عودة شبح “داعش” في الشرق السوري: بين الفوضى الأمنية وتآكل نفوذ “قسد”
الأربعاء 15/أكتوبر/2025 - 12:10 م
طباعة

تشير التطورات الأخيرة في محافظة دير الزور إلى أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) لم يختف كما يروج، بل أعاد تنظيم صفوفه ضمن إستراتيجية الاستنزاف البطيء لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية”. فالهجمات التي شهدتها بلدتا البحرة والشعفة ليست مجرد أحداث معزولة، بل تأتي في سياق تصاعد واضح في نشاط خلايا التنظيم خلال العام 2025، وهو ما تؤكده أرقام المرصد السوري لحقوق الإنسان التي تظهر 198 عملية منذ مطلع العام، أدت إلى 92 قتيلا من مختلف الأطراف.
أولا: الجغرافيا كعامل استراتيجي
تعد محافظة دير الزور واحدة من أكثر المناطق السورية حساسية من الناحية الجغرافية والسياسية والأمنية، فهي تقع على تماس مباشر مع الحدود العراقية وتشكل ممرا طبيعيا بين البادية السورية ومحافظات الرقة والحسكة وحمص. هذا الموقع الاستراتيجي جعلها منذ سنوات ساحة صراع دائمة بين القوى المحلية والدولية، وهدفا مفضلا للتنظيمات المسلحة التي تسعى للسيطرة على طرق الإمداد والمعابر غير الشرعية. كما أن قربها من الحدود العراقية يمنح تنظيم "الدولة الإسلامية" قدرة على التحرك بحرية نسبية بين الضفتين، مستفيدا من الطبيعة الصحراوية الوعرة والممتدة التي تصعب مراقبتها أو السيطرة الكاملة عليها.
إلى جانب ذلك، تمتاز دير الزور بتركيبتها العشائرية المعقدة التي طالما لعبت دورا حاسما في توازن القوى داخل المنطقة. هذه البنية الاجتماعية، على أهميتها، تحولت إلى بيئة قابلة للاختراق بفعل التوترات بين العشائر المحلية و"قسد"، مما أتاح للتنظيم العودة إلى المشهد من خلال بناء شبكات محلية تعتمد على العلاقات الاجتماعية والقرابية أكثر من الولاءات الأيديولوجية. فالتنظيم اليوم لا يحتاج إلى مناطق سيطرة واضحة بقدر حاجته إلى بيئة يمكنه فيها التحرك والاختباء والتمويل، وهو ما توفره له طبيعة المجتمع المحلي المنقسم وضعف الثقة بين السكان والسلطات.
وإحصائيا، تكشف الأرقام عن هيمنة دير الزور على خريطة العمليات الإرهابية خلال العام 2025، إذ سجل فيها 168 هجوما من أصل 198 عملية نفذتها خلايا التنظيم ضمن مناطق الإدارة الذاتية، أي ما يعادل 85% من مجمل العمليات. هذا الرقم لا يعكس فقط النشاط الميداني الكثيف للتنظيم في المنطقة، بل يسلط الضوء أيضا على الهشاشة الأمنية المتزايدة لقسد هناك مقارنة ببقية المناطق، ما يشير إلى أن التنظيم نجح في تحويل دير الزور إلى مركز رئيسي لإعادة بناء قدراته وتحريك خلاياه نحو مناطق أخرى كلما تهيأت الظروف.
ثانيا: تصاعد نمط العمليات
شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدا ملحوظا في العمليات التي تنفذها خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” ضمن مناطق نفوذ “قسد”، سواء من حيث العدد أو التنوع في الأساليب. فقد انتقل التنظيم من تنفيذ هجمات محدودة النطاق إلى عمليات مركزة ومدروسة تستهدف نقاطا عسكرية ومقرات أمنية، مستخدما أسلحة خفيفة ومتوسطة مثل الرشاشات وقذائف الـ“آر بي جي”، إلى جانب تفجيرات وعمليات اغتيال لقيادات محلية. هذا التنوع في الأدوات يعكس تطورا في أداء التنظيم الميداني وقدرته على التخطيط، رغم محدودية موارده البشرية والمادية مقارنة بفترات صعوده السابقة.
