"دو فوكو".. راهب فرنسي عاش وقتل في صحراء الجزائر
الجمعة 01/ديسمبر/2023 - 11:19 ص
طباعة
روبير الفارس
تحصد شخصية شارل دو فوكو ( ولد 15 سبتمبر 1858 م – 1 ديسمبر 1916 م ) الراهب والقسيس الكاثوليكي الفرنسي احتفاء كبيرًا من الكاثوليك والعديد من المغاربة والجزائريين؛ حيث عاش فترة من عمره بين الطوارق في الصحراء الكبرى جنوب الجزائر. اغتيل عام 1916 م خارج أبواب الحصن الذي بني له بحماية الطوارق في تمنغست، وقد اعتبرته الكنيسة الكاثوليكية شهيدا. أفكاره وكتاباته كان لها دور في تأسيس رهبنة تسمي محبة " أخوة يسوع الصغار" أي لخدمة الفقراء والمساكين للرجال ويقابلها "أخوات يسوع الصغيرات" للنساء من بين كل الأبرشيات الدينية الأخرى. تم تأبينه في 13 نوفمبر عام 2005 م من قبل البابا بندكت السادس عشر.
سيرته
ولد شارل دو فوكو 15 سبتمبر 1858 م في بيت يقع في حي برولي، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية. هذا البيت هدم مع بيتين آخرين لإفساح المجال لبناء فرع البنك المركزي الفرنسي في ستراسبورغ.
انضم إلى أخوية الرهبان السسترسيون عام 1890 م في فرنسا أولا، ثم في قرية أكبز على الحدود السورية التركية، لكنه تركها في عام 1897 م؛ لأداء رسالة دينية غير معروفة في الناصرة. بدأ في إقامة حياة الزهد للصلاة بالقرب من دير بور كليرس، وقد رشح ليمنح سر الكهنوت. وفي عام 1901 م وفي عمر الثالثة والأربعين منح سر الكهنوت في فيفيرز في فرنسا، ثم عاد إلى الصحراء في الجزائر الفرنسية وعاش حياة نسكية فعلية. أقام أولا في بني عباس بالقرب من الحدود المغربية، حيث بنى صومعة صغيرة للتعبد والضيافة، التي أشير إليها لاحقا باسم "الأخوية".
فيما بعد انتقل للعيش مع قبائل الطوارق في تمنغست في جنوب الجزائر. هذه المنطقة تعد مركزية في الصحراء، حيث توجد بها جبال آهقار. اعتاد شارل أن يرتاد أعلى نقطة في المنطقة "Assekrem" كمكان للاعتكاف. عاش بالقرب من الطوارق وشاركهم متاعبهم. وقضى عشر سنوات يدرس لغة الطوارق وتقاليدهم وثقافتهم. وتعلم اللغة الطارقية وشرع في تأليف قاموس للمفردات وقواعد اللغة. مخطوطة قاموسه نشرت بعد وفاته في أربع مجلدات، وصار القاموس معروفا من بين القواميس الأمازيغية الأخرى، بسبب غناه وما يحتويه من أوصاف دقيقة. صاغ شارل فكرة تأسيس معهد ديني، والذي أصبح حقيقة فقط بعد وفاته، تحت اسم "أخوة يسوع الصغار".
في الأول من ديسمبر 1916 م، أخرج شارل دوفوكو بالقوة من حصنه في تمنغست من قبل عصابة مسلحة من قطاع الطرق بقيادة إلمدني أغ سوبا، الذي كان على اتصال بالسنوسيين. كانت نيتهم اختطاف شارل دو فوكو، لكن عندما علم بأمرهم اثنين من الحرس، أحد قطاع الطريق فزع ( سيرمي أغ ثورا في الخامسة عشر من عمره) أطلق على رأس شارل دو فوكو النار فأرداه قتيلا فورا. جريمة القتل شهدها شخص يدعي بول مبارك، عربي إفريقي كان عبدا سابقا حرره شارل دو فوكو وعلمه. السلطات الفرنسية استمرت سنوات تبحث عن قطاع الطريق أولئك، وفي عام 1943 م هرب إلمدني من القوات الفرنسية في ليبيا بعيدا إلى جنوب فزان، أما سيرمي أغ ثورا فقبض عليه وأعدم في جانت في عام 1944 م.تم تأبين شارل دو فوكو من قبل البابا بندكت السادس عشر في 13 ديسمبر عام 2005 م، وعد شهيدا في شعائر الكنيسة الكاثوليكية.
