انتحار الإخوان.."حتمية" تاريخية وموضوعية
السبت 11/مايو/2019 - 01:30 م
طباعة
اسم الكتاب: انتحار الإخوان
المؤلف: دكتور عمار علي حسن
دار النشر: نهضة مصر
كان الاعتقاد السائد لدى الكثيرين أن جماعة الإخوان المسلمين متماسكة وقوية خاصة أن أعضاءها على قلب رجل واحد في كل مواقفهم وأفعالهم، لا سيما أن الجماعة لها ظهير دولي يدعمها ويعضد من أزر أعضائها، ولكنَ بعد ما ظهر في السنوات الثلاث الأخيرة بدا جليا أن الجماعة أكثر هشاشة مما قد تبدو عليه، وأن هذه الصلابة التي يظهرون بها، ما هي إلا قشرة تخفي خلفها تصدعات وشقوق أصابت قلب التنظيم، دون أن يلاحظها الإخوان المسلمون أنفسهم. قراءة المشهد السطحي للجماعة تقول "إن نهايتها سطرها الشعب المصري في 30 يونيه 2013، وجف عنها القلم بعد أن أدرجتها الحكومة المصرية ضمن المنظمات الإرهابية"، غير أن الواقع يقول إن هذا التاريخ هو بداية النهاية في مسيرة جماعة الإخوان، لأن ما تلى 30 يونيو من أحداث يمثل استكمالاً لاحتضارها، الذي لفظت فيه الجماعة أنفاسها الأخيرة، لتموت "إكلينيكيا" على أرض الواقع السياسي.
الجماعة التي يمتد عمرها إلى ثمانين عاما، ظهرت علينا وانضمت إلى ركب ثورة 25 يناير، وقفزت عليها في وقاحة بلغت بها أن نسبت الثورة إلى نفسها، فكان سقوطها في 30 يونيو مدويا وأسرع من سقوط دولة مبارك في 25 يناير، الأمر الذي يجعلنا نتوقف لنطرح التساؤلات: هل ماهية الجماعة الفكرية والأيدولوجية بهذه الهشاشة لتسقط في أقل من عامين؟!!، هل التنظيم متصدع فلم يتحمل أن يمارس السياسة سوى لعامين فقط، أم هي العوامل المحيطة التي أدت لانهيار شعبية الجماعة والخروج عليها بعد عام واحد فقط من حكم مرسي لمصر؟!
إذن فالانهيار لم يكن نتاج اليوم أو أمس، كما أنه لا يعود إلى الأعوام الثلاثة التي تلت ثورة 25 يناير، بل هي تصدعات أصابت التنظيم منذ أن أسسه حسن البنا ،وتراكمت يوما بعد يوم، حتى بات من الصعب رأبها، والجماعة لم تدرك مخاطر الشقوق التي تراكمت ولحقت ببنائها، والتي أحدثتها لوائح وسياسات التنظيم ومرشديها مع مرور الزمن، لتتهاوى تلك التصدعات بالتزامن مع بداية تقنين التنظيم ككيان اعترفت به الدولة في عام 2011، ويكون الانهيار الكامل مع مرور عام فقط من وصول الجماعة المتمثلة في محمد مرسي ومن وراءه مكتب الإرشاد إلى سدة الحكم، الوصول الذي لم يخطر ببال الجماعة فلم تحسب حسابه، ولم تهيأ نفسها لتكون على مستوى تبعاته واستحقاقاته .
هذا ما يفنده الدكتور عمار علي حسن، الباحث في شئون جماعات الإسلام السياسي، في كتابه "انتحار الإخوان"، والذي صدر عن دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الكتاب من الحجم المتوسط، ويقع في 260 صفحة، يحاول خلالها الباحث تفنيد سبب السقوط الشعبي والسياسي لجماعة الإخوان المسلمين، والرد على أسئلة إن كان السقوط له أسباب تراكمية متعلقة بالسياسة الداخلية للتنظيم، وأيدولوجيته الفكرية؟! أم أن هناك عوامل أخرى كانت وراء ذلك السقوط المدوي؟!