اللافت أن أغلب هذه الهجمات لم تسفر عن خسائر بشرية كبيرة، ما يدل على أن التنظيم لا يسعى في هذه المرحلة إلى تحقيق انتصارات ميدانية كبرى، بقدر ما يهدف إلى استنزاف الخصم وإبقائه في حالة تأهب دائم. فاستهداف مواقع عسكرية دون محاولة السيطرة عليها يشير إلى اتباع تكتيك “الاحتكاك المستمر”، وهو أسلوب قديم في حرب العصابات يعتمد على ضرب العدو بشكل متكرر ومن مواقع متفرقة لإرباكه وتشتيت جهوده الأمنية. بهذا الأسلوب، ينجح التنظيم في إظهار نفسه كقوة لا يمكن القضاء عليها بسهولة، ويبعث برسالة رمزية مفادها أنه ما زال حاضرا رغم انهيار “الخلافة المكانية”.
في الوقت نفسه، يهدف هذا النمط من الهجمات إلى إثبات قدرة التنظيم على اختراق المنظومة الأمنية لقسد. فمجرد وصول خلاياه إلى مواقع داخل مناطق مؤمنة نسبيا يعد إنجازا دعائيا مهما، يسعى التنظيم إلى استغلاله في دعايته الداخلية والخارجية لاستقطاب عناصر جديدة وإعادة الثقة إلى أنصاره. وغالبا ما ترافق هذه العمليات رسائل إعلامية عبر قنوات التنظيم الدعائية، تؤكد أن “قسد” عاجزة عن حماية مناطقها أو ردع الهجمات، مما يضاعف التأثير النفسي على السكان المحليين والعناصر العسكرية في آن واحد.
إن هذا التحول من منطق “التمركز” إلى منطق “التحرك” والضرب السريع يعكس إدراك التنظيم لتغير موازين القوة على الأرض. فبعد خسارته المساحات الواسعة التي كان يسيطر عليها، أعاد بناء استراتيجيته على أسس مرنة تقوم على الانتشار الخلوي والعمل السري. هذه المقاربة الجديدة تعقد مهمة “قسد” والتحالف الدولي في مكافحته، لأن الحرب لم تعد تدور حول السيطرة على الأرض، بل حول تفكيك شبكات متنقلة بلا مركز محدد، ما يجعل المواجهة أكثر استنزافا وطولا، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار الأمني في الشرق السوري.
ثالثا: قراءة في الأرقام
تكشف المعطيات الميدانية عن واقع مقلق في دير الزور، التي تظل مركز الثقل في نشاط تنظيم "الدولة الإسلامية". فقد سجلت المحافظة وحدها 48 قتيلا من العسكريين العاملين ضمن قوات سوريا الديمقراطية والفصائل المتحالفة معها، إلى جانب 13 مدنيا فقدوا حياتهم نتيجة التفجيرات أو الاستهدافات العشوائية، فضلا عن مقتل 4 عناصر من التنظيم. هذه الأرقام تؤكد أن المدنيين ما زالوا الضحية الدائمة في معادلة الصراع، إذ يتحملون كلفة الاشتباكات والعمليات الانتقامية من الجانبين. كما تكشف أن التنظيم بات يركز على المناطق ذات الكثافة السكانية والعشائرية، حيث يمكنه التحرك بسهولة أكبر، ما يضاعف من حجم المخاطر الإنسانية والأمنية في المنطقة.
أما في محافظة الحسكة، فقد نفذ التنظيم 16 عملية أدت إلى مقتل 14 شخصا، معظمهم من عناصر قوى الأمن الداخلي "الأسايش". هذه المحافظة تعد من أكثر مناطق الإدارة الذاتية استقرارا إداريا وأمنيا مقارنة بغيرها، ما يجعل اختراقها من قبل التنظيم مؤشرا خطيرا على اتساع نطاق الاختراق الأمني. فخلايا التنظيم لم تعد تقتصر على الأطراف الصحراوية والقرى النائية، بل وصلت إلى مناطق الحواجز الأمنية والإدارات المدنية، في إشارة إلى تنامي القدرة الاستخبارية والمرونة العملياتية لدى عناصره. ويبدو أن التنظيم يعتمد على "الخلايا النائمة" والعمليات النوعية الصغيرة لتقويض ثقة السكان بالأجهزة الأمنية.
