من خيبر إلى شرم الشيخ: أسطرة الواقع في خطاب داعش

السبت 18/أكتوبر/2025 - 03:00 ص
طباعة من خيبر إلى شرم الشيخ: حسام الحداد
 
تأتي افتتاحية «النبأ» الأخيرة (العدد 517 — 16 أكتوبر 2025) في لحظةٍ إقليمية بالغة التعقيد، حيث يتقاطع الانسداد السياسي في غزة مع تحركاتٍ دبلوماسية واسعة لإنهاء الحرب وإدارة مرحلة ما بعد الصراع. بدلاً من قراءة هذه التحولات بعينٍ نقديةٍ واقعية، تعود الافتتاحية إلى نبرةٍ أيديولوجية مألوفة في خطاب تنظيم «داعش»؛ نبرةٍ تتغذّى من خيبات الميدان وتحوّل الهزيمة إلى مادة إيمانية تُستثمر لإحياء شعورٍ زائفٍ بالبطولة. إنها محاولة لإعادة إنتاج السردية القديمة حول «الطريق الأوحد للجهاد»، مقابل «خيانة» كل مسارٍ سياسي أو تفاوضي. وهكذا لا تُقدَّم القضايا السياسية بوصفها خياراتٍ بشرية قابلة للنقاش، بل كاختباراتٍ إيمانية بين الولاء والردّة، وبين النصر الإلهي والانهيار المزعوم أمام “الطواغيت”.
الافتتاحية – من منظور تحليل الخطاب – تمثل نموذجًا كلاسيكيًا لما يمكن تسميته بـ«لغة الأزمة المستدامة»، حيث يُستدعى التاريخ والرمز الديني لتغطية الفراغ السياسي، وتُقدَّم الهزيمة كعلامة صدقٍ على الطريق، لا كإخفاقٍ يستوجب المراجعة. هذا النمط من الكتابة لا يسعى إلى تفسير الأحداث، بل إلى تعبئة جمهور التنظيم ضد أي مشروع سلام أو مبادرة إنسانية، عبر توظيف مفردات «الولاء والبراء» و«الثبات على المنهج» كبدائل عن النقاش الواقعي حول المعاناة اليومية لملايين المدنيين في غزة. والنتيجة أن النصّ يعيد إنتاج منطقٍ دائريٍّ يبرّر العنف بالعقيدة، ويبرّر استمرار العقيدة باستمرار العنف، في دائرة مغلقة لا مخرج منها سوى الموت أو التكرار.
تكمن أهمية تفكيك هذه الافتتاحية في أنها ليست مجرّد نصّ دعائي، بل وثيقة فكرية تعبّر عن آليات اشتغال خطابٍ متطرف يحاول تجديد نفسه في كل محطةٍ سياسية كبرى. لذا تأتي هذه القراءة النقدية لتكشف بنيته الحجاجية وأساليبه في توظيف النصوص الدينية والتاريخية، وتبيّن كيف يحوّل الفشل السياسي إلى مبرّرٍ أيديولوجي للعنف، ويستثمر المآسي الإنسانية كوسيلة لاستقطابٍ جديد. في المقابل، تسعى هذه المقالة إلى تقديم قراءة موازية تُعيد الاعتبار للعقلانية السياسية، ولحق المدنيين في الحياة الآمنة، وللإمكانيات الواقعية لبناء خطابٍ دينيٍّ بديلٍ يوازن بين النص والمصلحة العامة، ويعيد الدين إلى موقعه كقيمة إنسانية لا كذريعة للدم.