ومن الناحية العلمية بعيدًا عن الجوانب الروحية تعد رحلة "شارل دوفوكو" للمغرب من أهم تراثه الفكري
لقد أسهم دوفوكو بدراساته القيمة في استكشاف خصائص المجتمع المغربي من خلال كتابه "استكشاف المغرب" الذي أنجزه حول المغرب سنة 1883، وتعتبر هذه الدراسة الاثنوغرافية الأهم خلال أواخر القرن التاسع عشر إذ كانت بمثابة الركيزة الأساسية التي فتحت شهية العديد من الباحثين المتعطشين لمعرفة المزيد من الأسرار حول هذا البلد، بحيث جاء من بعده العديد من الباحثين إلى المغرب ناهجين نفس أسلوبه خاصة الحذر من مغبة اكتشاف أمره إذ تنكر في زى يهودي طيلة بحثه هذا وهو الشأن نفسه الذي اعتمده العديد من الباحثين الآخرين أمثال : LE MARQUIS DE SEGONZA.
الأسباب الذاتية والموضوعية لمجيء دوفوكو إلى المغرب:
يعتبر شارل دوفوكو من الضباط الفرنسيين الذين استجلبتهم السلطات الاستعمارية إلى الجزائر للقيام بمهمة الجندية، وكان بمعية العديد من الشخصيات البارزة في الجيش الفرنسي أمثال ليوطي، ولقد سمح وجوده في الجزائر في المشاركة في الانتفاضة التي عرفتها بعض القبائل بحيث شارك في إخمادها مما سمح له التعرف على العديد من التجاوزات والخروق التي يمارسها القمع الاستعماري على القبائل الجزائرية؛ مما أثار حفيظة خاصة وأن متطلبات الجندية لا تتلاءم ومزاجه المتميز بحيث أبدى شارل دوفوكو عدم اقتناعه بالخدمة العسكرية، وبعد أن انتهت الحرب قرر التخلي عن الخدمة العسكرية بالجنوب الوهراني، لكن المؤسسة العسكرية رفضت تحقيق مطلبه بعدم إعطائه رخصة للقيام بالسفر إلى الجنوب الجزائري، لكن فطنته ودهائه جعلته يحقق مطلبه بحيث تعرف على محافظ الخزانة العامة بالجزائر الذي سهل عليه عملية القيام برحلته إلى المغرب بحيث اقتنع دوفوكو بفكرة HENRI DUVERIER رئيس جمعية الجغرافية بباريس بالقيام برحلة إلى المغرب على حساب هده الأخيرة. وكان لـ "" HENRI DUVERIER الفضل كذلك في تعرف دوفوكو على مردوشي أبي سرور وهو يهودي مغربي الذي سيرافقه في رحلته إلى المغرب بحيث سيساعده بجمع العديد من المعلومات.
مغرب دوفوكو
كما سبقت الإشارة فلشارل دوفوكو عوامل ذاتية وموضوعية حفزته بالقيام برحلة إلى المغرب مع العلم أنه على بينة من المخاطر والعواقب التي ستعترضه في حالة اكتشاف أمره. وفي هذا الصدد اعتبر شارل دوفوكو أن المغاربة لا يحقدون على المسيحيين بالقدر الذي يحقدون على ما يسمونه بالجواسيس الذين يقومون بمهمة تسهيل عملية الاستيلاء والهيمنة، لأنه وكما أشار أن رفض الأجنبي لا يرجع إلى التعصب الديني وإنما يرجع إلى الخوف المستمر من الاستعمار ومغبته، وما يميز هذه الرحلة التي قام بها شارل دوفوكو إلى المغرب أنها وإن كانت تعج بالعديد من المعطيات الأساسية حول المغرب إلا أنه يجب أن نتفطن بأن شارل دوفوكو مهما يكن فهو من البعثات التي جاءت لاستكشاف المغرب ليس بهدف سياحي أو بمحض الصدفة بل حاجة الأوساط الاستعمارية الفرنسية إلى معطيات حول هذا البلد من أجل السيطرة عليه وبأقل تكلفة مستفيدين بذلك من درس الجزائر؛ لذلك فطن المستعمر الفرنسي لدراسة هذا البلد قبل استعماره، وما يميز المعلومات التي حاول شارل دوفوكو أن يجمعها أنها غالبًا ما تكون معلومات طبوغرافية جغرافية بحيث استطاع جمع معلومات حول الارتفاع تم كذلك الطرق علاوة على المسافات وتحديد الأماكن. ويعتمد شارل دوفوكو على الدقة فيما يخص جمع المعطيات وهذا ما أكدته الدراسات التي تم إنجازها من طرف الخبراء العسكريون الفرنسيون بعد احتلال المغرب.
