أخطاء قاتلة في رؤية «كيسنجر» عن حرب «داعش» و«إيران»

الأحد 27/أغسطس/2017 - 10:28 م
طباعة أخطاء قاتلة في رؤية
 
أخطاء قاتلة في رؤية
نشر معهد "جيت ستون" الأمريكي مقالًا تحليليًا بعنوان "ثغرات تحليل كيسنجر للأوضاع في الشرق الأوسط"، للكاتب أمير طاهري، رئيس التحرير السابق لصحيفة "كيهان" الإيرانية، قبل الثورة الإيرانية عام 1979، ورئيس معهد "جيت ستون" بأوروبا، علق فيه وفند مقال هنري كيسنجر الأخير، وزير الخارجية الأسبق، والمحاضر بجامعة هارفارد، والذي حمل عنوان "الفوضى والنظام في عالم متحول".

يقول أمير طاهري إنه مهما اختلفنا أو اتفقنا على آراء هنري كيسنجر ورؤيته للعالم، وإسهاماته في النقاش الدولي خلال العقود الستة الماضية، دعونا نتفق أن هذا السياسي المحنك لديه مصفوفة خاصة جدًا، وترمومتر حساس لقياس الصواب والخطأ من عالم السياسة.

هذه المصفوفة هي "ميزان القوى"، وهو مفهوم أوروبي تطور خلال العصور الوسطى لما يعرف تاريخيًا بـ"صلح وستفاليا"، هو اسم عام يطلق على معاهدتي السلام اللتين دارت المفاوضات بشأنهما في مدينتي أسنابروك ومونستر في وستفاليا وتم التوقيع عليهما في 15 مايو 1648 و24 أكتوبر 1648، وكتبتا باللغة الفرنسية، لتنهي هذه المعاهدات حرب الثلاثين عامًا في الإمبراطورية الرومانية المقدسة - معظم الأراضي في ألمانيا اليوم- وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة – والتي أصبحت اليوم جزء من فرنسا وبلجيكا والنمسا- وبموجب هذا الصلح تم تنظيم العلاقات بين الدول الناشئة في أوروبا. 

المغزى هنا أن "كيسنجر" ذلك "السياسي صاحب الخدعة الواحدة" إذا أردت القول، يمتلك القدرة بعمل موقف سياسي واحد، ليحقق بها عدة أهداف بضربة حجر واحد، مراقبة تحركات "كيسنجر" الدولية تثير إعجاب مراقبيه في قدرته على تعزيز السياسة الخارجية كوسيلة لتحقيق الاستقرار في الوضع المفروض سياسيًا، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية - ناهيك عن أيديولوجيته، وهو دائمًا ما يرى أن الهدف من "سياسة الواقع" هو تجميد الوضع بدلًا من محاولة تغييره، وهو أمر محفوف بالمخاطر الخطيرة.

إن منظور "كيسنجر" في المعاهدات الجديدة للعلاقات الدولية أفسحت مجالًا جديدًا لإحداث فراغ استطاع من خلاله إلى إطالة أمد وجود الاتحاد السوفييتي لعقود من الزمن، وقد جمدت دبلوماسيته المكوكية الوضع القائم بعد 1967 في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإرجاء تسوية حقيقية لكثير من العقود.
ويرى الكاتب أن كيسنجر يحاول تطبيق وعمل نفس المقاربة في التعامل مع تنظيم داعش الإرهابي، حيث يحذر كيسنجر من أن تدمير داعش قد يؤدي إلى ظهور "إمبراطورية راديكالية إيرانية".

وبعبارة أخرى، يرى ثعلب السياسة الأمريكية – في آخر إسهاماته - بترك داعش دون المساس به، رغم ما يشكله من تهديد واضح لقطاعات كبيرة في الشرق الأوسط وأوروبا، وذلك بدلًا من رؤية "إمبراطورية إيرانية راديكالية" تحل محله في المنطقة.

جاءت آراء "كيسنجر من خلال مقاله الذي نُشر بصحيفة "كاب أكس، CapX"  تحت عنوان "فوضى ونظام في عالم متحول"، مطلع شهر أغسطس الجاري 2017، والتي استلهمت منه صحيفة "الإندبندنت "  البريطانية عنوانًا مثيرًا للجدل وغامضًا في نفس الوقت: "هنري كيسنجر يحذّر من مغبة تدمير "داعش" في قيام الإمبراطورية الراديكالية الإيرانية"، والذي أكد فيه أنه "بمجرد هزيمة داعش، وإذا احتلت إيران المناطق المستعادة، فإن النتيجة يمكن أن تؤدي إلى ظهور إمبراطورية جديدة"!

وتساءل كيسنجر عن هوية الكيان الذي يفترض به أن يرث الأراضي المحررة من سيطرة التنظيم، الائتلافات السنية؟ أم الكيانات الشيعية وإيران؟، خاصة أن معظم القوى، بما في ذلك إيران الشيعية والجماعات السنية، تتفق على ضرورة تدميره.

وافترض ثعلب السياسة الأمريكية أن النتيجة يمكن أن تكون حزامًا إقليميًا يمتد من طهران إلى بيروت، مما يمكِّن ظهور إمبراطورية راديكالية إيرانية "!.

وينتقد أمير طاهري، في مقاله مقاربات "كيسنجر" قائلًا: " كعادته يحاول تجديد واستخدام مفاهيم أوروبا في القرون الوسطى، وإعادة صياغتها ومقاربتها للواقع السياسي؛ لتحليل الحالات في أجزاء أخرى من العالم".