اختزال السياسة إلى محض خيانة/تطبيع: 
الافتتاحية تُقيم بنيانها الخطابي على منطقٍ ثنائيٍّ حاد لا يعترف بالمنطقة الرمادية أو بالتعقيد السياسي، فهي تقسم المشهد إلى طرفين لا ثالث لهما: «طريق الجهاد الشرعي» من جهة، و«طريق الخيانة والجاهلية الوطنية» من جهة أخرى. هذا التقسيم يختزل السياسة إلى حكمٍ دينيٍّ أخلاقيّ، ويحوّل الخلاف السياسي إلى قضية إيمانية بين حلال وحرام، أو بين مؤمن وكافر. ومن خلال هذا التأطير، تُسقِط «النبأ» كل إمكانٍ للتنوع في المواقف، وتُجرِّد الفاعلين السياسيين من نواياهم الوطنية أو الإنسانية، لتجعل من كل تفاوض أو مصالحة أو مبادرة دولية نوعًا من الردّة أو الخيانة. إن هذا النمط من التفكير ليس جديدًا في أدبيات التنظيم، بل هو امتداد لرؤية أيديولوجية تستمد شرعيتها من تبسيط الواقع وتحويله إلى معركةٍ بين «معسكر الإيمان» و«معسكر الكفر».
كما أن هذا الاختزال يخدم وظيفة تجنيدية واضحة، فهو يمنح التنظيم أداة تعبئة فعّالة تقوم على خلق شعورٍ بالاصطفاء والتميّز الأخلاقي لدى جمهوره، في مقابل شيطنة كل الآخرين. فمن خلال نزع الشرعية عن كل المبادرات السياسية، يُغلق التنظيم الباب أمام التفكير النقدي ويحتكر تفسير الأحداث، محولًا جمهوره إلى كتلةٍ من المؤمنين بفكرةٍ واحدة: أن كل طريقٍ غير القتال المسلح هو تفريطٌ في الدين والدم والكرامة. وبهذا المعنى، لا يتعامل النص مع السياسة كفنٍّ للممكن، بل كاختبارٍ للعقيدة والولاء، ما يجعل القارئ في مواجهةٍ مع عالمٍ مغلقٍ لا يعرف سوى التكفير والإقصاء.
غير أن الوقائع السياسية والإنسانية على الأرض تُكذِّب هذا الطرح المبسّط. فقمة شرم الشيخ، كما وثّقتها وسائل الإعلام الدولية، لم تكن مؤامرةً جديدة ضد غزة بقدر ما كانت محاولةً دولية لوقف نزيف الدم واستجابةً لأزمة إنسانية غير مسبوقة يعيشها أكثر من مليوني إنسان في القطاع. وقد شاركت في القمة أطراف متعددة ذات مصالح متباينة، بعضها يسعى لتثبيت وقف إطلاق النار، وبعضها يريد ضمان إدخال المساعدات وتهيئة الأرضية لعملية إعادة إعمار. تجاهل الافتتاحية لهذه الأبعاد المتشابكة، وإصرارها على توصيف القمة كـ«تحالف غربي لحماية إسرائيل»، يكشف عن ضيق أفقٍ سياسيٍّ متعمّدٍ، هدفه الأساسي استمرار خطاب الحرب لا السعي لإنهائها.

تقنيات الخطاب: 
الافتتاحية تلجأ بكثافة إلى الرموز الدينية والتاريخية كأدوات بلاغية تقوّي تأثيرها العاطفي على القارئ؛ فاستدعاءُ خيبر وحطين وعصا موسى ليس مجرّد زخرفة لغوية بل عملية تحويل للصراع من حدث سياسي معقد إلى ملحمةٍ مقدّسةٍ تختزلها أسسٌ ميتافيزيقيّة. هذه الاستعارات تعمل كقناةٍ مباشرةٍ للوِداع النفسي — فهي تثير شعورًا بالذات المختارة والارتباط بتاريخٍ بطوليّ، وتمنح القارئ إطارًا زمنياً يربط الحاضر بمآثر مُقدَّسة، ما يصعّب على المتلقّي فصل الأدلة التاريخية عن المطالب الراهنة أو تقييم الخيارات السياسية وفق معايير عملية بحتة.