ولقد حظيت هذه الرحلة التي قام بها دوفوكو إلى المغرب باهتمام كبير في الأوساط الاستعمارية خاصة وأنها تظم معلومات مهمة تفيد المستعمر الفرنسي استخدامها في السيطرة على البلاد لان دراسته هذه تكشف عن أسرار البنيات الاجتماعية في المجتمع المغربي خاصة أنه عاش في المجتمع المغربي لمدة سنة وعايش من خلالها العديد من الأحداث التي تعرف من خلالها على ثقافة المجتمع المغربي خاصة ثقافة اليهود المغاربة الذين عاشرهم وتعرف من خلالها على ثقافتهم وسلوكا تهم. غير أن شارل دوفوكو على الرغم من الاهتمام والاستقبال الذي نعم به من طرف اليهود المغاربة إلا أن ذلك لم يمنعه من فضح بعض سلوكا تهم إلى درجة التعصب والعنصرية التي يبديها تجاه اليهود لكن السبب غير واضح. إذ قد يرجع إلى المعاشرة التي تمت بينه وبين اليهود أو لأسباب أخرى متعددة، لكن على العموم استطاع وبزيه اليهودي أن يجمع العديد من المعطيات التي تعتبر من خلال كتابه " استكشاف المغرب " أهم مميزات المجتمع المغربي إلى درجة إعجابه ببعض المدن والقرى المغربية التي سبق له أن زارها، هذا بالإضافة إلى اكتشافه لظروف عيش القبائل والنظام السياسي السائد وعلاقة القبائل بالنظام المخزني، كذلك خصائص النظام الاجتماعي للبربر. كل هذه المعطيات وان كانت ذات صبغة استعمارية وإيديولوجية استكشافية إلا أنها في الحقيقة تكشف لنا بعض المعطيات المهمة حول خصائص مغرب ما قبل الحماية.
بلاد المخزن وبلاد السيبة
لقد ركز العديد من الباحثين الانثروبولوجيين خلال هذه الحقبة بثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة لكن إذا انتقلنا إلى مستوى العلاقات العامة ما بين المخزن والقبائل كما طرحها أولا باحثون وسوسيولوجيون فترة الحماية فإننا سنجد مجموعة من التصورات والأوصاف التي لا تستجيب لمتطلبات الملاحظة المضبوطة والبحث النزيه، ففي سياق حديثه عن " بلاد المخزن " كنقطة واقعة ضمن دائرة النفوذ السياسي للمخزن و" بلاد السيبة " حيث لا سلطة إدارية للمخزن بل اعتراف بالبعد الديني لأمير المؤمنين، وفي هذا الإطار يلاحظ " ميشوبلير " خاصة في منطقة جبالة التي تحتل موقعا وسطا بين هذين القطبين، إذ يصعب أن ندرجها ضمن نظام معين فلا هي بقبائل خاضعة تماما لسلطة المخزن، ولا هي بمنطقة مقطوعة الأواصر مع الجهاز المخزني، بحيث نجد أنها قائمة بين هذا وذاك. فإذا كانت بلاد المخزن خاضعة لسلطة الدولة بأبعادها الدينية والسياسية والمالية حيث ينهض السلطان بنفسه بمهام تعيين الموظفين الساهرين على أحوال القبيلة من قياد وشيوخ وأبي مواريث ونظار، وإذا كانت الضرائب في نطاقها تؤدى بلا أدنى اعتراض فإن قبائل جبالة