الخراب الفكري للإسلام السياسي في أزمنة الخوف
الجمعة 24/مايو/2019 - 12:11 م
طباعة
اسم الكتاب: وجوه في أزمنة الخوف عن الهويات المجرحة والموت المؤجل
الكاتب: محمود قرني
الناشر: دار الهلال – مصر
يمثل هذا الكتاب المهم قراءة واعية وعميقة لأكثر المشاكل العربية فيما يخص الفكر والهوية والتراث والعقل ويضع مواجهة بينهم تنشط الواقع الفكري للعقل العربي الراهن الأمر الذي تكشف عنه بوضوح المقدمة الشاملة للكتاب، والتي جاء فيها:
كان أخطر ما تركته علوم الاستشراق للعقل العربي هو تحول السؤال الوجودي إلى سؤال يسبح في فراغ الآخر، يحصل على مشروعية تقدمه أو تخلفه، يكتب المستقبل أو ينزلق إلى أضابير الماضي. من هذا المنطلق حاولَت الكثير من الأدبيات المحدثة التشكيك في وجود الفكر العربي بالأساس، باعتباره يقتات على مخلفات عصر النهضة في تجلياته الغربية، وباعتباره أيضًا مردودًا استشراقيًّا لم ينجح في التعبير عن القطاعات العريضة من المتعلمين فضلًا عن الحشود الكبرى من العامة.
ورغم أن جانبًا من تلك التصورات لم يكن بعيدًا عن الحقيقة، إلا أن ذلك لم يحل دون تشكل التكوينات الفكرية المحلية، التي استطاعت أن تقيم تمايزات مقبولة في العلاقة مع الآخر. فلا يمكننا مثلا التحدث عن الوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود باعتبارها إعادة إنتاج لفرانسيس بيكون أو جون ستيوارت ميل أو مدرسة فيينا جملة. فقد استطاع عبر قناعته بـ "التحليلية" أن يقدم قراءة مدهشة لموقفه من التراث، واستطاع عبر المنهج نفسه مع آخرين، تفتيت مفهوم جماعات واسعة من الأصوليين الذين لا زالوا حتى الآن يدفعون باتجاه العودة للماضي سواء عبر استغلال الفجوات العقلية أو عبر القتل والترويع .
وقد أثمرت الكثير من هذه الآراء مجتمعًا لا يمكن رده للجاهلية المطلقة. فرغم كل شيء، نحن أمام مجتمع اخترقت حصونه مفاهيم عديدة حول نبذ الحكم العشائري وتصاعد الأبنية العقلية جملةً، واحتلالها مركز الصدارة في لحظة من اللحظات، وبشكل عام تصاعدت قيمة العلم في بناء مؤسسات ذات طابع علماني محض. غير أن تأمل تلك التصورات في مواجهة نظم الحكم ستدهشنا بالنتائج التي نراها على الأرض. وهذا الانفصال بين البناءات العقلية المتقدمة والأداء النكوصي لا يمكن فهمه دون تحليل الواقعين السياسي والمجتمعي، عبر اختراق طبقات الحكم، أقصد تحليل دور المال والسلطة في مواجهة الأدوات الناعمة للتعبير العقلي، وهو صراع يبدو فريضة من فرائض التبعية التي أنتجها النموذج الاستشراقي سياسيًّا واجتماعيًّا .
وهنا حاولت تقديم العديد من الوجوه التي تمثل واحدة من التعبيرات المتقدمة عن تلك الحالة بمدلولها الإيجابي على مستوى منجزها العقلي مثل: إدوارد سعيد، محمد حسنين هيكل، سلامة موسي، أحمد لطفي السيد، نوال السعداوي وغيرهم، أو على مستوى المنجز الإبداعي مثل : نجيب محفوظ، محمود درويش، عبد الرحمن الأبنودي، عفيفي مطر وغيرهم . في الوقت نفسه تخللت تلك الوجوه أسماء أخرى لا يتفق معها التوجه العام للكتاب: مثل أحمد كمال أبو المجد، ياسر برهامي، ومجدي الجلاد على سبيل المثال. فاعتقادي الراسخ أن الأشياء تعرف بنقائضها؛ لذلك لم أر تناقضًا بين وجود الكاتب والصحافي الاستثنائي محمد حسنين هيكل بين دفتي الكتاب مع وجود اسم صحافي على النقيض من هيكل وعصره وقيمته. كما أن وجود أسماء أسست لعصر من الاستنارة مثل: سلامة موسى وغيره لم يمنعني من التوقف أمام نموذج نقيض يمثله هنا الشيخ ياسر برهامي .
