التنظيمات المتشددة بين البنجاب ووزيرستان.. خريطة جديدة تُقلق باكستان

الإثنين 17/نوفمبر/2025 - 09:00 م
طباعة محمد شعت
 
أعادت الحكومة الباكستانية فتح ملف الجماعات المسلحة في البلاد بعدما خرجت وزارة الإعلام والإذاعة ببيان رسمي نفت فيه ما وصفتها بـ«المزاعم المضللة» التي نشرها المبعوث الأمريكي السابق إلى أفغانستان زلماي خليل زاد، بشأن مقتل قائد بارز في تنظيم «داعش خراسان» داخل إقليم البنجاب. وقالت الوزارة إن الحديث عن مقتل شخص يُدعى برهان، المعروف أيضًا باسم زيد، بصفته قياديًا في التنظيم، هو ادعاء لا يستند إلى أي دليل، مؤكدة أن الحادثة التي استند إليها خليل زاد وقعت بالفعل في مدينة حبيب آباد بمحافظة كاسور في الخامس من مارس، لكنها تنتمي إلى إطار جنائي بحت، ولا علاقة لها بالإرهاب أو بالتنظيمات المسلحة. وقد استندت الوزارة في توضيحها إلى تقرير المعلومات الأول المسجّل لدى الشرطة في اليوم التالي، والذي أثبت طبيعة النزاع وشخصياته ودوافعه دون أن يرد فيه أي رابط بين القتيل وبين جماعات متشددة.

وأكدت الوزارة أن إقليم البنجاب، وفق تقييمات أمنية معتمدة، لا يشهد أي وجود فعلي لتنظيم داعش خراسان، سواء على مستوى الخلايا النشطة أو الأفراد المرتبطين تنظيميًا. وأضاف البيان أن نشر خليل زاد لمثل هذه الادعاءات يسهم في «تحويل حادثة جنائية إلى قضية إرهاب»، بما يؤدي إلى خلق انطباعات خاطئة عن الوضع الأمني في البلاد، ويمنح الجماعات المتشددة مساحة في الخطاب الإعلامي رغم عدم امتلاكها أرضية فعلية داخل الإقليم.

ويأتي هذا النفي في وقت تخوض فيه باكستان صراعًا مستمرًا مع موجات عنف متقلبة، تتراوح بين العمليات الانفصالية في إقليم بلوشستان والهجمات التي تنفذها حركة طالبان الباكستانية، إضافة إلى نشاط محدود ولكن قائم لتنظيم داعش خراسان في بعض المناطق الحدودية. ومن هنا، اعتبرت السلطات أن أي تلميح إلى توسع نشاط «داعش» داخل البنجاب — أكثر الأقاليم كثافة سكانية واستقرارًا — يحمل أبعادًا سياسية وإعلامية تتجاوز دقة المعلومات، وربما يؤثر على صورة الدولة في الخارج، وعلى جهودها لإظهار سيطرتها الأمنية.

حجم وجود داعش والحركات المتشددة

ورغم النفي الباكستاني القاطع لوجود داعش خراسان في البنجاب، فإن التنظيم يظل جزءًا من المشهد الأمني الأوسع في البلاد، خصوصًا في المناطق القبلية المتاخمة للحدود الأفغانية. فمنذ ظهوره في عام 2015، شهد التنظيم تمددًا متفاوتًا، مُستمدًّا من الانهيارات التي لحقت بفروع داعش خارج الشرق الأوسط، ومستفيدًا من هشاشة البيئة الحدودية وأوضاع المخيمات والمواقع الجبلية التي قد تشكّل بيئة مناسبة لنشاطه. ومع ذلك، لم ينجح التنظيم في بناء وجود واسع داخل باكستان، إذ اقتصر نشاطه على مناطق محدودة ونفّذ عمليات متقطعة استهدفت بالأساس قوات الأمن.