لكن هذه القوة العاطفية لا تعوض عن الفشل العملي للخطاب في الإجابة عن أسئلة الواقع: كيف تُؤمَّن المستشفيات؟ كيف تُعاد شبكات المياه والكهرباء؟ من يتولّى إدارة ميناء أو مطار أو معبر؟ الاستدعاء المتكرر للمعجزات والاصطفاءات يزيّن خطاب المقاومة ويمنحه شرعية روحية، لكنه في الوقت نفسه يعرقل النقاش حول آليات الحماية المدنية، وخطط إعادة الإعمار، وسياسات الانتقال السياسي التي تتطلّب خرائط طريق فنية وإدارية ومؤسسية. النتيجة أن النصّ يترك القارئ في حالةٍ من التوهان بين حماسة تاريخية لا تستند إلى حلول، وواقعٍ إنسانيٍّ يتطلّب إجاباتٍ فوريةً ومحدّدة.
أخطر ما في هذا الاستخدام البلاغي أنه يغلق أمام الجمهور فضاءات البديل المدني والسياسي: عندما يصبح الصراع «أمراً مقدّسًا» فإن كل نقاش حول السلم المدني، التفاوض، أو بناء مؤسسات مستقلة يُسوَّق كخيانةٍ أو تفرّطٍ في الدين. هذا الإغلاق لا يُنتج فقط مناخًا ثنائيًّا بل يُحيي ثقافة رفض الإصلاح المؤسساتي والبرامج الإنسانية التي يمكن أن تُقلِّل من معاناة الناس. مواجهة هذا التوجّه البلاغي تتطلب استراتيجيات مضادّة تعتمد على لغةٍ عمليةٍ توضّح خطوات حماية المدنيين وإعادة البناء، وعلى تفسيرٍ شرعيٍ مسؤول يُظهر أن الحفاظ على الأرواح والبنى لا يتعارض بالضرورة مع المُثل الدينية، بل يمكن أن يكون ترجمتها الأشدّ إنسانية وواقعية.

اختلاق تناقضات وتوسيع الشكّ: 
تعتمد الافتتاحية في بنائها السردي على مبدأ خلق التناقضات وتوسيع دائرة الشك، فهي لا تكتفي بنقد قمة شرم الشيخ، بل تُحوِّل المكان نفسه إلى رمزٍ للعمالة والخضوع، بوصفه «قبلة السلام مع اليهود». هذا التوصيف المكثف لا يهدف إلى تحليل رمزي أو تاريخي بقدر ما يسعى إلى تجريد الحدث من أي معنى سياسي أو إنساني مستقل، وربطه تلقائيًا بسياق من الخيانة والانهزام. فمجرد انعقاد القمة في شرم الشيخ، وفق المنطق الداعشي، كافٍ لإدانتها مسبقًا؛ لأن المدينة —في سردهم— ارتبطت باتفاقيات «كامب ديفيد» وبالتحالفات المصرية-الإسرائيلية السابقة. وهكذا يتحوّل الجغرافيا إلى شاهد إدانة أيديولوجي، يُستعمل لتغذية العداء دون تقديم قراءة واقعية لطبيعة المشاركين أو أهدافهم.
توظّف الافتتاحية هذا المنطق لإعادة إنتاج ما يمكن تسميته بـ«البنية المؤامراتية للوعي»، حيث تُقدَّم كل الأطراف الدولية —من الولايات المتحدة وقطر إلى تركيا ومصر— كأدواتٍ متواطئةٍ في مشروعٍ واحدٍ لتصفية القضية الفلسطينية. هذا التعميم الواسع يسحب الشرعية من أي فاعل سياسي أو إنساني، ويمنع المتلقي من التمييز بين أدوارٍ متباينة أو مصالح متقاطعة، ليغدو العالم بأسره جبهةً واحدة ضد «المسلمين». وبهذه الطريقة، يعيد التنظيم ترميم سرديته التقليدية التي تضع الأمة في مواجهة «تحالف صليبي-يهودي»، وهي سردية تُغذّي الشعور بالاضطهاد الدائم وتُبقي جمهوره في حالةٍ من الدفاع النفسي المستمر.
