محاكمة النهضة: تونس تفكك آخر معاقل الإخوان في شمال إفريقيا
الأربعاء 09/يوليو/2025 - 03:49 م
طباعة

لم تكن الأحكام الأخيرة التي صدرت بحق زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وعدد من رموز الصف الأول في الحزب إلا حلقة جديدة في سلسلة المواجهات المفتوحة بين الدولة التونسية وجماعة حاولت منذ عام 2011 تطويع مؤسسات الدولة لصالح مشروعها الأيديولوجي المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين. هذه الأحكام، التي تراوحت بين 14 و35 عامًا بتهم "التآمر على أمن الدولة" و"تكوين تنظيم مرتبط بالجرائم الإرهابية"، تكشف بوضوح حجم المخاطر التي شكّلتها النهضة – وما تزال – على الأمن القومي التونسي، وعلى السلم الإقليمي بشكل أوسع.
وقد أصدرت محكمة تونسية، يوم الثلاثاء 8 يوليو، أحكامًا بالسجن لمدد تتراوح بين 12 و35 عامًا على عدد من الشخصيات السياسية، من بينهم زعيم حزب النهضة الإسلامي المحافظ المسجون، راشد الغنوشي، بتهمة "التآمر على أمن الدولة"، وفقًا لما أوردته وسائل إعلام محلية. وحكم على الغنوشي بالسجن لمدة 14 عامًا، وفقًا لبيان صادر عن حزب النهضة.
وذكر بيان صادر عن حركة النهضة أن الغنوشي قاطع جلسات المحاكمة، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة 14 عاما، وذلك في إطار ما يعرف إعلاميا بـ"ملف التآمر على أمن الدولة 2"
وقد وجهت تهم لنحو عشرين شخصية في هذه القضية، من بينهم نادية عكاشة، المديرة السابقة لديوان الرئيس قيس سعيّد، ورفيق عبد السلام، صهر الغنوشي ووزير الخارجية السابق.
وأفاد الإعلام المحلي بأن كلا من عكاشة وعبد السلام صدرت بحقهم أحكام غيابية بالسجن 35 عاما، بينما يقيم كلاهما خارج تونس. وشملت الاتهامات الموجهة إليهما "التآمر على أمن الدولة الداخلي" و"تكوين تنظيم مرتبط بالجرائم الإرهابية"
أما الغنوشي، فقد واجه إلى جانب قياديين آخرين من حركة النهضة وضابط متقاعد يدعى كمال بن بدوي، اتهامات بإنشاء "جهاز أمني سري" يخدم مصالح الحركة التي فازت بأول انتخابات بعد ثورة 2011، حسب ما أكدته هيئة الدفاع.
النهضة والإخوان… امتداد تنظيمي لا لبس فيه
رغم محاولات حركة النهضة تقديم نفسها كحزب "إسلامي ديمقراطي" ينسجم مع السياق التونسي، فإن سجلها الطويل، وأدبياتها، وتاريخ زعيمها راشد الغنوشي، تشير بوضوح إلى ارتباط عضوي بجماعة الإخوان المسلمين. فالغنوشي نفسه من أبرز منظّري الجماعة في شمال إفريقيا، وكان من الداعين لتوسيع نفوذ التنظيم الدولي من بوابة ما يسمى بـ"الربيع العربي".
وبينما سعت النهضة إلى الظهور بمظهر المعتدل، فإن الوثائق التي خرجت لاحقًا، وكذلك شهادات منشقين عنها، أظهرت أنها كانت تعمل على بناء جهاز أمني موازٍ داخل الدولة، وتسعى لاختراق القضاء والإعلام والمؤسسات الأمنية، بما يشبه تكتيكات الإخوان في مصر وتركيا وغيرها. وهذا التمكين الناعم كان يهدد سيادة الدولة ويقوّض الديمقراطية الوليدة في تونس.
التغلغل في الدولة وبناء الجهاز الموازي
تُظهر الاتهامات الموجهة للغنوشي وقيادات النهضة خطورة ما كان يُحاك داخل أروقة الحزب. فتأسيس "جهاز أمني سري" يخدم مصالح الحزب ويتجاوز مؤسسات الدولة يعيد للأذهان نموذج "التنظيم الخاص" الذي أسسه حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، في أربعينيات القرن الماضي، والذي كان مسؤولًا عن تنفيذ عمليات عنف واغتيالات.
ما كشفه القضاء التونسي – سواء من خلال ملفات التآمر على أمن الدولة أو في المحاكمات السابقة التي طالت قيادات نهضوية – يشير إلى أن النهضة لم تكن مجرد حزب سياسي، بل كانت تعمل بمنطق التنظيم الحركي السري، الذي ينفذ أجندة تتجاوز حدود تونس، ويتقاطع مع مشاريع إقليمية لإعادة تشكيل المنطقة على أسس أيديولوجية.
تهديد الأمن والسلم الإقليمي
خطر حركة النهضة لا يقتصر على الداخل التونسي. فارتباطها الوثيق بجماعة الإخوان المسلمين، وعلاقاتها المشبوهة بقطر وتركيا في مراحل عدة، جعلا منها حلقة في مشروع أوسع يهدد استقرار دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل. ومن خلال دعمها لمجموعات في ليبيا، أو محاولات التأثير في الجزائر، وحتى محاولة تغلغلها في مؤسسات إقليمية تحت ستار "العمل السياسي"، كانت النهضة تعمل على تصدير نموذجها الخارج عن الدولة الوطنية الحديثة.
ولا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته الحركة في خلق حالة من الاستقطاب الحاد داخل تونس، وهو استقطاب غذّته بخطاب ديني تعبوي، ساهم في تحفيز بيئات التطرف، وفتح المجال أمام جماعات إرهابية للنشاط والتمدد، خاصة في فترة ما بعد 2011، حيث استغلّت النهضة موقعها في الحكم لتسهيل التحاق مئات من الشباب التونسيين بجبهات القتال في سوريا وليبيا.
سقوط المشروع وضرورات المرحلة
مع استعادة الدولة التونسية لزمام المبادرة بعد 2021، ومحاولة الرئيس قيس سعيد تفكيك شبكات النفوذ التي بَنَتها النهضة، بدأ المشروع في التهاوي. إلا أن هذا لا يعني زوال الخطر بالكامل. فالأفكار التي تغلغلت في مؤسسات الدولة، والأذرع التي ما زالت ناشطة في الإعلام والمجتمع المدني، تتطلب مواجهتها بثلاثة مستويات:
القانوني والقضائي: باستمرار التحقيقات والمحاكمات وفق الإجراءات العادلة، لكن دون تهاون في مواجهة أي اختراق للأمن القومي.
الثقافي والفكري: من خلال تفكيك الخطاب الأيديولوجي الإخواني، وتعزيز مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية.
الإقليمي والدولي: بضرورة التعاون الأمني والاستخباراتي بين دول الجوار والمنظمات الدولية، لرصد ومواجهة أي محاولات للعودة عبر واجهات بديلة.
من التجربة إلى العبرة
تجربة حركة النهضة في تونس تقدم درسًا بالغ الأهمية لمنطقتنا: إن محاولات تطويع الديمقراطية لخدمة مشاريع أيديولوجية لا تؤمن بها في جوهرها، هي وصفة للفوضى والانهيار. وإن التهاون مع التنظيمات المتصلة بالإخوان – تحت عناوين "العمل السياسي" – يؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد الكيان الوطني برمّته. إن ما يجري في تونس اليوم ليس فقط محاكمة لأشخاص، بل هو لحظة مفصلية لمحاكمة مشروع كامل ثبت أنه يهدد الدولة والمجتمع.