وعلى الرغم من محدودية الحجم، فإن داعش خراسان تمكّن خلال السنوات الماضية من تنفيذ عمليات نوعية في العاصمة إسلام آباد. فقد أعلنت السلطات في يناير 2023 — كإحدى أبرز الأمثلة — إحباط مخطط لتنفيذ هجوم انتحاري بعد مطاردة سيارة مفخخة قُتل سائقها بعد انفجار العبوة داخل المركبة، وأشارت التحقيقات لاحقًا إلى ارتباطه بعناصر متأثرة بالتنظيم. كما وقعت حوادث تفجير صغيرة وإطلاق نار في محيط العاصمة، وجرت الإشارة في بعضها إلى صلة بفكر داعش خراسان أو بعناصر حاولت استلهام أدبياته من دون أن تكون جزءًا من شبكة تنظيمية مكتملة. وقد أثارت هذه الحوادث مخاوف من إمكانية عودة النشاط المتشدد داخل العاصمة، خصوصًا أن التنظيم كان يسعى دائمًا إلى استخدام رمزية إسلام آباد لتأكيد حضوره إعلاميًا، حتى وإن كان وجوده على الأرض ضعيفًا نسبيًا.

وتعتبر باكستان أن داعش خراسان — بوضعه الحالي — يشكل تهديدًا «تكميليًا» إلى جانب تهديدات أكثر رسوخًا في الداخل، وفي مقدمتها حركة طالبان الباكستانية (TTP) التي تقود الهجمات الأكثر دموية واتساعًا. وقد شهدت الحركة تصاعدًا ملحوظًا في نشاطها بعد تغيير التوازنات الإقليمية عقب سيطرة طالبان الأفغانية على كابول في أغسطس 2021، ما وفّر لها بيئة أكثر مرونة على الحدود. وترى الأجهزة الأمنية أن الجزء الأكبر من الهجمات الكبيرة التي شهدتها البلاد خلال العامين الماضيين يحمل بصمات طالبان الباكستانية، بما في ذلك الكمائن ضد قوافل الجيش، والهجمات على مراكز الشرطة، والتفجيرات الانتحارية التي تستهدف تجمعات أمنية.

وفي موازاة ذلك، يستمر التمرد البلوشي كأحد أخطر الملفات الأمنية في باكستان، مع تصاعد عمليات جماعات مثل «جيش تحرير بلوشستان»، التي نفذت هجمات معقدة شملت استهداف بنى تحتية ومشاريع اقتصادية، واختطاف مواطنين، وتعطيل قطارات وطرق رئيسية، وهو ما دفع السلطات إلى تعزيز وجودها الأمني بقوة في جنوب غربي البلاد. وتمثل هذه الجماعات تحديًا مختلفًا عن التيارات الجهادية، إذ يرتبط نشاطها بجذور سياسية وتاريخية وقومية، ما يضيف طبقات جديدة من التعقيد إلى المشهد الأمني.

ولا يقتصر التهديد في باكستان على الجماعات الراسخة فحسب، فقد شهدت البلاد في السنوات الأخيرة ظهور تشكيلات صغيرة تحمل قناعات دينية متشددة، وتسعى إلى محاكاة خطاب الجهاد العالمي من دون امتلاك بنية تنظيمية واضحة. وفي حين تبدو هذه المجموعات ضعيفة من حيث القوة العسكرية، إلا أنها تشكّل خطرًا مستمرًا بسبب سهولة تحريكها عبر الإنترنت، وقابليتها لتنفيذ هجمات فردية يصعب التنبؤ بها أو منعها تمامًا.

ومع هذا المشهد المركّب، تواصل الحكومة الباكستانية تنفيذ سياسة أمنية متعددة المسارات تهدف إلى كبح تصاعد العمليات المسلحة. وتشمل هذه السياسة تكثيف العمليات الاستخباراتية، وتوسيع الحملات العسكرية في بعض المناطق القبلية، إلى جانب إجراءات موازية تستهدف تضييق الخناق على الدعاية الرقمية للجماعات المسلحة عبر التنسيق مع المنصات العالمية لإغلاق الحسابات المرتبطة بها. وترى السلطات أن معركة المواجهة لم تعد تقتصر على الميدان الأمني فقط، بل تمتد إلى الفضاء الإلكتروني الذي بات محورًا رئيسيًا في تجنيد الشباب ونشر الخطاب المتطرف.