لم تصل عموما إلى درجة رفض ممثلي جهاز المخزن، بل اقتصرت فقط على الحد من سلطتهم عن طريق التعلق " بالجماعة " والاحتكام إلى الأعراف المرتبطة بها كما أن الجبايات لم تكن تستخلص لدى الجبليين بنفس السهولة واليسر. وإذا كانت بلاد السيبة تعترف فقط بالمكانة الروحية للسلطان فإن القبائل الجبلية تجاوزت ذلك إلى التعامل مع الإدارة المخزنية. وفي نفس السياق وفي سنتي 1883- 1884 أي في نفس الحقبة قام شارل دوفوكو بزيارة استطلاعية إلى المغرب فنزل أولا بطنجة على أساس أن تكون منطلقه نحو تفقد أوضاع القبائل والمدن المغربية، ولم يمكث بها طويلا حتى قرر أن يغادرها إلى تطوان وفيما يخص الطريق التي ستربط بين المدينتين أبدى " شارل دوفوكو ". الملاحظة التالية " عربات صغيرة كانت تنطلق من طنجة، الطريق كانت آمنة ولم تكن هنالك حاجة إلى حرس ". ولا غرابة في ذلك ما دامت المنطقة في نظره تندرج ضمن ما سماه " بلاد المخزن " على أن الأمان المخيم في النهار ينتهي مع الغروب حيث تشتد الحراسة على أبواب المد اشر تحسبا لهجوم محتمل على المزروعات والمواشي. وأثناء مقامه بتطوان فكر طويلا في الطريق التي سيختارها للذهاب إلى فاس وسنأتي بعد قليل لتفصيل هذه الرحلة. ومهما اعتبرنا أهمية هذه الدراسات حول ثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة فإننا لا ننسى مدى فعاليتها في توسيع الهوة بين المخزن وبين القبائل فهذه الدراسات مكنت السلطات الاستعمارية من معرفة خصائص كل من هذه الأنظمة لتدخل كوسيط في آخر المطاف خلال فترة الحماية، خاصة تضعضع الجهاز المخزني وعجزه بسط كل نفوذه على جميع القبائل مما سمح للمستعمر هضم هدا النظام وتسخيره لطموحاته الاستعمارية، هذا من جهة أما من جهة ثانية والتي تخص بالأساس النظام القبائلي فهو كذلك لم يكن في حالة يحسد عليها بل العكس، ففي غياب سلطة عليا وتواجد بعض القبائل المتمردة وندرة بعض الموارد بالنسبة للقبائل أدى إلى نشوب صراعات بين بعض القبائل فيما بينها مما أدى إلى انعدام الأمن وانتشار القتل والخوف. ويشمل ذلك الغني والفقير، إذن كل هذه الظروف التي تعيشها العديد من القبائل خلال هذه الفترة أسهمت في تسهيل عملية تغلغل الجهاز الاستعماري الذي سيحل محل الجهاز المخزني خلال فترة الحماية وهذا ما حاول العديد من الباحثين شرعنته من خلال دراساتهم. وفي هذا الإطار نجد شارل دوفوكو من خلال كتابه " استكشاف المغرب " يركز على مسألة الأمن بحيث كررت غير ما مرة قضية انعدام الأمن بلاد السيبة إلى درجة انه " كتب انه سمح المسلمون وهم يقولون متى سيدخل الفرنسيون ليريحوننا من غياتة وننعم بالسلم مثل أهالي تلمسان.
