بطريرك الكلدان في ذكرى مرور سنتين على تهجيير المسيحيين: "لا للإحباط"

الخميس 04/أغسطس/2016 - 01:21 م
طباعة بطريرك الكلدان في
 
دعوة العراقيين إلى التفكير الموضوعي والتعاطي بعقلانيّة بعيدة عن الثأريّة، الوقوف بوجه كلِّ من يسعى لـِ"اختطاف" الوطن والدين ..رفض حالة الإحباط المسيطرة على كثيرين هذه المحاور الثلاثة هي أهم ما جاء في رسالة البطريرك ساكو بطريرك الكلدان بالعراق في ذكرى مرور السنتين على التهجيير وجاء فيها 
نحن المسيحيين مدعوون للسير على خطى السيد المسيح له المجد، لنكون دعاة سلامٍ وسعاةً في إثر المحبة لخير الإنسانية جمعاء. وكما زرع آباؤنا وأجدادُنا في هذه الأرض المباركة مع حباتِ الحنطة أديرةً، ومع أشجارِ النخيل كنائس ومدارس ومستشفيات، وروَوها بدمائهم، فكانوا شهداءَ لإيمانهم وشهودًا له، هكذا علينا نحن أولادهم واحفادهم ان نقتفيَ أثارَهم، ونحافظ على ما ورثناه عبر آلاف السنين: أرضًا وتاريخًا ولغةً وقيمًا وروحانيةً، إنها أمانةٌ في أعناقِنا، ورسالةٌ تملأنا ثقةً بأن نورَ الله سيُبدِّد الظلامَ، وسيُشرق بنوره وسلامِه علينا.
في الذكرى الثانية لمأساةِ أهالي الموصل (10-17 يوليو 2014) وسكانِ بلدات سهل نينوى (ليلة 6/7 أغسطس 2014)، يعودُ إلى الأذهان حرفُ النون (ن) الذي وَسَم به المُضطـَهـِدون بيوت المسيحيين في الموصل وغيرها ليكون رمزاً يُشير إلى هويّتهم الدينية، وإذا ما تأملنا في النون (نونا السريانية) السمكة، وكيف استخدم المسيحيون المُضطـَهَدون كلمة (ichthus اليونانية– السمكة) أيام الكنيسة الأولى في دياميس روما، للدلالة على بعضهم البعض؛ لأن الحروف الأول تعبر عن شهادة إيمانِهم بالمسيح، وكيف انعكست الآية اليوم، قد نجد في عودة النون بهذه القُوّة بعد ألفي عامٍ تقريباً، مقاربةً ليست من قبيل الصدفة البحتة، بل علامة من علاماتِ الأزمنة، ودرساً جديراً بالاْهتمام والتأمل!
تمرّ علينا اليوم هذه الذكرى الأليمة والمحزنة، والإرهاب بتنظيماته المختلفة، لم يُدحر بعد، والصراعات لم تنتهِ، وانتهاكاتُ حقوقِ الإنسان لا تزال تَتعاظم على أكثر من صعيد، ومحاولات المصالحة الوطنية تُراوح مكانَها، والوعود بالإصلاح والقضاء على الفساد وبناء الدولة المدنيّة، ومكافحة البطالة والفقر، والجهل والمرض، لم تتجاوز كونَها وعودًا، رغم ذلك لا يزال العراقيون، بكلِّ أطيافِهم يتطلعون نحو غدٍ أفضل، لا سيما أن الانتصارات بدأت تتحقق، وتُقهقر داعش. وهنا لا بدّ ان نؤكد على أهمية الاسراع في عملية تحرير الموصل وبلدات سهل نينوى وتمكين الأهالي من العودة إلى بيوتهم بعد توفير الحماية اللازمة لهم. وبما أن تحرير كامل التراب العراقي آتٍ لا محالة نود اقتراح بعضِ الأفكار العملية لمرحلة ما بعد داعش:
1. دعوة العراقيين إلى التفكير الموضوعي والتعاطي بعقلانيّة بعيدة عن الثأريّة، ومراجعة حقيقية للواقع المقلق لمنع الانجرار إلى مزيد من الدماء والخراب. وحدتهم خلاصهم.