أولا: تصدعات وشقوق داخلية:
1. العائلة البيولوجية الأيدولوجية
يبدأ عمار في الفصل الأول بتحليل الواقع البيولوجي للجماعة، والتي حولت توجهها الأيديولوجي إلى واقع بيولوجي مع مرور الوقت، وذلك من خلال القاعدة الإخوانية التي تلزم كل عضو بأن يتزوج من إخوانية من داخل الجماعة، ليتداخل لديها السياسي بالطبيعي، واستخدم كل منهما في خدمة الآخر، وَفْقَ ظاهرة نادرة في التاريخ الإنساني، فيقول عمار: "تزاوج أفراد الأسرة المالكة في البلد الواحد أو نظيراتها عبر الأقطار – هو مسألة حدثت بقوة في التاريخ من منطلق البحث عن سند وعزوة وتعزيز للجاه والنفوذ والثروات، لكن أن تقوم شريحة سياسية واجتماعية في بلد واحد بتضييق الزواج من خارجها وفرضه من داخلها، ليس بحثاً عما تعتقد أو تتوهم أنه الأفضل تربويًّا فحسب، إنما لدعم المشروع السياسي وتبديد الهواجس الأمنية، لذا نجد أن تأثير هذه العلاقة على توليهم المناصب مضاعف ومغلظ قياسًا إلى غيرهم، لا سيما بعد انحيازهم إلى "أصحاب الثقة" من بين "الأهل والعشيرة" على حساب "أهل الخبرة" اعتقادا منهم أنه وسيلة للتمكين من ناحية، ولهاجس الخوف من الآخر الذي قد يختلف معهم فكريًّا أو سياسيًّا من ناحية أخرى، لهذا نجد مصطلح "الأسرة الإخوانية" قائماً كمرحلة من تنظيم الجماعة الإداري أو هيكلها السياسي جنباً إلى جنب مع "الوحدة الاجتماعية"، التي ينتظم فيها أب إخواني وأم إخوانية مع أولادهما. وكل منهما يتداخل مع الآخر في كثير من المفاصل، والأسرة أو "الخلية" هي اللبنة الأولى والأساسية في التنظيم، وتأتي بعدها "الشُّعبة" ثم "المنطقة" فـ "المكتب الإداري" و"مجلس الشورى العام" وبعده "مكتب الإرشاد" ثم "المرشد"، لتتكون الأسرة من خمسة إلى سبعة أفراد، يقف على رأسهم واحد منهم يلقب بـ "النقيب"، يقود اجتماعاً أسبوعياً لمن هم دونه في الترتيب من أفراد الاسرة، ومن هنا يتخالط لدى الإخوان مدرستان من ضمن مدارس أو نظريات علمية عدة في تفسير سيكولوجية الجماعات، وهما "الحتمية البيولوجية" و"الحتمية الثقافية.
كما حرصت الجماعة على "تنميط" أعضائها، بما يجعلهم وكأنهم في نظرتهم إلى الذات والمجتمع، شخص واحد مكرر مئات الآلاف، وذلك عبر مناهج تعليمية داخلية مناسبة لمستويات ما بين محب ومؤيد ومنتسب وعامل ولمختلف الأعمار، يتم تدرسيها بانتظام، كما تحرص على دمج العضو العامل بها في "الأسرة الإخوانية الممتدة" من خلال علاقة المصاهرة تارة ومصادر كسب الرزق تارة أخرى، علاوة على برامج التثقيف الأحادية التي تستقر في ذهنه وتربطه أكثر، معرفياً، ووجدانيا، بـ"إخوانه"، ولهذا تحمل مكاتب الجماعة في مختلف أنحاء البلاد قوائم بشباب وفتيات من المقبلين على سن الزواج، وترشح بعضهم لبعضهن، من منطلق إدراكها أن الأفضل أن يتزوج الإخواني إخوانية، حرصاً على اسرار التنظيم، وعلى جلد الزوجة حين يغادرها زوجها إلى السجن، ويترك لها مسئولية تربية الأولاد، وحفظ عرضه، ورد غيبته، وإن لم يكن له مصدر رزق ثابت فالجماعة تتكفل بأسرته تلك.