ونستطيع أن نرصد هذه المشاكل منذ البداية، حيث يعتقد "كيسنجر" أن النظام الخميني في طهران وما يسمى بـ "الخلافة" في الرقة ينتميان إلى فئتين مختلفتين، غير أن الحقيقة هي أنهما نسختان من نفس الواقع القبيح، يتبادلان نفس الأيديولوجية، ويستخدمان نفس الأساليب، ويساعدان على منح الشرعية لبعضهما البعض.

وبدوره يتساءل "طاهري" عن الفرق الذي يراه "كيسنجر" بين آية الله علي خامنئي، وبين أبو بكر البغدادي؟ ويرد هو موضحًا أن الاثنين لا يختلفان عن بعضهما فالأول في المطالبة بـ"القيادة العليا لجميع المسلمين في جميع أنحاء العالم" ولكن "خامنئي" يطلق عليها "إمامة"، و"البغدادي" يسميها "الخلافة"، كما أن النظامين يدعيان أنهما النسخة الحقيقية الوحيدة للإسلام مع مهمة غزو العالم بأسره، مضيفًا أن داعش ونظام الخميني يتغذيان على بعضهما البعض.

ويرى "الطاهري" أن الخطأ الثاني لـ"كيسنجر" الاعتقاد بعدم إمكانية محاربة نسختين من الشر دون تفضيل، كل ما هنالك أنك ستضطر إلى مجابهة الجبهتان في فترات زمنية منفصلة، وبمجرد القضاء على الشر الأول "داعش، فإن هزيمة الثانية "إيران" يمكن أن يبدأ في شكل الحرب الباردة.

ويفند المقال الخطأ الثالث لكيسنجر في نسيان مساهمة إدارة أوباما في تقوية نظام الخميني، ولا يعني السماح له بالبقاء على قيد الحياة، حيث أراد أوباما الإجهاز عليه من خلال انتفاضة شعبية، كما تم سحق الملالي خلال الانتفاضة الشعبية في إيران عام 2009، ثم هرع إليه لإعطائه الشرعية من خلال إشراكهم في ممر دبلوماسي، المساعدة الكفيلة بأن توقعه في "تجويع نقدي" من خلال أسوأ عواقب اقتصادية، ليفشل الخميني بعد ما يقرب من أربعة عقود، في بناء مؤسسات دولته، 
وخلافا لما يراه كيسنجر فإن الاختيار ليس بين مساعدة النظام الخميني، أو شن حرب شاملة ضده، وإنما هو عدم مساعدته اقتصاديًا.
أخطاء قاتلة في رؤية
إن خطأ كيسنجر التالي، الذي يتقاسمه مع العديد من المحللين في جميع أنحاء العالم، هو المبالغة في تقدير مدى صلابة وقوة النظام الحالي في طهران، فكل ما هنالك أن النظام الخميني لديه القدرة الكافية ليتسبب في قدر كبير من المتاعب في المنطقة، وهو يفعل ذلك، ولكن هذا لا يعني أنه قادر على بناء إمبراطورية، الأمر الذي يتطلب قاعدة إقليمية قوية، وهو ما يفتقر إليه النظام الحالي أكثر من أي وقت مضى.

ودلل كاتب المقال على صعوبة بناء القاعدة الإقليمية من خلال مواجهة نظام الخميني صعوبة في تجنيد الإيرانيين لالتحاق بالجيش، والدخول في حرب أجنبية، ولذلك يلجأ النظام الحالي إلى توظيف مقاتلين أجانب أشبه بالمرتزقة من لبنان وأفغانستان وباكستان، يحملون جوازات سفر أوروبية. ومع استمرار أزمة النقد الأجنبي بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة والحلفاء، فإن الخميني سيكون من الصعب عليه دفع الرواتب، ناهيك عن تمويل مشاريع بناء الإمبراطورية.

وأخيرا، فإن أكبر خطأ في مقال "كيسنجر" هو الافتراض بأن الخيار الوحيد الذي قد يختاره الشرق الأوسط، على الأقل في سوريا والعراق، هو ما بين "الخلافة" في الرقة أو "الإمامة" في طهران، مضيفًا: "إن أي شخص على دراية بالوضع على الأرض سيعرف أن لا الخلافة ولا الإمامة ليسا بالحل على الإطلاق، فالغالبية الساحقة من السوريين، بمن فيهم أتباع بشار الأسد، لا يعتزمون بالخضوع تحت وصاية طهران، بل سينظرون إلى خيارات أخرى، كذلك نفس الأمر بالنسبة للعراق، حتى مع وجود شخصيات على الساحة مثل نوري المالكي، فهم يدركون صعوبة تسويق الهيمنة الإيرانية كحل في المستقبل، هذا هو السبب في أن رئيس الوزراء السابق يحاول الآن مخاطبة "ود" روسيا.

واستبعد الكاتب أن تتحول الخلافة في الرقة لدولة "إمامة" تابعة لطهران، فهي لن يكون بمقدورها توفير الاستقرار الذي تحتاجه المنطقة، والذي يعتبره كيسنجر الهدف النهائي للسياسة الخارجية، ولذلك فإن السياسة الواقعية الوحيدة التي تستحق النظر فيها هو الترتيب لما قد يحدث.

ويختتم الكاتب مقالته قائلًا: "إن الفوضى الخلاقة التي سوقتها إدارة جورج دبليو بوش، ولّدت أخطارًا أدت بدورها إلى إيجاد فرص جديدة ممكن أن تدحض تحليل كيسنجر في تحقيق توازن للقوى بعيد المنال في المنطقة".

شارك