في المقابل، تكشف متابعة التغطيات الإعلامية وتحليلات الخبراء أن المشهد أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط المضلل. فقد شارك في قمة شرم الشيخ طيف واسع من الدول والمنظمات، بعضها تحركه دوافع إنسانية لوقف الكارثة في غزة، وبعضها مدفوع بمصالح أمنية أو حسابات إقليمية تتعلق بالاستقرار العام. هذه التعددية في الدوافع تُظهر أن العالم لا يتحرك بوصفه كتلة واحدة متآمرة، بل ضمن شبكة من المصالح المتشابكة التي يمكن توظيفها سياسيًا لخدمة الفلسطينيين إذا وُجدت قيادة واعية واستراتيجية تفاوضية رشيدة. تجاهل الافتتاحية لهذه التعقيدات هو جزء من منهجها الأيديولوجي القائم على الصراع الأبدي، لا على الفهم الواقعي لمسارات السياسة الدولية.

مغالطات الحق التاريخي: 
تستحضر الافتتاحية تجارب تاريخية مثل «أفغانستان» و«سوريا» و«كامب ديفيد» لتدعيم خطابها الرافض لأي مسار تفاوضي، مقدِّمة هذه الحالات كدلائل قاطعة على أن المفاوضات لا تؤدي إلا إلى الخيانة أو الهزيمة. غير أن هذا الطرح يقوم على مغالطة جوهرية في المنهج، إذ يعامل سياقات مختلفة كأنها نسخة مكرّرة من حدث واحد، متجاهلًا اختلاف البنى السياسية، والظروف الإقليمية، وتوازنات القوى في كل تجربة. فالربط الميكانيكي بين اتفاق كامب ديفيد – الذي أنهى حربًا تقليدية بين دولتين – وبين وضعٍ معقّد مثل غزة أو سوريا، هو تبسيط مخلّ لا يصمد أمام أي تحليل جاد.
ثم إن اعتماد الافتتاحية على ما تسميه «الحق التاريخي للمقاومة» يتجاهل أن التاريخ ليس سلسلة انتصارات متشابهة، بل مزيج من نجاحات وإخفاقات تتشكل وفق موازين الواقع. فالتاريخ لا يُستخدم كدليل قاطع بل كمرجع للتعلّم، والخلط بين الرمزية التاريخية والضرورة الواقعية يحوّل الماضي إلى أداة لتبرير الجمود بدلًا من أن يكون مصدرًا للفهم النقدي. بهذا المعنى، يصبح الخطاب أقرب إلى خطاب تعبوي يعتمد على العاطفة أكثر مما يعتمد على التحليل.
وأخيرًا، تتغافل الافتتاحية تمامًا عن الأثمان البشرية والسياسية المترتبة على حصر الخيارات في المقاومة المسلحة وحدها. إن التجارب التاريخية التي تُستدعى لتبرير هذا الطرح لم تكن خالية من المآسي: ملايين القتلى واللاجئين وانهيار مؤسسات الدول. تجاهل هذه الوقائع يحوّل «الحق التاريخي» إلى شعار مجرّد، لا إلى مشروع وطني قابل للحياة. لذا، فإن أي مقاربة واقعية يجب أن توازن بين المقاومة كحق مشروع، والحاجة الإنسانية والسياسية إلى حماية المدنيين وبناء شروط حياة مستقرة تُمكّن من استمرار هذا الحق دون تدمير المجتمع ذاته.

الاستدعاء الديني كشرط لشرعية العنف: 
تدّعي الافتتاحية أن «شريعة النبي» تفرِض مسارًا وحيدًا للجهاد، وأن أي طريقٍ آخر لوقف الدماء أو التفاوض يُعدّ خروجا عن الشرع ومرتكزًا للردّة. هذا الطرح يقدّم نصوصًا دينية كمقاطع أحادية ومطلقة تُجرَّد من سياقها الفقهي والتاريخي، فيتبدّى وكأنّ هناك صيغة واحدة مُعتمدة لتطبيق النص الديني في كل زمان ومكان. النتيجة المباشرة لهذا الادعاء هي تحييد المنطق السياسي والإنساني، ورفض أي حلّ عملي يقلل من معاناة المدنيين، لأنَّ الشرعية الدينية تُستعمل كقيد يمنع مراجعة الوسائل والأهداف ضمن معايير حماية النفس والمصلحة العامة.