وكثر من الأعضاء الذين فكروا في الإقدام على الخروج عن الجماعة استخدمت أسرهم في الضغط عليهم، الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، والأم والأب على الأبناء وهكذا. وقد افلحت هذه الطريقة في إجبار البعض على أن يستمر ضمن صفوف الجماعة.
هذا النمط الاجتماعي والإداري كان من العوامل المهمة التي ساعدت على استمرار "تنظيم الإخوان" متماسكاً قويا، وقللت من قدرة منافسيه أو أجهزة الأمن على اختراقه، لكنه في الوقت نفسه يحمل بذور تصدع التنظيم وضعفه؛ لأنه يقوم على أمرين متناقضين هما "العبودية الطوعية" و"الإكراه المادي والمعنوي"، فهناك من يعبد "التنظيم" أو يطيعه بشكل أعمال، وهناك من ملأ قلبه التذمر لكنه لا يستطيع أن يجهر بما يعتمل في صدره، خوفاً من أن تستخدم "العائلة الاجتماعية والأيديولوجية" في الضغط عليه ومواجهته ولو بشكل سافر".
2. موت خيال الجماعة وتوحش رأسمالية الإخوان:
يرى عمار أن أحد الأسباب المهمة في تصدع الجماعة هو جمود فكر الإخوان وموت الخيال لديها، وعدم إفراز الجماعة لمفكرين إسلاميين، أو مبدعين أو حتى أدباء، بل على العكس اتخذوا من مؤلفات سيد قطب قرآنا إلى جانب القرآن الكريم وجعلوه مرجعية فكرية لهم، وفي كتابه "انتحار الإخوان" يحاول أن يجيب على أسباب افتقاد الجماعة للخيال أو القدرة على إنتاج الأفكار العميقة المتماسكة، ويرد قائلا: "تعد جماعة الإخوان فقيرة جداًّ في ملكة التخيل؛ فهي لم تقدم للحياة على مدى تاريخها مفكراً بارعاً أو أديباً مبهراً، بل إنها دوماً كانت طاردة لأمثال هؤلاء، فهم إن التحقوا بها في شبابهم الغض معتقدين أنها لن تقف أمام طاقتهم الإبداعية وقدراتهم الفردية، سرعان ما يهجرونها حين يجدون أنهم أمام جدار أصم يقف أمام خيالهم وإبداعهم، ورغبتهم في أن يفكروا خارج القوالب الجاهزة والصناديق المغلقة التي كتب على جبهتها العلوية: "السمع والطاعة".
ولا يمكن لمن عليه أن يسمع ويطيع، ولا يعمل عقله – بدعوى أن قادة الجماعة يعرفون أكثر، أو أنهم أعلى إخلاصاً للمصلحة العليا، أو أن الله يلهمهم صواب الرأي وسلامة الاتجاه – أن يأتي بأفكار مغايرة. وبمرور الزمن، يتم الاتكال على الغير، فتتراخى القدرة على التفكير، بل تضمر الملكات العقلية المبدعة لقلة استعمالها، أو لعدم التعويل عليها وشحذها باستمرار، وفق قانون "التحدي والاستجابة، وحتى لو وجد من بين الإخوان من يمتلك قدرة على إنتاج الأفكار سرعان ما يتم إشغاله بشئون التنظيم فتتراخى هذه القدرات لديه بمرور الزمن".ص144
يبرهن عمار على صحة استنتاجه من خلو الجماعة من مفكرين أو منظرين داخل الجماعة، في البناء المالي والاقتصادي للجماعة، والذي كبر وتوحش نتيجة ممارسات قاسية لا تتبعها سوى المؤسسات الرأسمالية، فالتنظيم اعتمد في تنمية أمواله من خلال التجارة، والتي يرون أنها (تسعة أعشار الرزق)، والتي ذكرها الرسول، متناسين طبيعة المجتمع البدوي والسياق التي وردت فيه، أو حتى الظروف التي دفعت الرسول بنصح الناس باتخاذ التجارة وسيلة لكسب الرزق، حيث لم يكن هناك مورد رزق أمام عرب شبه الجزيرة سوى البيع والشراء في موسم الحج، وليس بالطبع الزراعة والصناعة.
