داعش بعد الخلافة.. من مركزية الدولة إلى شبكة لامركزية عابرة للحدود

الأربعاء 05/نوفمبر/2025 - 11:42 ص
طباعة داعش بعد الخلافة.. محمود البتاكوشي
 
منذ انهيار ما كان يعرف بـ"دولة الخلافة" عام 2019 في العراق وسوريا، دخل تنظيم داعش مرحلة إعادة تشكل عميقة شملت بنيته التنظيمية وأيديولوجيته واستراتيجياته العملياتية، فالتنظيم الذي كان يسيطر في ذروته على مساحة تقارب 88 ألف كيلومتر مربع، فقد سلطته الميدانية والإدارية، وتحول من كيان شبه دولتي إلى شبكة مرنة من الخلايا المنتشرة في آسيا وإفريقيا، تتصل بمركز رمزي في العراق وسوريا دون خضوع إداري مباشر له.
هذا التحول البنيوي لم يكن نهاية التنظيم كما توقعت القوى الدولية، بل بداية طور جديد أكثر مرونة وقدرة على البقاء، فـ"داعش" بعد الخلافة أصبح يعتمد على اللامركزية العملياتية، حيث تتولى كل "ولاية" أو فرع اتخاذ قراراته الميدانية والمالية بما يتناسب مع بيئته المحلية، في إطار ولاء رمزي للقيادة المركزية.
 
تراجع المركز وصعود نموذج الشبكة
بعد سقوط آخر معاقل التنظيم في الباغوز السورية عام 2019، تفككت بنية "داعش" الهرمية التي كانت تفصل بين "المركز" و"الولايات"، وحل محلها نموذج شبكي أكثر مرونة.
تقارير الأمم المتحدة (2023–2024) أكدت أن التنظيم تبنى ما يسمى بـ"اللامركزية العملياتية" لتفادي الاستهداف المباشر وتخفيف الضغط الأمني، وهو ما سمح له بالحفاظ على نشاط فروعه رغم خسارته الإقليمية.
باتت الفروع الإقليمية مثل "خراسان" في أفغانستان، و"ولاية غرب إفريقيا"، و"الصحراء الكبرى"، و"وسط إفريقيا"، تعمل بتمويل وتخطيط ذاتي، هذا الهيكل منح التنظيم القدرة على الانتشار الجغرافي من دون الحاجة إلى قيادة مركزية واضحة، مما جعل من تفكيكه تحديًا معقدًا أمام المجتمع الدولي.
 
المركز الرمزي والعلاقة بالولايات
تظل العراق وسوريا تمثلان المرجعية الشرعية والرمزية للتنظيم، لكن السيطرة المركزية على "الولايات" باتت محدودة للغاية، العلاقة بين الطرفين تحولت إلى نظام تفويض أكثر من كونها قيادة مباشرة، بحيث تلتزم الفروع بالإطار العقائدي العام بينما تضع خططها العسكرية والتمويلية بشكل مستقل.
في إفريقيا، أقامت فروع التنظيم تحالفات محلية مع زعماء قبائل وشبكات تهريب، مستفيدة من هشاشة الدولة وغياب التنمية، أما ولاية خراسان، فقد تطورت إلى كيان مستقل ينافس المركز على الزعامة الرمزية، إذ تتبنى نهجًا عدائيًا ضد حركة طالبان وتنفذ هجمات عابرة للحدود، مثل تفجير مطار كابول (2021) وهجوم موسكو (2024).
 
تحول القيادة والغموض المقصود
منذ مقتل أبو بكر البغدادي عام 2019، خسر التنظيم ثلاثة من زعمائه المتعاقبين في أقل من أربع سنوات، ما عمق نزعة السرية داخل هيكله. الزعيم الحالي، المعروف باسم "أبو حفص الهاشمي القرشي"، يظل مجهول الهوية والموقع، في إطار استراتيجية تهدف لتجنب الاختراق الأمني.
أشارت تقارير أممية (فبراير 2025) إلى أن القيادة الفعلية ربما باتت في يد عبد القادر مؤمن، قائد فرع الصومال، الذي يترأس ما يعرف بـ"المديرية العامة للولايات"؛ ما يعكس تحول مركز الثقل نحو إفريقيا.
 