لكن الفقه الإسلامي تاريخيًّا لا يمتلك قارّةً واحدة في التأويل، بل شبكة من المدارس والمنهجيات الفقهية التي تفاوضت دائماً بين نصوص الشريعة ومتطلبات الواقع. التفاسير والقياسات الشرعية تخضع لمقدمات فقهية متعدّدة: مصلحةٍ عامة، دفعِ الضرر، حفظ النفس والمال والعرض، وخيارات استثنائية عند الضرورة. بهذا المعنى، لا يَصِحّ أن يَحتكِر فصيلٌ مسلّح أو خطابٌ أيديولوجي تفسير الشرع لصالح مسلكٍ واحد؛ فالمشروع الديني الحقيقي يتطلّب نقاشًا اجتهاديًا مفتوحًا يضمّ علماءً مستقلين، فقهاءً ذا مصداقية، وممثّلين مدنيين يوازنّون بين النص ومقاصد الشريعة في حماية الناس والحفاظ على مقومات الحياة.
احتكار التفسير وتحويله إلى مدخلٍ لشرعنة العنف له آثار عملية وسلبية عميقة: يهمّش أصواتَ إنسانية تدعو إلى حماية المدنيين، يضعف إطار المساءلة أمام الانتهاكات، ويُغلق أمام المجتمع المدنى ومؤسساته مجال المشاركة في صنع الحلول. كما أنه يسهِم في إنتاج جيلٍ محكومٍ بثقافة الاستقطاب وعدم التسامح، ما يزيد من تكلفة الصراع ويطيل أمد المعاناة. الردّ العملي على هذا الاتجاه يتطلب فتح قنوات شرعية ومدنية للحوار، نشر ثقافة فقهية مسؤولة تُعطي الأولوية لحفظ الأرواح والممتلكات، وتشجيع مداخل سياسية وقانونية تُسهم في حماية الناس بدلاً من تحويل الدين إلى غطاءٍ وحيد للعنف.

قراءة أثرية للسياسة الواقعية: 
تكشف الوقائع المرافقة لقمة شرم الشيخ عن توازنٍ دقيق بين الضغوط الدولية لإنهاء الحرب والسعي إلى إدارة ما بعد الصراع. فالمداولات التي جرت، وفق تسريبات وتقارير دبلوماسية، لم تقتصر على الدعوات إلى وقف إطلاق النار، بل تناولت أيضًا إنشاء آليات لإعادة الإعمار، وتأمين عودة النازحين، وبحث ترتيبات انتقالية قد تُقصي حركة حماس من بعض ملفات الحكم أو تجعلها شريكًا غير مركزي. هذه الخطوات تحمل في طياتها نيات متباينة: رغبة دولية في ضبط الوضع الأمني، وفي الوقت نفسه محاولة لتفادي تكرار انهيار البنى المدنية كما حدث بعد كل جولة عنف في غزة.
لكن هذا المسار يثير أيضًا تساؤلات مشروعة حول مدى سيادة القرار المحلي الفلسطيني في ظلّ تزايد التدخل الدولي والإقليمي، وحول من يمتلك الحق في تمثيل السكان وتحديد أولوياتهم بعد الحرب. فالدعوات إلى تشكيل “هيئات انتقالية” أو “مجالس إدارة مؤقتة” قد تُفضي إلى واقعٍ من الوصاية السياسية، ما لم تُضمَن آليات واضحة للمساءلة والمشاركة الشعبية. ومع ذلك، فإن المقاربة الواقعية لا يمكن أن تتجاهل أنّ مثل هذه الأطر قد تفتح منفذًا لتثبيت الهدوء، وتأمين تدفق المساعدات الإنسانية، وإعادة بناء البنية التحتية الحيوية من مستشفيات ومدارس ومساكن مدمّرة.