السفر من طنجة إلى مكناس
إن ما يميز رحلة شارل دوفوكو هذه أنها مليئة بالشوق والمغامرات، فهو يحكي عندما كان متوجها إلى مدينتي طنجة وتطوان ما صادفه من مناظر نالت إعجابه خاصة الجبال الخضراء التي تحيط بالطريق التي كانت تسلكها القافلة تجاه طنجة، ومن المؤكد أن شارل دوفوكو استفاد من دعم السلطات الاستعمارية المشروعة خاصة الخدمة التي قدمها له المقيم العام بطنجة " اورديكا " الذي تسلم بدوره رسائل من المقيم العام بالجزائر لتسهيل رحلة دوفوكو بالمغرب وهذا ما تحقق، بحيث صاحبه مع يهودي مغربي يسمى أبي سرور المرد وشي الذي كان بمثابة اليد اليمني لشارل دوفوكو هذا إلى جانب تخفيه بالزى اليهودي لكي لا يفتضح أمره
ويحكي شارل دوفوكو كذلك ما شهده وهو في الطريق " شاهدت عند غروب الشمس الفرسان الخيالة مدججين بالسلاح،يأخذون مواقعهم عند أبواب القرى قرب قطعان الماشية على ربوات يراقبون المحاصيل الزراعية من فوقها..." إذا كان شارل دوفوكو وهو يشاهد الطبيعة المغربية ويبدي انبهاره بها فانه في نفس الوقت لم يكن متهاونا في التدقيق في تسجيل المعلومات التي جاء من اجلها وهذا ما يتضح في تحديده للعلو وللأماكن ولخصائص الطرق وغيرها من المعطيات المهمة
كانت رحلته إلى تطوان كذلك مهمة بحيث انبهر بجمالها وخاصة بجبالها العالية والمتميزة بالإضافة إلى إعجابه بالمدينة المتواجدة في تطوان ( الملاح ) الذي قال عنه " يوجد بالمدينة ملاح كبير أجمل وأحسن مبنى رايته في المغرب يقدر سكان المدينة ما بين 20.000 و25.000 نسمة من بينهم 600 يهودي تقريبا. ولقد أقام شارل دوفوكو في مدينة تطوان 10 أيام ولم تكن ضمن برنامجه كما أشار، بحيث إن رحلته إلى فاس كانت صعبة لان الطريق لم تكن آمنة. وبالتالي كان مضطرا للمكوث في مدينة تطوان لهذه المدة. وللإشارة هنا فشارل دوفوكو توجه إلى العديد من الجهات من اجل المساعدة لكنه لم يفلح في ذلك لان أهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل، بحيث إن القبائل أنداك تعرف مغبة عبور هذه الطرق التي لا يسلم من أمرها.
فالطريق التي كان يريد أن يعبرها كانت لا بد من يمر عبر أراضي الأخماس وبني زروال – بني حامد- رهونة - شراكة – فاس، وجدير بالذكر أن في هذه المرحلة كان الصلحاء والشرفاء يلعبون دورا أساسيا في مسألة الوساطة لكن مع ذلك لم يستطيعوا تقديم مساعدة لشارل دوفوكو. وفي آخر المطاف اضطر ليسلك الطريق العادي مرور بالقصر وكانت له الفرصة للقيام بجولة في الشاون التي انبهر بجمالها. ولقد كتب قائلا عنها " تنبع عيون من جميع الجهات وفي كل لحظة تعبر جداول تتدفق على شكل شلالات بين الخنجاروالدفلى وأشجار التين والكروم التي تنبت من تلقاء نفسها على الضفاف، لم أرى في أي مكان آخر مشهدا أكثر مسرة ولا مظهر غني ولا أرضا أكثر عطاء ولا أناسا أكثر اجتهادا في التحصيل، مثلما هم عليه هنا ". وفي سياق آخر يشير شارل دوفوكو إلى علاقة المغاربة - خاصة منطقة الشاون التي زارها الأجانب - كانت سلبية ويقول في هذا الصدد انه سمع الناس وهم يقولون " لا زال يحكي الناس فيما بينهم ما لقيه الاسباني السيئ الحظ من عذاب، الذي أراد قبل عشرين سنة خلت أن يدخل المدينة، وحتى اليهود الذين يسمح بوجودهم معرضون لأقبح المعاملات بحيث يعيشون في ملاحهم ولا يمكنهم مغادرته دون أن يهاجموا بالحجارة ويقول كذلك " عبر طول أراضي الأخماس لم يمر أحد بجواري دون أن يحييني بسبه " الله يحرق بوك اليهودي ".
