اشتباكات السويداء بين الدروز والبدو: نزيف الهويات وتغذية الإرهاب المحلي
الإثنين 14/يوليو/2025 - 02:09 م
طباعة

تشكل الاشتباكات الدامية الأخيرة في محافظة السويداء جنوب غرب سوريا، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 37 شخصاً وإصابة العشرات، حلقة جديدة من حلقات النزاع الأهلي المزمن في البلاد، الذي يعكس هشاشة الدولة وانهيار شبكات الوساطة التقليدية بين المكونات المجتمعية، بل ويدفع نحو احتمالات كارثية على صعيد الإرهاب المحلي والإقليمي. لا يمكن النظر إلى ما حدث في حي المقوس شرقي السويداء كحادث عارض، بل هو مؤشر متصاعد على تصدع النسيج الاجتماعي السوري تحت وطأة التطييف والسلاح والانهيار المؤسسي.
وحسب ما نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان مساء الأحد أن اشتباكات بين قبائل بدوية ومقاتلين محليين في السويداء، وهي بلدة ذات أغلبية درزية في جنوب غرب سوريا، أسفرت عن مقتل 37 شخصًا على الأقل. ووفقًا للمنظمة غير الحكومية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، والتي لديها مصادر واسعة في سوريا، فإن الضحايا يشملون 27 درزيًا، بينهم طفلان، وعشرة بدو، مع إصابة حوالي خمسين آخرين.
أعربت وزارة الداخلية في بيان لها عن "قلقها البالغ" إزاء الاشتباكات التي خلّفت، بحسب قولها، "أكثر من 30 قتيلاً ونحو 100 جريح" في حي المقوس شرقي السويداء. وأعلنت الوزارة عن تدخل وحدات الشرطة "بالتنسيق مع وزارة الدفاع، لفضّ الاشتباكات ووقفها وفرض الأمن وملاحقة المسؤولين عنها وتقديمهم إلى المحاكم المختصة". وأضافت أن هذه الاشتباكات وقعت "في ظلّ توترات تراكمت خلال فترات سابقة".
وفي وقت سابق، حث محافظ السويداء مصطفى البكور الأهالي على "ضبط النفس". كما دعا عدد من الزعماء الدروز إلى الهدوء وطالبوا بتدخل السلطات.
وتعد هذه اشتباكات دامية جديدة بين المجتمعين منذ أعمال العنف التي وقعت في شهري أبريل ومايو، والتي وضعت قوات الأمن السورية في مواجهة مقاتلين دروز، مما أسفر عن مقتل العشرات.
ونقل موقع "السويداء 24" الإخباري عن مصادر طبية قولها إن "اشتباكات مسلحة وتبادلاً للقصف وقع، وأُغلق الطريق السريع الواصل بين دمشق والسويداء بسبب أعمال العنف".
السياق: فراغ الدولة وعودة العصبيات
السويداء، المحافظة ذات الغالبية الدرزية، طالما نُظِر إليها على أنها واحدة من "الزوايا الهادئة" في النزاع السوري الممتد. لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر اضطراباً بسبب التدهور الأمني والاقتصادي، ما جعلها مرتعًا للميليشيات المحلية وتجار السلاح والمخدرات، بالتوازي مع انسحاب تدريجي للدولة المركزية من وظائفها التقليدية. أما القبائل البدوية في الأطراف الشرقية، والتي لطالما كانت على تماس هش مع سكان السويداء، فهي بدورها تعاني من التهميش والفقر والعزلة عن مراكز النفوذ.
ومنذ تصاعد الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام في السويداء خلال عامي 2022–2023، وبدء تسلح بعض العشائر المحلية لمواجهة الجماعات المرتبطة بالأجهزة الأمنية أو المدعومة إيرانياً، ازداد منسوب التوتر داخل المحافظة. الأحداث الأخيرة تأتي امتداداً لهذا السياق، لكنها تأخذ منحىً أكثر خطورة هذه المرة لكونها طائفية وجغرافية، وتعيد إلى الأذهان سيناريوهات التفكك المجتمعي التي عاشتها حمص ودير الزور سابقًا.