ووفقا لدراسة استقصائية أعدها باحثون في مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية تحت إشراف الخبير الاقتصادي الكبير عبدالخالق فاروق، والتي انتهت إلى ما يسمى سمات "الرأسمالية الإخوانية" فيقول عمار: "أن بعض الإخوان يمتلكون "إمبراطوريات مالية صغيرة" لا يقل رأس مال الواحدة منها عن خمسمائة مليون جنيه، إلى جانب إمبراطوريات أكبر في الخارج يبلغ رأسمالها مليارات الدولارات، وأغلب هذه القدرات الرأسمالية غير تنموية؛ لأنها تقوم بالأساس على التجارة التي يقول عنها كبار رأسماليي الجماعة.
وعلى الرغم من أن أموال الإخوان تعد جزءاً أساسياً وأداة من أدوات ربط الفرد بالجماعة، ومساعدة "الأسرة الإخوانية" في امتلاك القدرة على المواجهة المستمرة، لا سيما في سنوات التضييق، حيث يتم دفع النفقات الشهرية للأسر التي يتم اعتقال عائلها، ومنها تساعد الجماعة بعض المنتمين إليها في رحلات تعليمهم أو مواجهة ظروف صحية صعبة، ومنها أيضاً تقوم الجماعة بدورها في القيام بمهمام الدولة الاجتماعية وسد عوز المجتمع، من خلال الاهتمام بمساعدة الأيتام والفقراء عبر الصدقات الدائمة أو الموسمية المتقطعة، وهي قوة اجتماعية كثيراً ما تمكن الإخوان من حشدها للتصويت لصالح مرشحهم في مختلف الانتخابات التي خاضوها، وقد ظهر الأمر بجلاء عقب الثورة، حين قام الإخوان بتوزيع سلع تموينية على الفقراء في بعض المدن مقابل الحصول على أصواتهم.
وما يستخدمه الإخوان من أموال في هذه العملية هو النزر اليسير مما يملكون، لأن أغلب اموالهم في الخارج، وهي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات وفق حسابات تقريبية، ما يعني أن الجزء الأكبر من طاقة الجماعة الاقتصادية منصرف إلى "التجارة" وفق أحدث وأقسى الأساليب التي تنتهجها النظم الرأسمالية.
وقد حاولت الجماعة أن تعالج الآثار النفسية لهذه المعضلة داخل صفوفها، دون أن تكون معنية بالبحث عن علاج أو حل للمجتمع العريض الذي يقع خارج الإخوان، وهو الأكبر عددًا وعدة في حقيقة الأمر. فالجماعة تحاول أن تفصل بين "الشُعب" التي تقيمها في الأحياء الفقيرة ونظيرتها المقامة في الأحياء الثرية، حتى لا تخلق "حقداً طبقياً" بين أعضائها، من الممكن أن يعجل بتفجر صراع اجتماعي داخلي، سيؤثر من دون شك على استقرارها، وقدرتها على التماسك، أو يظهر لدى الإخواني رقيق الحال مدى الهوة بين القول والفعل داخل الجماعة العجوز.