ومن جانب آخر فإن دراسة شارل دوفوكو تعكس صورة المجتمع المغربي خلال هذه المرحلة حتى وان كانت دراسته هذه ذات طابع إيديولوجي، إلا أنها تقدم لنا بعض الصور المهمة ونذكر منها على سبيل المثال طريقة اللباس التي كانت سائدة أنداك، ويقول في هذا الصدد " بالنسبة للناس ذوي يسر، سروال ضيق ينحصر فوق الركبتين قميص قصير بدون أكمام من صوف ابيض يصل إلى منتصف الفخذ وأخيرا جلباب داكن وبلغة صفراء وطربوش حمراء..." أما النساء فلا شيء خاص يذكر بحيث يلبس ما كانت النساء في التل الجزائري يلبسنه وهو الصوف والقطن الأبيض لا تلبس النساء حجابا، وللعمل في الحقول يلففن حول ساقيهن قطعة سميكة من الجلد الأشقر معقودة في الأمام بإبزيم
إقامة بفاس
لقد كان مجيء شارل دوفوكو إلى فاس جيدا لان السيد بن شمعون أوصى عليه أحد التجار الرئيسيين بفاس بحيث تم استقباله أحسن استقبال. ولم يكن شارل دوفوكو يريد أن يمكث طويلا بفاس لأنها حسب ما عبر عنه أنها اكتشفت سالفا من طرف كشافة، وما كتب عنها كافي إذ كان يرغب في الوصول إلى المغرب المجهول الذي لم يتم اكتشافه بعد، لكن صعوبة الطريق التي سيسلكها للمغرب المجهول حسب تعبيره لم تكن سهلة خاصة وأنه لم يجد من يصاحبه إلا رجلا من الشرفاء بحيث كان يعرف الطريق جيدا، لكن هذا الأخير يفكر السفر إلى أبي الجعد وهي المنطقة التي يريد شارل دوفوكو أن يزورها لكن ليس في الوقت الذي يريده دوفوكو بحيث يريد التعجيل بالأمر، لان هذا الشريف الذي يعرف الطريق لن يسافر إلا في نهاية شهر رمضان مع العلم أن رمضان لم يكن إلا في أيامه الأولى وهذا ما لم يرق دوفوكو، لكنه مع ذلك اضطر للبقاء منتظرا هذا الشريف إلى أن يفوت رمضان، ولكي يستفيد من وقته استغل الفرصة لزيارة تازة. وكعودة إلى فاس كتب دوفوكو بعض مواصفاتهم قائلا " لسكان مدينة فاس المسلمين بشرة شديدة البياض وهم على العموم ذوو جمال كبير ملامحهم جد رقيقة بل متأنثة في بعض الأحيان وحركاتهم كلها نعومة، يقضون وقتا كبير في الحمام. لأكثريتهم وحتى للفقراء منهم تلك النظافة الهائلة التي تميز مسلمي الحواضر "
قبائل غياتة في تازة
لم يغفل شارل دوفوكو العلاقة التي كانت قائمة بين قبائل غياتة وبين مدينة تازة تلك العلاقة القائمة أساسا على النهب والسطو على كل ما هو موجود في المدينة وذلك بالعنف الذي تستعمله هذه القبائل، فهم وحسب تعبير دوفوكو يعاملون هذه المدينة معاملة الأراضي المحتلة، فيسلبون عنوة كل ما يروقهم، ويسفكون ساعتها دماء من لا يمتثل لأوامرهم عن طيب خاطر. الأبعد من ذلك أن قبائل غياتة تفرض حصارا على أهل المدينة بحيث لا أحد يتجرأ مغادرة المدينة أما فيما يخص المياه فأهل المدينة لا يستطيع احدهم أن يستفيد من مياه واد تازة لان غياتة يقومون بجلب الماء إلى المدينة لبيعه. إن هذه الصورة التي حاول شارل دوفوكو أن يبلورها حول علاقة قبائل غياتة بمدينة تازة تجسد فكرته حول بلاد المخزن وبلاد السيبة، بحيث تندرج هذه المناطق ضمن ما يسمى بلاد السيبة، لان المخزن لم يستطع أن يسيطر على الوضع الأمني وبالتالي عدميته على مستوى الساحة لخلق الأمن والاستقرار إلى درجة أن الناس الذين يعيشون في هذه المناطق ينتظرون بفارغ الصبر دخول الفرنسيين لتحقيق الأمن وتخليصهم من قبائل غياتة.