دلالات الاشتباكات: صراع الهويات في ظل العطالة السياسية
الاشتباكات التي اندلعت بين مقاتلين دروز وقبائل بدوية لا يمكن فصلها عن البنية الطائفية المتفجرة التي تتغذى من الفقر وغياب القانون وانتشار السلاح. فالإعلام المحلي، كـ "السويداء 24"، أشار إلى استخدام أسلحة ثقيلة وتبادل قصف، ما يعني أن ما جرى ليس مجرد شجار أهلي، بل مواجهة منظمة تُدار بعقلية ميليشيوية. كما أن إغلاق الطريق السريع بين دمشق والسويداء يعكس تحول الأمر إلى تهديد أمني استراتيجي.
الدروز، الذين يُنظر إليهم في بعض الأوساط كمجتمع "منغلق ومتماسك"، لم يعودوا كذلك في ظل اختراقات أجهزة الدولة، وبروز زعامات محلية متباينة الولاءات. أما البدو، فهم يحملون شعوراً تاريخياً بالغبن نتيجة السياسات التهميشية التي طالتهم لعقود. ما جرى إذًا هو صدام بين "هويتين مهمشتين"، لكنه يجري داخل فراغ سياسي عميق، وتحت أنظار قوى إقليمية تستثمر في تفتيت الداخل السوري.
النتائج والآثار: بيئة خصبة لتغذية الإرهاب المحلي والإقليمي
الاشتباكات تعمّق الانقسام، وتفتح الباب أمام مزيد من التحشيد الهوياتي والمناطقي، ما يعني توفير بيئة خصبة لنمو التنظيمات الإرهابية أو شبه الإرهابية. ففي حالات مشابهة، كما في درعا أو شرق سوريا، تحوّلت النزاعات المحلية إلى فرصة ذهبية لتنظيم "داعش" لإعادة تموضعه. ووجود خطوط تماس قابلة للاشتعال في السويداء، مثل الطريق الدولي نحو دمشق، يجعل من المحافظة نقطة ارتكاز استراتيجية لأي تنظيم متطرف يسعى إلى استعادة النفوذ.
أضف إلى ذلك أن اشتباكات من هذا النوع قد تُوظف إعلامياً من قبل شبكات الإرهاب في لبنان والعراق لترويج خطاب "التحشيد الطائفي"، وادعاء حماية الأقليات أو "السنة المهمشين" في سوريا. بهذا، تصبح نزاعات محلية كالنزاع الدرزي-البدوي في السويداء قابلة للتدويل الجهادي، سواء عبر خطاب تنظيم "القاعدة" أو بقايا "داعش" أو حتى عبر أذرع "الحرس الثوري الإيراني" التي تسعى إلى إعادة هندسة التركيبة السكانية.
خاتمة: ما العمل؟
ما تحتاجه السويداء ليس مجرد تدخل أمني عاجل كما أعلنت وزارة الداخلية السورية، بل عملية سياسية وأمنية شاملة تعيد الاعتبار للدولة المدنية والقانون، وتُحيي آليات المصالحة العشائرية التقليدية بعيداً عن تدخلات الأجهزة الأمنية التي باتت جزءًا من المشكلة. كذلك، لا بد من إشراك المجتمع المدني والزعامات المحلية المستقلة في أي خطة تهدئة، مع رقابة إعلامية ومجتمعية على سير العدالة والمحاسبة.
إن الصمت الإقليمي والدولي تجاه هذه الاشتباكات، والتعامل معها كمجرد "حوادث محلية"، يعكس فهماً قاصراً لطبيعة المرحلة. فالسويداء اليوم ليست معزولة، بل هي مؤشر على هشاشة البنية السورية بعد عقد ونيف من الحرب، وناقوس خطر لتفاقم الإرهاب المحلي وتصديره. وإذا لم يتم احتواء النزاع سريعًا، فإننا أمام جرح مفتوح قد يتحول إلى مصدر نزيف دائم في الجسد السوري المتعب.