2. الوقوف بوجه كلِّ من يسعى لـِ"اختطاف" الوطن والدين وتجييرهما لحسابه الخاص، مدعيّا الوصاية عليهما، وداعياً باسمهما إلى قتل المدنيين وتدمير المؤسسات والبنى التحتية، بعيداً كل البعد عن طبيعة التعايش والتآخي، وعن طبيعة الدين. وعليه ندعو المرجعيّات السياسيّة والدينيّة إلى رفعِ غطاءِ الشرعيّة عمن يسلك هذا المنحى التخريبي والتبرؤ منه.
3. مطالبة كلِّ من يدعم التنظيمات التخريبية ويمدها بالمال والسلاح بالكفِّ عن ارتكاب هذه الكبائر. فالإرهابي ليس الذي يُنفِّذ فحسب، بل هو كلُّ من يصنع هذا الفكر التخريبي ويبثه ويموِّله. نحن أمام تلوث فكري خطير يهدد التوازن الديني والمذهبي والعرقي في المنطقة والذي ظلَّ صامداً كلَّ هذه القرون.
4. رفض حالة الإحباط المسيطرة على كثيرين، ولا يدّعي أحدٌ أنه شعور غيرُ مبرر، فنحن جميعًا مشتركون في الألم ونعيشُ المعاناة نفسِها، لكن الاستسلام لليأس قد يَقتل الروح، ويطفئ الرجاء بغدٍ أفضل.
5. الفكر المتطرف لا ينتهي الا بفكر منفتح وسليم، ولا بد من تعبئة شاملة لتفكيك هذه الأيديولوجية ببناء ثقافة جديدة ورؤية واضحة قائمة على قيم التلاقي والقبول المتبادل واحترام إنسانية الإنسان، وتثبيت المشترَكات كالسلام والاستقرار والعدالة والمساواة، وإعادة إعمار البشر قبل الحجر، فإفلاسُ دولةٍ ما لا يعني خلوَّ خزائنها وحسب، بل خلوها من أبنائها ذوي الخبرات والكفاءات والمؤمنين بوطنهم.
6. العمل على صياغة نظامٍ سياسيّ مدنيٍ يكون بمثابة عقدٍ اجتماعيٍ (دستور) جديدٍ يُعالجُ أسباب الأزمة بعيداً عن المنطلقات الطائفية والقومية والدينية والحزبية، ويحترم هواجسَ الجميع في التمثيل والمشاركة، فيغدو العراقيون أبناء الاسرة العراقية الكبيرة، بتنوعهم وأطيافهم علامةً مضيئة.
اليوم عندما يدعونا بعض المسيحيين إلى العمل من اجل تيسير هجرتِهم، ودعم سعيِهم لأجل اللجوء إلى هذه الدولة أو تلك أملاً في أن يكون مستقبلُهم أكثر أمناً وضماناً، إننا نتفهم وجعَهم وقلقهم حول المستقبل بسبب التطرف الديني، وعمليات الترحيل القَسري، والتغيير الديموغرافي، والاستيلاء على البيوت والأراضي، والقوانين المجحِفة بحقهم، وتجاهل حضورهم وعدم مشاركتهم في القرار، نقول لهم: لا تخافوا فان الله الذي وضعتم رجاءَكم فيه، وخرجتم من بيوتكم صفرَ اليدين لتُحافظوا على إيمانكم، سيُعيدُكم إلى بيوتِكم سالمين، وتنتهي معاناتُكم في تيهِ التهجير.
ونحن ككنيسة نعبَّر عن عميق الألم والحزن على ضحايا الاعتداءات الإرهابية كلِّها، ونُدين بشدة الأحداث المروِّعة التي قضى الكثير من الابرياء فيها، أو تعرضوا لتهجيرٍ قسري مُمَنهَج، ونجدد تأكيدَنا على تضامنِ الكنيسة الكامل مع كلِّ الأطرافِ المنكوبة، ونُصلِّي من أجل الشهداء والجرحى والمفقودين والمهجَّرين. فالصلاة والوحدة سلاحُنا في مواجهة الظلم. نحن لا نحمل سلاحاً (حماية المواطنين واجب الدولة)، بل صليباً يَدعونا إلى إيمان حقيقي، إيمانٍ نُعبِّر عنه بالصلاةِ وخدمة المحبة والرحمة والصبرِ والصمودِ، وان نُسهم بقسطنا في تحقيق السلام والتفاهم. لنضع رجاءَنا في الله، ونتكل عليه، ولنتمسك برسالتِنا مهما غلـَت التضحيات.

شارك