من مكناس إلى بجعد.
سوف لن نخوض هنا في رحلة شارل دوفوكو إلى بجعد لكن يستوقفنا هنا مسألة الأولياء ودورهم في الحياة الاجتماعية خلال هذه المرحلة. ففي منطقة تادلة بصفة عامة وكما يقول السكان " هنا لا سلطان ولا مخزن، لا أحد آخر إلا الله وسيدي بن داود " إذن هذه العبارة كافية لفهم النظام القائم في هذه المنطقة التي يمكن أن ندرجها من خلال هذه العبارة ضمن " بلاد السيبة " كما جاء بذلك شارل دوفوكو لكن ألا يمكن أن نقول إن القبائل المنضوية تحت هذا الولي الصالح بأنها تنظم نفسها بنفسها، صحيح أن صراعات عدة تنشب بين هذه القبائل لكن توحدها أتناء الصراع مع الأجنبي يفند فكرة بلاد السيبة، فالصراع قائم دائما من اجل البقاء خاصة وأن ندرت الموارد داخل هذه القبائل غالبا ما يكون السبب في نشوب الصراعات وكعودة إلى الولي الصالح سيدي بن داود نسجل أن الزوار يأتون من كل فج عميق بحثا عن تبريكات " السيد "، يأتون ومعهم الهدايا، وغالبا ما تكون من القمح أو البعير، وللإشارة هنا أن الزوار يكثرون يوم الخميس. ص 52 لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق. ما هو أصل هذا السيد ؟ فهو بعيد عن كل ما نسمعه من أصل ونسب الأولياء لكن لا يقل أهمية إذ ينتمي إلى سلالة عمر بن الخطاب بحيث استقر أجداده بالمغرب منذ 3 قرون ونصف فحصلوا بسرعة نظرا لمزاياهم الأخلاقية وأيضا لأصلهم المعروف والشريف على التوقير والاحترام الذي يتمتع بهما السيد سيدي بن داود.
حركة السلطان في تادلة سنة 1883
كان السلطان مولاي الحسن يقود حملات ضد قبائل قوية جدا فيتعذر إخضاعها لسلطته ولكنها في نفس الوقت شديدة الضعف أو التفرقة، فالسلطان يسعى إلى بسط السيطرة على بعض من قبائل تادلة وإخضاعها لكن تحركاته هذه ليست بالضرورة إيجابية ففي بعض الأحيان لا يستطيع أن يحقق مبتغاة خاصة عندما يتعلق الأمر بقبائل ذات عصبية قوية وذات نفوذ واسع وهو شأن قبائل غياتة التي لم يستطع السلطان أن يهزهما، ولا يختلف الأمر عن بعض قبائل تادلة خاصة منهم الرحل الذين اكتفوا بجمع خيامهم وابتعدوا من جبل ايت سري إلى جبا ل زيان، حيث أصبحت في مأمن ليبقى السلطان وحيدا مع جيشه يتجول وسط السهل الخالي فباءت حركته هذه بالفشل. لكن ما يميز سياسة السلطان خلال هذه المرحلة هي عملية تجديد الحركات والاعتماد على القياد الذين يسهلون عملية جمع الضرائب، فإذا كان السلطان فشل في محاولته الأولى في جمع ما يكفي من الأموال من قبائل تادلة الرحل فانه استطاع من هزم وصد مقاومة بعض القبائل الأخرى وتتمثل بالأساس في البراكسة هذه الفخدة التي رفضت أداء أية مساهمة مالية. فقامت الحرب بينها وبين السلطان فانتهت بانهزام فخدة البراكسة والاستيلاء على قصبتهم وهدم أسوارهم، وقطعت رءوسهم وأدخلوا السجون.
