العنف والإرهاب، إلى جانب تجاهل السقوط الشعبي الكامل لمشروعها.

1. تجاهل الجرائم والخطايا السياسية
يتغافل البيان تمامًا عن جملة من الممارسات التي ساهمت في تسريع انهيار حكم الجماعة، وفي مقدمها محاولات فرض دستور إقصائي صاغته جماعة واحدة دون توافق وطني، رغم أنه كان يفترض أن يكون دستورًا توافقيًا بعد ثورة شعبية كبرى. كما يتجاهل البيان حصار الجماعة للمحكمة الدستورية العليا، في سابقة خطيرة كشفت بجلاء نواياها في إخضاع القضاء لمشيئة التنظيم. فضلًا عن تسخير مجلس الشورى في تمرير قوانين مشبوهة تصبّ في مصلحة التمكين لا مصلحة الدولة، وهو ما أثار سخطًا شعبيًا عارمًا وأشعل الاحتجاجات ضدهم.
هذا التعتيم المتعمد على الأداء السياسي الكارثي يرافقه صمت تام عن سلوك الجماعة تجاه مؤسسات الدولة السيادية، حيث عملت على تسييس الجهاز الإداري، والتدخل في عمل الأجهزة الرقابية، ومحاولة إخضاع الإعلام الوطني لصوت واحد. بل إن الجماعة غذّت، في تلك الفترة، خطابًا طائفيًا خطيرًا، ظهر في استعداء قطاعات من المواطنين المصريين، وخاصة الأقباط، وتحويل الخلاف السياسي إلى صراع هُوياتي خطير، كانت نتائجه وخيمة على النسيج المجتمعي.

2. تجاهل دعم الإرهاب وخطاب التحريض
من أخطر ما سُكت عنه في البيان هو موقف الجماعة من موجة العنف والإرهاب التي اجتاحت مصر بعد عزل المعزول محمد مرسي. إذ لم يتضمن البيان أي إدانة صريحة أو مراجعة نقدية حقيقية للعنف الذي ضرب سيناء، واستهدف جنود الجيش والشرطة، وروع المدنيين. كذلك، لم تُشر الجماعة إلى العمليات الإرهابية التي استهدفت منشآت الدولة عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهي عمليات تورطت فيها شخصيات محسوبة على الجماعة أو متعاطفة معها، إن لم يكن باليد فبالتحريض والدعم الإعلامي والسياسي.
أما الأخطر، فهو صمت البيان عن خطابات قادة الإخوان في الخارج، الذين لم يكتفوا بالتحريض المباشر على العنف، بل استخدموا منابرهم الإعلامية ومنصات مواقع التواصل لنشر خطاب الكراهية، والتحريض على الدولة المصرية، والتشكيك في مؤسساتها. لم يكن ذلك مجرد "غضب سياسي"، بل كان مشروعًا متكاملًا لتقويض الدولة عبر الفوضى والدم، شارك فيه من تورط بالقول، ومن تواطأ بالصمت. تجاهل هذه الوقائع في البيان لا يعكس سوى استمرار الجماعة في إنكار دورها في إذكاء دوامة العنف، ورفضها تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن نتائج هذا التحريض.

3. تغييب الاعتراف بسقوط مشروعها
ورغم مرور أكثر من عقد على عزل الجماعة عن الحكم، لا يزال البيان يوحي بأن الجماعة تمتلك "مشروعًا" يمكن أن يُعاد طرحه يومًا ما، في تجاهل تام لحقيقة أن الشارع المصري لفظ هذا المشروع بكل وضوح. البيان لا يتطرق إلى أن رفض المصريين لحكم الإخوان لم يكن فقط بسبب أداء السلطة، بل لرفضهم لطبيعة المشروع نفسه: مشروع أيديولوجي إقصائي، يتعامل مع الدولة على أنها أداة بيد التنظيم، ويختزل مفاهيم الوطن والشرعية والدستور في مرجعية الجماعة وحدها.
وفي تجاهله لهذا السقوط، يواصل البيان التلويح بأوهام العودة، وكأن شيئًا لم يتغير. فالجماعة تتحدث كما لو كانت لا تزال تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، رغم أن كل المؤشرات الشعبية والسياسية والإعلامية تؤكد تآكل نفوذها، وانفضاض قطاعات كبيرة من المصريين عنها، حتى من بين من ناصرها في السابق. تجاهل هذه الحقيقة يثبت أن الجماعة لا تزال تعيش في عزلة كاملة عن الواقع، وتصرّ على إعادة تدوير خطاب مفصول عن الزمن، يتردد صداه فقط في قنوات الخارج أو بين جدران التنظيم المغلقة، لا في قلوب الناس.