رفع مستوى التعاون الأمني

وفي السياق ذاته، شملت الإجراءات الحكومية رفع مستوى التعاون الأمني بين الأقاليم المختلفة، وتطوير آليات تبادل المعلومات بين الشرطة والاستخبارات، وتعزيز نقاط التفتيش على الطرق الممتدة بين كابول وإسلام آباد، إضافة إلى تحديث إجراءات تتبع حركة الأموال لمنع تمويل الجماعات المسلحة. كما أن المؤسسة العسكرية كثفت عملياتها في مناطق مثل شمال وزيرستان وجنوب وزيرستان، حيث يُعتقد أن خلايا طالبان الباكستانية وبعض العناصر المتأثرة بداعش خراسان تنشط بين الحين والآخر.

ورغم ذلك، تواجه الحكومة انتقادات داخلية بشأن قدرة هذه الإجراءات على إحداث تغيير جذري في المدى المنظور، خاصة مع استمرار الهجمات المتقطعة وتصاعد التوتر على الحدود الأفغانية. وترى بعض التحليلات أن معالجة الأسباب العميقة للعنف — بما في ذلك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والفجوات الأمنية في المناطق الهشة — تمثل أولوية لا يمكن تجاهلها، إذ تستغل الجماعات المتشددة هذه البيئة لتجنيد الأفراد وتوسيع نفوذها.
مواجهة الروايات المغلوطة دوليا
أما على المستوى الدولي، فتسعى باكستان إلى الحد من أي روايات قد توحي بضعف سيطرتها الأمنية أو بوجود تمدد لتنظيمات مثل داعش خراسان في مناطق جديدة. ولذلك جاء نفي مزاعم خليل زاد سريعًا وقاطعًا، في محاولة لتأكيد أن الدولة قادرة على ضبط المشهد الداخلي، وأن أي ربط بين قضايا جنائية وبين الجماعات المسلحة قد يسيء إلى الوضع الأمني، ويؤثر على ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين.

وبينما تتعامل باكستان مع هذه التحديات المتشابكة، يبقى المشهد الأمني رهينًا بالتوازنات الإقليمية والتحولات داخل أفغانستان. فكلما زاد التوتر أو الفراغ الأمني عبر الحدود، ارتفعت احتمالات انتقاله إلى الداخل الباكستاني. ومع ذلك، تمنح الحكومة أولوية لإظهار أن خطر داعش خراسان، على أهميته، لا يستدعي تضخيمًا أو ربطه بأحداث لا تمتّ إليه بصلة، كما حدث في قضية كاسور التي فجرت الجدل الأخير.

و يبدو أن معركة باكستان مع الإرهاب تتجاوز حدود تنظيم واحد أو جماعة بعينها، بل تشمل شبكة واسعة من التهديدات ذات الخلفيات المتباينة والأهداف المختلفة. وبينما تحاول السلطات تفكيك هذه الشبكة عبر أدوات أمنية وإعلامية وتشريعية، يبقى التحدي الأكبر هو منع تحوّل القضايا الداخلية الصغيرة إلى روايات دولية كبرى قد تعطي صورة غير دقيقة عن حقيقة الأوضاع، وتفتح الباب أمام قراءات خاطئة للتوازنات داخل البلاد. ومن هذا المنطلق، جاء الرد الرسمي على مزاعم خليل زاد كخطوة في اتجاه رسم حدود واضحة بين الوقائع الجنائية وبين الملفات الأمنية الحساسة، ومحاولة لإبقاء النقاش حول الإرهاب ضمن سياقه الواقعي بعيدًا عن التهويل أو التسييس.

شارك