إن الدعم الذي يتلقاه السلطان من طرف القبائل الخاضعة والمنضوية تحت بلاد المخزن ساعدته في إلحاق الهزيمة على العديد من القبائل، لكن الملاحظ أن القبائل التي تكون مدعمة للمخزن هي نفسها تنقلب تارة أخرى عليه ويرجع ذلك إلى نفاذ صبرها من اللاهتمام التي تحضى به، علاوة على الضغط الذي يمارسه المخزن عليها من ثقل في الضرائب وعدم نعمهم بالأمن الأبعد من ذلك سلطة القياد، كل هذه العوامل أسهمت في خلق نوع من التمرد لدى هذه القبائل.
الخاتمة:
لقد كان للرحلة التي قام بها شارل دوفوكو العديد من المزايا، خاصة انه زار مناطق لم يتم دراستها بعد من طرف باحثين سابقين مما أعطى لدراسته هذه نكهة خاصة، إذ استطاع بفضل ذكائه أن يربط العديد من العلاقات سواء مع شرفاء من الزوايا أو مع أشخاص عاديين لهم من الجاه ما ينفعه لتسهيل أمره. هذا إلى جانب الخدمة التي قدمها اليهود المغاربة خاصة المرد وشي، بحيث رافقه في أطوار هذه الرحلة، ولقد حاول شارل دوفوكو أن يعكس المجتمع المغربي على ضوء منهج الملاحظة بالتعايش بحيث سمحت له الفرصة أن يتعايش مع المغاربة على الرغم من انه لم يكن مقتنعا بإمكانية ذلك، خاصة ما تعرض له من شتم وسب أثر مروره ببعض المناطق لكنه اكتشف فيما بعد أن المغاربة لا يحقدون عليه باعتباره رجل مسيحي أجنبي ولكن باعتباره جاسوس المستعمر الفرنسي الذي يريد الهيمنة على منطقتهم، لكن مهما كان هذا وذاك فشارل دوفوكو المتأثر بإيديولوجيته الاستعمارية من جهة والمعتقدات المسيحية من جهة ثانية شكلت نقطة تقاطع بين اعتباره أن المغاربة متعصبون دينيا خاصة عند تعرضه للسب والشتم إلى جانب المعاملة التي كان اليهود المغاربة يعاملون بها، ثم اعتباره المغاربة متسامحون ويرغبون في دخول فرنسا لحمايتهم عندما سمع مسلمون وهم ينتظرون فرنسا أن تحقق لهم الأمن مثلما فعلت في تلمسان.
إذا، لا نخفي اديولوجية شارل دوفوكو التي حاول غير ما مرة أن يسقطها على دراسته هذه وعلى سبيل التأكيد نجده وعلى غرار ثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة يرد غير ما مرة مسألة الأمن والتجزؤ الحاصل بين القبائل والصراع القائم بين المخزن والقبائل إلى غير ذلك من الملاحظات التي يستشف منها اديولوجية استعمارية يرمي من ورائها شرعنت أو للتهيئ إن صح التعبير، لأرض خصبة للتغلغل الفرنسي وإيجاد منافذ سهلة للسيطرة على المغرب. نسجل كذلك أن شارل دوفوكو في مساره كان يقوم بتسجيل العلو الذي تمتاز به الجبال والطرق التي كان يعبرها ثم مناطق الأنهار وتحديد الأماكن والجو المحيط بها وهدا دليل على الأهداف الاستعمارية من وراء دراسته هده.
ما يعاب على الدراسة كذلك أنها دراسة اثنوغرافية لم يكون لها إطار نظري حتى تكون دراسة بكل المعايير فاكتفاء شارل دوفوكو بالملاحظة المعايشة لم يمكنه من الإحاطة بالبنيات التقليدية التي تشكل النواة الأساسية للتنظيم القبلي.
وبالمقابل لا يمكن أن ننكر قيمة هذه الدراسة لما حاولت أن تقدمه من معطيات حول المجتمع المغربي خلال فترة ما قبل الحماية والتي تنقل لنا صورة مميزة على المجتمع المغربي إلخ. إلى درجة أن شارل دوفوكو انبهر بجمال بعض المناطق التي جعلته يغني بها بعبارات شعرية. وهذا الانبهار يرجع إلى 1883.