أما الافتتاحية التي تناولت القمة فقد تجاهلت هذا التعقيد بالكامل، واختزلت المشهد إلى “غزو ناعم” و”وصاية دولية على غزة”، وكأنّ أي انخراط دولي يعني بالضرورة خيانة أو فقدانًا للسيادة. مثل هذا المنظور الإقصائي يحرم الجمهور من فهم التفاعلات الفعلية بين القوى المحلية والدولية، ويعطل النقاش العملي حول كيفية تحويل التدخل الخارجي إلى فرصة لصالح السكان لا على حسابهم. القراءة الأكثر اتزانًا تفترض مساءلة الخطط المطروحة لا رفضها كليًا، والسعي إلى استثمارها بما يحفظ حياة المدنيين ويعيد للمجتمع الفلسطيني قدرةً تدريجية على إدارة شؤونه ضمن إطار مؤسسي قابل للحياة.

مخاطرة التأثير: 
الخطاب الذي تصدره الافتتاحية لا يكتفي بالنقد السياسي أو بالرفض المعنوي للمبادرات الدولية، بل يتجاوز ذلك إلى صياغة دعوات تصعيدية تُحوّل الاختلاف السياسي إلى فرضية شرعية للعنف. عندما يُقدَّم العنف كخيارٍ «شرعيٍّ» وحيدٍ لرد العدوان أو استرداد الحقوق، فإن الخطاب يخرق الحدود بين النقد والمطالبة بالدم، ويمنح تبريرًا أخلاقيًا لفعلٍ يضاعف من معاناة المدنيين. هذا النوع من الطرح لا يبقى محصورًا في مستوى الكلام، بل يتصاعد بسهولة إلى خطط عملية للتجنيد والتحريض، خصوصًا لدى فئاتٍ شبابيةٍ هشة تبحث عن معنى وانتماء في ظلّ انهيارات مدنية واقتصادية وسياسية.
العواقب المترتبة على استمرار مثل هذا الخطاب فورية ودامية: أولها تعريض المدنيين لمخاطر أكبر لأن الدعوات للتصعيد تعيد إنتاج دورة العنف والانتقام، وتُطيل أمد الحصار والدمار، وثانيها توفير مادة أيديولوجية سهلة للاستقطاب والتجنيد؛ فالشباب المستلبون يُسوَّق لهم أن الخيار الوحيد للشرف والكرامة هو السلاح، فتُفقد المجتمعات فرص بناء بدائل سلمية أو مؤسسات تحمي الناس وتحسّن ظروف معيشتهم. بالإضافة إلى ذلك، يُضعف هذا الخطاب أي قدرة على بناء جبهات مدنية أو دبلوماسية تدافع عن الحقوق وتحقق مطالب الشعب بطرق تُقلّل من الخسائر وتؤمّن المدد الإنساني.
لذلك يجب أن يكون ردّنا على هذا الخطاب مزدوجًا ومتكاملًا: فكريًا، عبر تفنيد الحجج المنطقية والبلاغية التي تُخفي واقع التكلفة البشرية وتُعمّي عن البدائل، بإشراك علماء مستقلين ومفكرين قادرين على قراءة النصوص الدينية وفق مقاصد حفظ النفس والمصلحة العامة؛ وعمليًا، عبر تقديم بدائل سياسية وإنسانية قابلة للتطبيق — خطط حماية مدنية، قنوات لإدخال المساعدات، برامج لإعادة الإعمار بقيادة محلية مُحاسبة، وحملات تواصل تستهدف الشباب بدل الاستقواء بلغة التحريض. الجمع بين التصدي الفكري والإجراءات الملموسة هو السبيل لقطع الطريق على من يحوّل ضحايا الصراع إلى وقودٍ لأيديولوجياتٍ تنتج المزيد من الخراب.