لغة البيان – تغليف الأيديولوجيا بشعارات وطنية
يعتمد بيان جماعة الإخوان على خطاب لغوي مخاتل، يتعمّد تغليف مشروعها الأيديولوجي المتصلب بشعارات فضفاضة من قبيل "الحرية"، و"العدالة"، و"الوطنية"، وهي شعارات براقة تستخدم كقشرة خارجية لإخفاء نوايا حركية لا علاقة لها بجوهر الدولة الوطنية الحديثة. فمن يقرأ البيان بعين تحليلية يلحظ أن هذه المفردات لا تُستخدم بدلالاتها المدنية أو الدستورية، بل كوسيلة لإعادة تسويق مشروع الجماعة الذي لفظه المصريون، ولإضفاء طابع نضالي زائف على مسار انتهى سياسيًا وأخلاقيًا منذ أن سقط حكم المعزول مرسي.
في قلب البيان، تأتي دعوة الجماعة إلى "مشروع وطني جامع"، لكن دون أي تحديد لمضمونه، أو لمن سيكون شريكًا فيه، أو كيف سيتم تجاوز أخطاء الماضي. هذه الدعوة، من حيث الجوهر، لا تُعبّر عن نية صادقة لبناء توافق وطني، بل عن رغبة في إعادة تموضع الجماعة ضمن المشهد السياسي تحت غطاء "الوحدة"، دون تقديم أي مراجعات فكرية أو اعتذارات حقيقية للمجتمع الذي انقلب على مشروعها. إنها محاولة لإعادة تلميع الذات لا أكثر، عبر خطاب يوهم الآخرين بأن الجماعة تجاوزت مرحلة الهيمنة، بينما الحقيقة تشير إلى أنها لا تزال تتعامل مع مفهوم "الوطن" بوصفه وظيفة في خدمة التنظيم.
والمفارقة أن الجماعة، في هذا البيان، تعيد إنتاج نفس نمطها الخطابي الذي قادها إلى العزلة: خطاب مموّه، شعارات جوفاء، وتجاهل تام لمصطلحات مثل "الدولة"، و"المواطنة"، و"التعددية"، لصالح ألفاظ أكثر دينية وأيديولوجية تنتمي إلى معجم التنظيم لا إلى القاموس الوطني. وهكذا يظل خطاب الإخوان يدور في فلك أيديولوجي مغلق، يعجز عن الانفتاح على المشتركات الوطنية الحقيقية، ويكتفي بإعادة تدوير مفاهيم منتهية الصلاحية، في محاولة بائسة لإحياء مشروع لفظه الواقع وتجاوزته الإرادة الشعبية.

الدلالات والاستنتاجات – بيان بلا قيادة... وبلا مراجعة
لا يحمل بيان جماعة الإخوان الصادر في الذكرى الثانية عشرة لعزل محمد مرسي أي جديد يُذكر، بل يمكن اعتباره امتدادًا لنهج مأزوم لم يتغيّر منذ لحظة السقوط السياسي للتنظيم. إنه بيان يعبّر عن تيه استراتيجي، وانفصال عن الواقع، واستمرار في إنكار الحقائق التي فرضتها الإرادة الشعبية. فبدلًا من أن يكون البيان مناسبة للمصارحة أو المراجعة، جاء ليؤكد أن الجماعة لا تزال تدور في حلقة مغلقة من الخطاب الشعبوي والشعارات الجوفاء. ومن خلال تحليل ما بين السطور، يمكن الوقوف على ثلاث دلالات أساسية تُلخّص مأزق هذا الخطاب:

1. أزمة قيادة... وأزمة سردية
يُلاحظ أن البيان لم يذكر اسم أي قيادة حالية داخل الجماعة، ولم يُوضّح من الذي يتحدث باسمها فعليًا أو يوجّه رؤيتها في المرحلة الراهنة. هذا الغياب لا يُمكن اعتباره مجرد مسألة تنظيمية، بل هو انعكاس لأزمة عميقة في بُنية القيادة داخل التنظيم، وتفكك في مراكز اتخاذ القرار، بعد الانقسامات المتعددة التي ضربت الجماعة منذ سنوات. وهو ما يفضح حجم التخبط الداخلي، ويجعل الخطاب السياسي بلا مرجعية واضحة، بل أقرب إلى البيانات الإنشائية التي تصدرها كيانات مهترئة فقدت السيطرة على أطرافها.
أما على مستوى السردية، فالبيان يعكس فشل الجماعة في إنتاج رواية جديدة لموقعها في المجتمع والدولة. فلا هي قدّمت مراجعة لتجربتها، ولا هي قبلت الواقع الجديد، ولا هي أعلنت انكفاءها. إنها تعيد طرح نفس السردية البالية حول "الشرعية المفقودة" و"المظلومية"، رغم مرور 12 عامًا على خروج الشعب ضدها. هذا الجمود السردي لا يعبّر إلا عن جماعة توقفت عن التفكير النقدي، وتعيش على أطلال تجربة أُسقطت شعبيًا ولم يعد لها رصيد على الأرض.

2. استمرار عقلية الإقصاء رغم خطاب "الوحدة"
يتحدث البيان عن ضرورة "توحيد الصف الوطني" ويدعو إلى "مشروع وطني جامع"، في ما يبدو ظاهريًا دعوة إلى لمّ الشمل، لكنه في الجوهر ليس إلا محاولة لفرض أجندة الجماعة ضمن غلاف وطني مصطنع. فالحقيقة أن الجماعة لم تُبدِ أي إقرار بشرعية ما حدث في 30 يونيو، ولم تعترف بالإرادة الشعبية التي خرجت لإنهاء حكمها. بل ما زالت تروّج لفكرة أنها ضحية لمؤامرة كونية، وتستبطن في خطابها أنها "الفرقة الناجية" التي يجب أن تعود لتقود الأمة.
هذه الرؤية تعني عمليًا أنها لا تزال ترفض التعددية السياسية والاجتماعية، وترفض القبول بمنطق الدولة الحديثة التي تقوم على التوازن والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة. إنها لا تزال تؤمن أن الوطن لا يكتمل إلا تحت عباءتها، وأن من يعارضها خائن أو متآمر. وهنا تكمن خطورة الخطاب؛ إذ أنه يُخفي عقلية إقصائية خلف كلمات منمّقة، ويستمر في التعامل مع القوى الأخرى كأدوات أو حواشي، لا شركاء في الوطن.

3. استدعاء البعد الديني للهروب من المراجعة
يختتم البيان بآية قرآنية: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، في تكرار واضح لمحاولة الهروب من مواجهة الفشل السياسي عبر الاستنجاد بالقدر الغيبي. هذا النمط من الخطاب الديني التبريري يعكس بوضوح إصرار الجماعة على استخدام الدين كأداة لتغليف الإخفاق، وإلباس الأخطاء لبوس "الابتلاء"، واعتبار ما حدث مجرد امتحان إلهي لا مسؤولية بشرية، رغم أن ما جرى هو نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية وتنظيمية خاطئة.
اللجوء إلى مثل هذا التأويل الديني في سياق سياسي محض، لا يُفسّر فقط كعجز عن تقديم قراءة عقلانية لما جرى، بل يُعَدّ استمرارًا لمنهجية طالما استخدمتها الجماعة لتضليل قواعدها وتغذية خطاب الاستعلاء الروحي والسياسي. وبدل أن يكون الدين حافزًا للمراجعة والتواضع أمام الحقائق، يتم توظيفه لتبرير الفشل وتحويله إلى "قدر مقدّس"، في أكبر عملية هروب من المحاسبة التاريخية والسياسية.

خاتمة:
بعد 12 عامًا من عزل محمد مرسي، لا تزال جماعة الإخوان تُنتج خطاباتها من نفس القالب الذي سقط فيه مشروعها: مظلومية بلا مراجعة، عاطفة بلا عقل، وقداسة مزعومة لقادة فشلوا في فهم الدولة والمجتمع. البيان الأخير ليس دعوة لإنقاذ مصر، بل محاولة بائسة لإنقاذ جماعة ما زالت ترفض مواجهة الحقائق، وتصر على الهروب من التاريخ.
وإذا كانت مصر قد دفعت ثمنًا باهظًا في معركتها مع هذا المشروع، فإن الحفاظ على الدولة الوطنية الحديثة يستدعي إغلاق هذا الفصل نهائيًا، والمضي في بناء وطن لا مكان فيه لمن يحتكر الدين أو يختطف الشرعية.