وهذه الأوضاع الطبقية المختلة، توضح أن العلاقات بين أفراد الجماعة ليس كما تدعي في إنها قائمة على التواد والاحترام والأخوة؛ متكئة في تبريرها هذا إلى نصوص قرآنية ونبوية أو ما خلفه مؤسسها حسن البنا من تعاليم ووصايا، وإنما على تشريح الجماعة طبقيا وعمل تفرقة بين القيادات وبين عموم الشعب والمنتمين من البسطاء، وهو الأمر الذي جعل العديدين يشتكوا من التمييز الحاصل، وأحيانا يصل الأمر إلى انشقاق عدد كبير منهم.
الاغتيال الثاني للـ"البنا" ..ووصول الإخوان إلى الحكم:
قبل أن ينتقل عمار في كتابه لتناول أسباب سقوط الإخوان سياسيا في الشارع المصري، يطرح عمار سؤالا هاما هو لماذا قفزت الجماعة من تغيير البنا الهادئ إلى أفكار الجزار قطب!!
يرد عمار قائلا: "يعد البنا "منظماً" عبقرياً وليس "منظرًا" كبيراً، حيث إن حديثه عن الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي المتدرج ملفتا للانتباه، وهو تفانى مستغلا إمكانياته المبهرة في بناء شبكة اجتماعية متماسكة تقوم على أكتاف تنظيم صارم، الأمر الذي جعل رفض الإخوان في البداية أفكار سيد قطب، وكانوا يقولون: ليس منا. إذ إنهم ببساطة ضاهوها بما تركه لهم مؤسس الجماعة، فوجدوا الشقة واسعة بين من يسعى إلى التغيير الهادئ الذي يقوم على "الحكمة والموعظة الحسنة" في الغالب الأعم، وبين من يفكر في حرق المراحل والقفز على السلطة دون أن يكون المجتمع قد تهيأ بعد للفكرة التي يحملها في رأسه وتؤرقه ويكرس عمره ليراها متجسدة في الواقع المعيش.
ومع الأيام صار التنظيم هو "البقرة المقدسة" وتقدم "التنظيميون" المحتفون بتجربة أسلافهم في "التنظيم الخاص" حتى أمسكوا بتلابيب الجماعة وتحكموا في أموالها وهياكلها ومنهجها، وبدوا أتباعاً لسيد قطب أكثر من كونهم مريدين لحسن البنا، وراحوا يتخلصون تدريجياً ممن يخالفهم الرأي والنهج داخل الجماعة.
ولذا لم يجدوا غضاضة في القفز إلى الكراسي الكبرى، دون أن يعتنوا بالإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل المجتمع تهيأ تماماً لقبول ما لديهم ولذا سيدافع عنه ويتمسك به إلى الأبد كما كان يحلم البنا؟ وهل يمكن أن يؤثر أداؤهم سلباً على صورة الجماعة التي أكسبتها تعاطف كثيرين أيام حكم مبارك؟ وهل يمكن أن يتراجع مستوى التدين في مصر عموماً حين يرى الناس أن من ظنوا أنهم "بتوع ربنا" مثلما يقال على ألسنة العوام أنهم لا يختلفون في ممارساتهم السياسية عن من وصموهم بالابتعاد عن شرع الله؟ وأن "الإسلام هو الحل" ليست إلا لافتة؟
والسبب في وصول الإخوان إلى الحكم هم هؤلاء العوام الذين صوتوا للإخوان في الانتخابات التشريعية باعتبارهم "مجموعة سياسية" يمكن الاعتماد عليها وبوسعها أن تساعد مصر في الخروج من مرحلة الإرباك التي أعقبت الثورة، وأغلب من صوتوا لمرسي في انتخابات الرئاسة فعلوا هذا ليس حبًا فيه ولا في الأفكار التي يحملها برأسه، إنما نكاية في العسكر، وخوفاً من عودة نظام مبارك، وإلا لما تبنى مسئولو الدعاية في الإخوان أنفسهم شعار " اعصر على نفسك ليمونة واختار مرسي". وهذا معناه أن النبتة التي غرسها "البنا" وسعى إلى أن تكون شجرة فارعة وارفة الظلال لم تستو على ساقها بعد". ص33