بدائل مبدئية ومقترحات لخطاب مضاد
أولاً: جعل حماية المدنيين معيارًا لا تفاوض حوله يعني تحويل المبادئ الإنسانية إلى آليات عملية وملزمة. ذلك يتطلب إعلان وقف نار دائم تحت مراقبة دولية متعددة الأطراف (بعثة رصد محايدة)، فتح ممرّات إنسانية مؤمّنة على أساس جغرافي وزمني مع قوائم إمداد واضحة، وتأسيس آليات فورية لإصلاح البنى الحيوية — كهرباء، مياه، مستشفيات— عبر عقود مؤقتة مع فرق مدنية دولية ومحلية تلتزم بمعايير الشفافية والمساءلة. كما ينبغي اشتراط مشاركة مجتمعية فعلية في كل قرار إعادة إعمار: مجالس محلية منتخبة تمثّل الأحياء، آليات تظلم ومراجعة مستقلة، ونظام رقابة دولي ينسّق التمويل ويضمن وصوله لمستحقيه بعيدًا عن أي ابتزاز سياسي.
ثانيًا: دعم المبادرات المدنية الفلسطينية المستقلة يتطلب تمويلًا مستدامًا وبرامج بناء قدرات مؤسساتية لا مساعدات إسعافية فقط. ينبغي إنشاء صناديق مُموّلة دوليًا تُدار بشفافية وتشاركها منظمات مجتمع مدني فلسطينية راسخة، تُوظَّف في مشاريع إعادة إعمار المنازل، وإعادة تشغيل المدارس والمراكز الصحية، وبرامج توظيف للشباب والنساء. إلى جانب ذلك، يجب دعم شبكات التضامن الإقليمي والعربي التي تعزّز الاستقلال الاقتصادي — مشروعات زراعية وصناعات صغيرة — وتُقلّل من تبعية الموارد للجهات الخارجية. كل ذلك يستلزم آليات محاسبة واضحة، تقييم مؤسسي دوري، وشروط تعاقد تضمن عدم تحويل الموارد إلى أدوات هيمنة سياسية.
ثالثًا: تعزيز النقاش الشرعي المواكب ومواجهة الدعاية التكفيرية لا يتمان إلا بتظافر الجهود التعليمية والإعلامية. افتحوا منصات شرعية للنقاش تضمّ علماء مستقلين، فقهاء متنوّعين، وقضاة يعرفون مقاصد الشريعة ويربطونها بمقاصد حفظ النفس والعمران؛ هذه الهيئات تصدر فتاوى وشروحات مبسطة تُترجم للشباب بلغة معاصرة. بالتوازي، أطلقوا برامج تعليم مدني وسياسي في المدارس والمراكز الشبابية — مناهج قصيرة حول إدارة الصراع، حقوق الإنسان، وتكلفة العنف — وحملات إعلامية رقمية تستهدف العودة إلى الحقائق وتفنيد السرديات الدعائية، مع التركيز على سرد قصص ناجحة لإعادة البناء والمصالحة المحلية. الجمع بين شرعية نقدية وممارسات تعليمية عملية يضع بدائل فعّالة أمام خطاب العنف ويُعيد للشباب أدوات التفكير النقدي والمشاركة البنّاءة في مستقبل مجتمعاتهم.

خاتمة
افتتاحية «النبأ» تمثّل رسالة استمرارية في خطاب تنظيمي يحوّل الهزيمة السياسية إلى شرعية للعنف. لكن الردّ عليها لا ينبغي أن يكون بتقليدٍ مماثل للعنف أو بالتبنّي الأعمى لأي تفاوض دولي، بل بتحليل موضوعي ناظم للحياة الإنسانية، يساند خيارات تقلّل من معاناة البشر، وتفتح سبلًا لتمثيل فلسطيني فعّال وشامل قادر على الدفاع عن الحقوق دون تحويل الناس إلى وقود لصراعات أيديولوجية تؤدّي إلى مزيد من المعاناة.

شارك