نص البيان

نص البيان
بعد اثنتي عشرة سنة من الانقلاب: دعوة لإنقاذ مصر واستعادة كرامتها
اثنتا عشرة سنة مرت بعد الانقلاب على إرادة شعب وضمير أمة، وعلى أول تجربة ديمقراطية شهدتها مصر بانتخاب أول رئيس مدني، وهو الرئيس الشهيد محمد مرسي -رحمه الله-، لتمر هذه السنين ثقيلة على وطن يئنُّ من المظالم ويضجُّ بالفساد الذي بات ينخر في جسد مصر الذي أنهكه الطغيان وجار عليه الاستبداد، وكلما مرت سنة جديدة تفاقمت معها الأزمات وتعاظمت خلالها الكوارث؛ لتشهد الدولة المصرية تراجعًا غير مسبوق في كل المجالات، واحتقانًا على كافة الأصعدة.
لقد أوْدت هذه السنوات العجاف برصيد مصر الهائل من الريادة، فتراجع دورها الإقليمي والدولي بشكل لافت، وتعاظمت الكوارث من حولها، لنرى كيف تكررت الاعتداءات الصهيونية على معبر رفح دون رد فاعل، وعجزت الدولة عن الوصول إلى اتفاق يضمن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل أمام السد الإثيوبي، وكيف تنازلت سلطة الانقلاب عن جزيرتي تيران وصنافير، وتوسعت في التفريط بمقدرات الدولة؛ فتم بيعها بشروط تهدد أمن الوطن وتصادر حق الأجيال القادمة في ثروات بلادهم، وكل ذلك كان نتيجة حتمية لغياب الشرعية وفقدان الإرادة الوطنية الحرة.
لقد جاء هذا الانقلاب ليُجهز على آمال شعب تنفس الصعداء بعد ثورة يناير؛ التي شكّلت أملًا للشباب ورسمت مستقبلًا راود الجميع، تتحقق فيه حرية المواطن وعدالة المجتمع، لكن هذه الآمال تبدّدت على وقع انقلاب عسكري غاشم، قيَّد حرية المواطنين، وأغلق المجال العام، وغيَّب العدالة، وسيَّس القضاء، وأحْكم القبضة الأمنية على الشعب كله تحت وطأة التهديد بمصير عشرات الآلاف من المصريين الشرفاء المغيَّبين في السجون والمعتقلات، يتعرضون للقتل الممنهج والتصفية البطيئة.
إن جماعة "الإخوان المسلمون" تؤكد مجددًا في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به الدولة المصرية، محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، أن استعادة مكانة مصر الحقيقية تبدأ بإزاحة هذا الانقلاب الذي فرَّط في سيادة الدولة ورَهَن إرادتها للمُقرضين والمانحين، وقيّد حرية شعبها، وهو ما يستوجب من كل القوى والتيارات الوطنية والشريفة في مصر أن تتوحَّد حول مشروع وطني جامع يحقق هذه الأهداف وينقذ مصر من مصير مجهول.
وتجدِّد الجماعة حرصها على كافة مؤسسات الدولة المصرية، التي تعد ملكًا للشعب، وليست ملكًا لأي سلطة أو نظام، وتشدد على أن الحفاظ على هذه المؤسسات وتقويتها وتصحيح مسارها هو واجب وطني يقع على عاتق كل مصري حر.
إننا نتطلع لذلك اليوم؛ الذي يستعيد فيه الشعبُ الحريةَ، والمجتمعُ العدالةَ، والدولةُ كاملَ السيادة والاستقلالية، وهو يوم آتٍ (بحول الله تعالى) ما إْن وضحت الرؤية أمام الجميع، وتوحدت الجهود وتكاتفت؛ لتحقيق أهدافها، والحفاظ على مقدرات الشعب، وحينها سنكونُ قريبين من تحرير الوطن من ربقة الاستبداد والفساد والانطلاق نحو مستقبل تستحقه مصر الكبيرة.
﴿وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
أحمد عاصم
المتحدث الإعلامي باسم جماعة #الإخوان_المسلمين
الأربعاء ٧ محرّم ١٤٤٧ هـ - 2 يوليو 2025 م

شارك