تمويل شبكي متنوع
بعد خسارة منظومة الضرائب والجبايات، أعاد التنظيم بناء موارده عبر قنوات مالية غير رسمية.
 تشير تقارير الخزانة الأمريكية (2023) إلى أن احتياطات التنظيم تتراوح بين 25 و50 مليون دولار موزعة بين وسطاء في العراق وتركيا وآسيا الوسطى.
 تتنوع مصادر التمويل بين العملات الرقمية، وعمليات الابتزاز والفدية، وتهريب الذهب والنفط والمخدرات في إفريقيا وسوريا، إضافة إلى دعم محدود من متعاطفين عبر الإنترنت.
 هذا التنوع المالي عزز استقلالية الفروع وأضعف الروابط الإدارية مع المركز، مما جعل "داعش" أقرب إلى شبكة تمويل لا مركزية من تنظيم هرمي.
 
التجنيد والدعاية في عصر ما بعد الخلافة
تبدلت سردية "داعش" الدعائية من حلم إقامة دولة إلى خطاب الثأر والانتقام.
بات التنظيم يركز على الفئات المهمشة والمهاجرين في أوروبا وآسيا الوسطى، ويستخدم تطبيقات مشفرة مثل Telegram وRocket.Chat لتجنيد عناصره.
 في إفريقيا، يعتمد التجنيد على الحوافز الاقتصادية والاجتماعية أكثر من الدافع العقائدي، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من المنضمين الجدد التحقوا لأسباب معيشية لا أيديولوجية.
 كما يوظف التنظيم تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى دعائي، مما يرفع من صعوبة ملاحقته رقميًا.
 
من مركزية القرار إلى “العلامة الجهادية”
رغم محاولات التنظيم إحياء مركزية القرار عبر بيانات موحدة وبيعات رمزية، فإن دوره الفعلي أصبح محدودًا.
 تشير دراسات إلى أن أقل من 15% من العمليات تدار مباشرة من المركز، فيما تتم البقية بتخطيط ذاتي من الفروع.
 بهذا المعنى، تحول “داعش” من تنظيم مركزي إلى علامة جهادية عالمية، تستخدمها جماعات محلية للحصول على الشرعية والدعاية دون التزام صارم بالقيادة أو العقيدة الأصلية.
 
قراءة مستقبلية.. شبكة متكيفة في عالم مضطرب
تحول “داعش” من دولة مركزية إلى شبكة متعددة الأقطاب يمثل تحديًا أمنيًا غير تقليدي.
 فقد تراجعت قدرته على تنفيذ هجمات معقدة مثل باريس (2015)، لكنه أصبح أكثر خطورة من حيث الانتشار والقدرة على التكيف.
 في الشرق الأوسط، تواصل خلاياه النشطة في البادية السورية والعراقية تهديدها للأمن الإقليمي.
 أما في إفريقيا، فقد تحول الساحل وشرق القارة إلى المسرح البديل للجهاد العالمي، مستفيدًا من انسحاب القوات الغربية والتنافس الدولي على النفوذ.
 وفي أوروبا، يبرز خطر الهجمات الفردية والإلهام الرقمي، ما يدفع الأجهزة الأمنية إلى تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لرصد التطرف على المنصات المغلقة.
 ومما لا شك فيه أنه لم يعد تنظيم داعش كيانًا مركزيًا يسهل إسقاطه، بل شبكة مرنة تعيد إنتاج نفسها في بيئات مضطربة.
 فقد انتقل من الدولة إلى الفكرة، ومن القيادة إلى العلامة، معتمدًا على مزيج من التفويض اللامركزي والتمدد الشبكي.
 مواجهته اليوم لا تتطلب فقط العمل العسكري، بل مقاربة شاملة تدمج بين الأمن، والتنمية، وتجفيف التمويل الرقمي، ومكافحة الفكر المتطرف.
 فـ“داعش” لم ينته، بل تغير شكله، مبرهنًا أن خطر الإرهاب لم يعد مرتبطًا بالأرض، بل بالشبكات والأفكار التي لا تعرف حدودًا.

شارك