وما من شك أن جزءًا أساسيًّا من تناول تلك الوجوه في اللحظة الراهنة يعزز فكرة المواجهة التي باتت حتمية أمام أزمة الفكر العربي. فالنداءات الحارقة لتعزيز وجود "الآخر" الغربي تحديدًا كدعوة تحض على التعايش وتحاول أن تتجاوز التاريخ الاستعماري الشائن انتهت إلى تكريس مفهوم التبعية، وإعادة إنتاج الأنماط المعرفية للمركزية الأوروأمريكية بصور مختلفة وتحت شعارات جديدة جذابة مثل عولمة المعرفة التي انتهت إلى تعزيز التوحش الرأسمالي والحد من الهجرات الواسعة إلى أوروبا. حدث هذا في الوقت الذي لم تسفر فيه دعوات عولمة المعرفة سوى عن مزيد من الجوعى جنوب خط الاستواء، ومزيد من الغرقى الذين يعبرون من قيظ الجنوب حالمين برفاه الشمال. من هنا ستظل مقولات الفكر العربي في حاجة إلى إعادة اختبار، لكن ذلك لن يحدث سوى بعد إعادة تعريف الآخر وفق احتياجاتنا وليس وفق الاحتياجات التي فرضها الآخر نفسه .
ولعل كثيرين منا يذكرون كيف تجسدت في بداية ثورات التحرر عشرات الأفكار البراقة حول استعادة الفرد لصوته الخاص، وعودة الطبقة المتوسطة لقيادة المجتمع بعد عشرات العقود من الحكم الهيراركي، وكانت فكرة التحرر الوطني فكرة مركزية التف حولها المهمشون في العالم الثالث. غير أن الغرب الذي روج لصورة الديكتاتور العادل عاد ليعاقب المؤمنين بها، وكانت تهديداته الموجهة للمستعمرات القديمة جزءا من تعزيز هذه الحلول غير الديمقراطية . وفي غمرة الصراع ثنائي القطبية تم كسر شوكة المشروع الوطني في العالم علي نحو عام وفي العالم العربي علي نحو خاص. فبعد أن تجسد مشروع النهضة في تنامي مراكز تقليدية مثل بغداد والقاهرة ودمشق، انتهى الصراع في غير صالح الطموحات الوطنية لا سيما بعد هزيمة السابع والستين ومعاهدة السلام التي أخرجت مصر، ليس من الصراع العسكري فحسب، بل من الصراع الحضاري نفسه. وهكذا استعاد الغرب طبعًا مراكز نفوذه القديمة، وظل لعشرات السنين يدعم حكاما يقترب أداؤهم من الخيانة الوطنية كما فعل مع نظام مبارك في مصر، وفي السبيل إلى ذلك تم دعم تحالفات غير أخلاقية مع رأس المال من ناحية ومع التيارات الدينية المتشددة لتؤدي دورًا لا يمكن وصفه بأقل من الخيانة، فهي من ناحية كانت تلعب دورا في حماية تلك الأنظمة لقاء حصة في الحكم ولقاء استحقاقات الوجود، مقابل ذلك فقد قبلت تلك الجماعات باستخدامها كفزاعة للنموذج الحضاري "الأرقى" الذي كان من المفترض له أن ينبذ الحكم الديني ويعتبره خصمًا تاريخيًّا. وقد رأينا كيف تحولت تلك المعادلة بشكل سافر بعد أن قررت الولايات المتحدة التخلص من مستوطناتها القديمة في الشرق الأوسط بما في ذلك رجال تلك المستوطنات وكان البديل الجاهز هو الإسلام السياسي في أكثر صوره توحشا . وقد كشفت تحولات تلك الصورة عن الخراب الذي خلفته تلك السلطات العميلة عبر عشرات السنين من الفساد، وأظن أن أخطر مظاهر هذا الخراب يتمثل في كسر إرادة النخبة العربية بدرجات متفاوتة. وبكل أسف تحول دور تلك النخبة من كونها تمثيل لسلطة المثقف النقدي والنقضي في آن إلى كونها أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر إلى أدنى الروادع القانونية والأخلاقية. وأظن أن حال النخبة المصرية بعد ثورتي يناير ويونيو ربما يعد أعلى تمثيلات هذا الخراب. وأتمنى أن يكون ما تضمنه هذا الكتاب يقع ضمن المحاولات الجادة لإعادة التذكير بالنموذج المتقدم لدور النخبة، وأن يكون محفزًا على الانتباه للخطر الذي تقف على مذبحه نخبتنا المصرية والعربية على السواء .