ثانيا: عوامل وممارسات ظاهرية:
ننتقل هنا إلى الجزء الثاني وهي العوامل الظاهرية التي أدت لسقوط جماعة الإخوان، بعدما تعرض الكتاب في جزأه الأول إلى أسباب التصدعات التي طالت جسد التنظيم من الداخل ويقسمها عمار إلى:
1. السقوط الأخلاقي:
يركز عمار في هذا الجزء على سقوط الأخلاق السياسية، أو سقوط الشرعية الأخلاقية للإخوان ويفندها لمجموعة من المظاهر التي وضحت منذ اليوم الأول لحكمهم فيقول: "أول سقطة للإخوان هي المتاجرة بالشريعة، أو بمعنى أدق "شريعة الخلق" التي طرحها أغلب المنتمين للإخوان والسلفيين وأعوانهم، زاعمين أنها شريعة الخالق" فمنحوا أقوال نتاج البشر الفكري في الفقه والشريعة، قداسة وقدموها للناس على أنه وحي من السماء، واستعاروا ما أنتجه الأوائل عبر إعمال العقل في مشكلات واقعهم على أنه "نقل" شأنه شأن التنزيل، وهم في نفس الوقت مدركون تماما أنهم كاذبون، يريدون بها حصاد مكاسب سياسية باسم الشرع، حتى لو على حساب حقوق الناس والذي يتطلب أفعالاً لا أقوالاً، وهم مفلسون ليس لديهم سوى الكلام الفارغ، والبحث عن المناصب والكراسي والمغانم باسم الدين.
وبعد وصول الإخوان إلى الحكم ثبت للجميع أن شعار "الإسلام هو الحل" ما هو إلا دعاية سياسية تستغل الدين لدغدغة عواطف الناس ومشاعرهم، كما يستخدمون الآن عبارة "الدفاع عن الشرعية" لحشد القوى السلفية والجماعة الإسلامية في خندقهم، بعد أن يوهموهم أن التيار المدني عدو للشرع ولا يريده، وفي الحقيقة هم غير منشغلين بشيء سوى السلطة، أو تمكين مشروعهم الذي يزعمون أنه هو "رسالة الإسلام" وكأن وحياً جديداً قد نزل على مرشدهم الأول.
أما المظهر الثاني للسقوط الأخلاقي هو المتاجرة بدماء الشهداء، وهو ما حدث عندما استخدم مرسي حقوق الشهداء والمصابين ذريعة للاستبداد والطغيان وانتهاك القانون والدستور، فقام بعمل الإعلان الدستوري المشئوم الذي أصدره في 21 نوفمبر 2012، والذي كان بداية تفجر الصراعات الدموية في مصر، والتي سقط فيها شهداء جدد على ايدي الشرطة وميليشيا الإخوان، ليخرج مرسي بمقتضاه على القانون، ومصادرة أحكام القضاء السابقة والمنتظرة، وهو نفسا لقضاء الذي هلل لها أهله وعشيرته عندما أعلن فوزه بالرئاسة وفوز جماعته بمجلسي الشعب والشورى.
أحد مظاهر سقوط الجماعة هو اتخاذ من رجال الحزب الوطني ورجالته بطانة للجماعة بعدما قام هشام قنديل رئيس وزراء مرسي بتعيين نصف وزارته من الفلول.ص58
هذا غير تبدل مواقف وتصرفات الإخوان مع القوى الوطنية المعارضة ومع الجماعات الثورية بعد وصولهم إلى الحكم، فلم يظهروا في أي لحظة إيمانًا بشراكة وطنية، وراحوا يتصرفون على أساس أنها لحظة تمكين مشروعهم بغض النظر عن مصلحة مصر.