وفي محافظة الرقة، التي كانت يوما ما عاصمة “الخلافة”، نفذ التنظيم 14 عملية أسفرت عن مقتل 12 عسكريا وإصابة 17 آخرين. هذه العودة المحدودة إلى المشهد في الرقة تحمل رمزية خاصة، إذ يسعى التنظيم من خلالها إلى تذكير العالم بقدرته على إعادة النشاط في معقله السابق، حتى وإن كانت إمكانياته محدودة. فالرقة تمثل في الذاكرة التنظيمية لـ"داعش" مركزا معنويا ومرجعا رمزيا، ونجاحه في تنفيذ عمليات داخلها، ولو محدودة، يعزز من سرديته الإعلامية بأن مشروع “الدولة” لم يهزم بعد، بل يعيش في مرحلة الكمون وإعادة التشكيل.
إن مجمل هذه الأرقام، عند قراءتها في سياق واحد، تؤكد أن التنظيم ما زال يمتلك شبكة واسعة من الخلايا المنتشرة في ثلاث محافظات رئيسية، قادرة على التحرك رغم انحسار موارده المالية والبشرية. هذا ما يصفه منظرو التنظيم بـ"اقتصاد الدم"، أي الاكتفاء بأقل الخسائر المادية لتحقيق أكبر قدر من التأثير الميداني والنفسي. فبدل أن يخوض معارك مفتوحة، يركز التنظيم على ضربات نوعية قصيرة الأمد لكنها عالية الرمزية، تحدث أثرا سياسيا وإعلاميا يتجاوز حجمها الفعلي على الأرض. هذه القدرة على الاستمرار بحد أدنى من الموارد تعد من أبرز نقاط قوته في مرحلته الراهنة، وتجعل من القضاء عليه مهمة أكثر تعقيدا مما تبدو عليه في ظاهر المشهد.
رابعا: مأزق “قسد” والإدارة الذاتية
تعيش قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في دير الزور وعموم مناطق شرق الفرات وضعا معقدا يتجاوز البعد العسكري إلى أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية متشابكة. فالعلاقة بين “قسد” والعشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي تشهد توترا متصاعدا بسبب ما يعتبره أبناء العشائر تهميشا سياسيا وإقصاء إداريا لصالح المكون الكردي، إضافة إلى سياسات أمنية تقوم على الاعتقالات والمداهمات دون محاسبة. وقد أدت هذه السياسات إلى تفاقم الشعور بالغبن والانقسام، ما خلق بيئة حاضنة جزئيا لعودة خلايا التنظيم، خصوصا في المناطق التي يشعر أهلها بأنهم خارج دائرة القرار أو الفائدة من موارد النفط والزراعة التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية”.
إلى جانب التوتر العشائري، تواجه “قسد” أزمة ثقة شعبية متنامية نتيجة تردي الأوضاع المعيشية والخدمية في مناطق سيطرتها. فضعف الكهرباء والمياه، وارتفاع الأسعار، واستمرار البطالة، كلها عوامل غذت الإحباط العام وأضعفت موقفها أمام المجتمع المحلي. كما أن ممارساتها الأمنية الصارمة، بما فيها الاعتقالات العشوائية بحجة مكافحة الإرهاب، أدت إلى تآكل الرصيد الاجتماعي الذي كانت تعتمد عليه في مواجهة التنظيم. هذه الأجواء خلقت مساحة رمادية يستغلها “داعش” بمهارة، إذ يقدم نفسه كقوة انتقامية أو “عدالة بديلة” في أعين بعض السكان الغاضبين من مظالم “قسد”.