في الوقت الذي تعاملت فيه حكومة مبارك مع الدولة على أنه مشروع للتوريث، تعامل معها الإخوان على أنه مشروع للتمكين، وبدأ مهندس الجماعة خيرت الشاطر في أخونة أجهزة الدولة ووزراءها، وإقصاء من لا ينتمي للجماعة مستعينين فيه بـ"أهل الثقة"، على حساب "أهل الخبرة"، ولم تتعلم الجماعة من سقوط مبارك بل سارت على نهجه وممارسات دولته وإن اختلف الاسم من "التوريث" إلى "التمكين".
أما على مستوى الشارع فكانت ميليشيات الإخوان وحلفؤهم مصدر تهديد لمعارضيهم بعدما توهموا أنهم فوق البشر، معصومين من الخطأ، فحاصروا المحاكم ومنعوا القضاة من ممارسة أعمالهم، كما أصدروا قوائم اغتيالات لمفكرين وكتاب وإعلاميين وساسة معارضين، واستعانوا بميليشيات مسلحة لقمع المعارضة، وسفك دمائهم في الشوارع، دون أن يهتز لمرسي ولجماعته جفن.
ليعاود طعم الدم إلى الظهور مجددا على المشهد السياسي، فوجدنا تحرشًا ممنهجًا واعتداء على ممتلكات الدولة، في محاولة الجماعة لـ"شيطنة الثورة" ووصف الثوار الرافضين لممارسات الإخوان القمعية الديكتاتورية على أنهم بلطجية، وصدروا مع كل مظاهرة مقولة "الثوار مجرمون"، حتى ينفر الناس منهم ويكرهونهم، ليتناقض خطابهم بعد وصولهم للحكم حيال الثوار، من "الشباب الطاهر" إلى "المخربين"، وبدا الإخوان متعطشين للدم، بأيدهم وبأيدي من تواطأ معهم من الجماعات الإسلامية الموالية والمتحالفة معهم.
سخرية المصريين التي حولت جسد الإخوان إلى مصفاة:
سقط الإخوان مجتمعيا عندما جابههم المواطن البسيط بالنكتة والسخرية، لتسقط عنهم قدسية "احنا بتوع ربنا" التي أصبغوها على أنفسهم، ومع وجود وسائل الاتصال السريعة والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت النكتة التي تطلق على الإخوان تسري "كالنار في الهشيم"، ولتتحول النكتة إلى طلقات موجعة في جسد الجماعة ومن انتمي إليها أو تحالف معها، وهو ما برهن عليه عمار في أن موت الإخوان جاء أولا بـ"النكتة الشعبية" فيقول: "لا يدرك الإخوان وهم يلهثون وراء ما يظنونه "التمكين" أن العقل الجمعي المصري يقتلهم ببطء وعلى مهل وفي روية تامة، لكن بثقة ودهاء وإصرار لا يلين. ولأن الإخوان لا يعطون للعلوم الإنسانية ما تستحقه من اهتمام وانشغال فإنهم يتعاملون بغفلة واضحة مع عملية القتل هذه، أو يستخفون بها، إن من ينصت إلى النكات التي بدأ المصريون يطلقونها على الإخوان يفهم كيف شرع بسطاء الناس في نزع رداء "القداسة" المزعومة عنهم؟ وكيف يهبطون بهم من عليائهم ويحطون من المنزلة الأسمى والأرقى التي وضعوا الإخوان فيها بعد أن انطلت عليهم الدعاية الإخوانية عقوداً من الزمن، وترجموا هذا الاحترام غير مرة في التصويت لصالحهم في الانتخابات المتتالية. والنكتة، بالقطع، هي طريقة للمقاومة بالحيلة سلكها المصريون مرات لا حصر لها، حين كرهوا السلطة وأرادوا الانتقام منها.
فها هي نكتة تبين أن "صندوق الانتخاب" أهم عند الإخواني حتى من "الشرف"، وأخرى ترسم حدود العلاقة بين المرشد ومرسي بإيحاءات لم يكن ألد أعداء الإخوان ينتظرها في يوم من الأيام. وها هي الإيحاءات الرمزية القاسية "في إلقاء حزم البرسيم أمام منزل مرسي" أو رسم صور "الخراف" على الأرض أمام مقر مكتب الإرشاد. ومن السهل إدانة هذه الأفعال ورميها بالخروج عن اللياقة والأدب والأخلاق وحتى بالعنصرية أو الفسق والفجور، لكن الإدانة لا تغير من الأثر الذي تتركه هذه النكات وتلك الرموز في نفوس الناس أو تنهي قدرتها على إعادة رسم "صورة نمطية" للإخوان مختلفة تماماً عن تلك التي تمتعوا بها على مدار ثمانين سنة.
حتى لو كان الإخوان نجحوا في إدخال كل من سخر منهم إلى السجن إلى الأبد، وتم إغلاق كل الصحف والقنوات الفضائية الخاصة وهاجر الكتاب أو صمتوا وتركوا أقلامهم لتجف في محابرهم أو كفوا عن النقر على مفتاح الحروف بالحواسيب، وحلت المعارضة نفسها وطلب قادتها اللجوء السياسي لأي دولة أوروبية ، فلم يكن المواطن البسيط عن الكف في إطلاق نكته الساخرة على من يسخط عليه.
إن الجهلاء وقليلي الخبرة وضيقي الصدور، يعتقدون أن بوسعهم أن يمنعوا سخرية الشعب من الحاكم إن كان ضعيفًا خائرًا، أو كاذبًا جهولاً أو متجبرًا أعمى أو فاسدًا لصًا، أو مغلبًا مصالحه وذويه على مصالح الشعب، هذه ردود غاضبة لشيطنة مرسي، وتصويره على نحو معين، وهي إن كانت تجافي العلم أو حتى الدين، فعلى الرغم من أن الدين يمنعنا من التطير، إلا أن هذا لم يكن مانعا من أن يتطير المصريون بمرسي وأن يصفوه بـ"الرئيس النحس"، أو ينعتوا لمن ينتمي للجماعة بكلمة "خروف"، وقد أخذت هذه الأقوال انتشارا قويا بعد حادث أسيوط المؤلم، إلى درجة أن أحدهم اختلق خبرًا على "فيس بوك" يقول محافظ سوهاج يناشد مرسي ويرجوه ويتوسل إليه ألا يزور المحافظة أبدًا.
إن هذه |"النكات" وحكايات السمر والشائعات، والسخرية التي تطفح من الشاشات الزرقاء، كلها أدوات في قبضة "المخيال الشعبي" تقضي على "اسطورة الإخوان" في هدوء ومن دون أي ضجيج، ونتائجها لا تخيب أبدًا".
الخلاصة:
يحاول الدكتور عمار علي حسن، خلال كتابه توضيح أن انتحار الإخوان لم يكن وليد عام حكمهم، وإنما هو العام الذي كُشفت فيه عورات الإخوان الداخلية ،تلك التي حاولوا اخفاءها على مدار الثمانين عاما، فكانوا أمواتا فكريا أحياءً جسديا، لتأتي ثورة يناير، وتكون بمثابة حقل تجارب للإخوان، شاهد فيه المصريون ممارسات الإخوان وسقطاتهم، ليسقط تعاطف المواطن البسيط مع الجماعة التي طالما نادت بفرصة واحدة لتطبيق "شرع الله"، فتكشفت الحقيقة في أنهم لا يقلون فاشية عن الأنظمة التي سبقتهم، بل كانوا أكثر صلفاً في ممارستهم، ولذلك كان موت الجماعة بأيديهم قبل أن يكون بأيدي الشعب المصري.