أما على الصعيد الأمني والعسكري، فإن تراجع التنسيق مع القوات الأميركية بعد تقليص وجودها الميداني ترك فراغا واضحا في آليات المتابعة والاستخبارات، وهو ما انعكس في ضعف الاستجابة السريعة للهجمات المفاجئة. ومع محدودية الإمكانات التقنية والقدرات الجوية لقسد، أصبحت المواجهة مع خلايا التنظيم أكثر صعوبة. هذا التراجع في الدعم الخارجي تزامن مع استمرار التحديات الإنسانية في مخيمي الهول والروج، حيث تعيش آلاف العائلات المرتبطة بعناصر التنظيم في ظروف مأساوية، تشكل بيئة خصبة لتجديد الفكر المتطرف ونقل العدوى الأيديولوجية إلى جيل جديد من الأطفال والنساء. وهكذا، يصبح الخطر على “قسد” مزدوجا: عسكري من الخارج، وإيديولوجي واجتماعي من الداخل.
خامسا: دلالات المشهد
ما يجري اليوم في دير الزور لا يمكن اعتباره عودة كاملة لتنظيم “الدولة الإسلامية” بالمعنى الجغرافي أو التنظيمي، بقدر ما هو عودة إلى المبادرة الميدانية والقدرة على التأثير في المشهد الأمني. فالتنظيم لم يعد يسعى إلى استعادة “الخلافة” المكانية كما في السابق، بل يعمل وفق استراتيجية “الكمون الطويل” التي تقوم على استنزاف الخصوم وإدامة الفوضى. هذا التحول يعكس نضجا في تكتيكات التنظيم، إذ بات يعتمد على إدارة الصراع من خلف الستار عبر خلايا متنقلة صغيرة الحجم، لكنها شديدة الفاعلية، تستغل الثغرات الأمنية والانقسامات المحلية لتحقيق مكاسب معنوية تفوق بكثير نتائجها الميدانية المباشرة.
وفي الوقت نفسه، يظهر أن التنظيم يستفيد إلى أقصى حد من حالة التشتت السياسي والتنافس بين القوى المحلية والإقليمية في شرق سوريا. فبينما تنشغل “قسد” في إدارة أزماتها الداخلية وصراعاتها مع العشائر، وتحاول الحكومة السورية وحلفاؤها بسط نفوذهم في مناطق أخرى، يجد التنظيم في هذا الفراغ مساحة مثالية للتحرك وإعادة بناء شبكاته. كما يستثمر في غياب رؤية موحدة لدى القوى الدولية حول مستقبل المنطقة، ليقدم نفسه كقوة متمردة قادرة على البقاء في ظل الفوضى، بل والمساهمة في تغذيتها لضمان استمرارها.
من ناحية أخرى، تظهر هذه التطورات فشل المقاربة الأمنية لقسد التي اعتمدت على الانتشار العسكري الواسع دون تطوير أدوات استخبارية فعالة أو بناء حاضنة محلية داعمة. فالأمن في المناطق الريفية مثل دير الزور لا يتحقق عبر عدد الجنود، بل من خلال التحالف مع المجتمع المحلي وتفكيك البيئة الحاضنة للتنظيم. هذا العجز في تطوير مقاربة شاملة جعل من “قسد” طرفا منهكا أكثر من كونه فاعلا ممسكا بزمام المبادرة، بينما يواصل “داعش” استغلال كل خطأ وكل فراغ ليؤكد أن معركته لم تنته بعد، بل دخلت مرحلة أكثر مرونة وخطورة في آن واحد.
الرسالة الأوضح من أحداث دير الزور أن الحرب ضد “داعش” لم تنته، بل تحولت من معركة جبهات إلى حرب ظل مفتوحة. التنظيم اليوم لا يسعى إلى إعلان “خلافة”، بل إلى إدامة الفوضى التي تضمن له الوجود والبقاء، بينما تبدو “قسد” عاجزة عن موازنة الأمن مع كسب الحاضنة الشعبية.
وبينما تنشغل القوى الإقليمية والدولية بصراعات أوسع، يعيد التنظيم بناء نفسه في فراغ لم يملأ بعد — فراغ سياسي، وأمني، وأيديولوجي في آن واحد.