حاخامات الدم في الشرق الأوسط
الثلاثاء 09/أبريل/2019 - 02:38 م
طباعة
حسام الحداد
لم تتأثر المجتمعات العربية بفلاسفتهم ومفكريهم أمثال ابن رشد، وابن سينا، والفارابي، والرازي، ومحمد عبده.. وغيرهم مثلما تأثرت المجتمعات الغربية بأفكار كانط، وروسو، وراسل، وديكارت، وركنت لأفكار متشددة جرتها إلى دوامات من التعصب الأعمى، فأيقظت الفتنة النائمة، وأشعلت الامة وبات واقعها خريطة لبؤر الصراعات المستعرة، التي يوجهها الغرب لخدمة أغراضه الشيطانية.
ترى هل تستسلم لذلك الواقع المرير، أم ستفيق من غفوتها وتدرأ عن نفسها تلك الأخطار التي تحيطها، ومن قبل تجفف منابع الفكر الهدام الذي انبثق من داخلها؟!
سؤال فرضه واقع متشابك ومتأزم، ويحاول هذا الكتاب أن يقدم قراءة موضوعية للأسباب التي أوقعتنا في ذلك الشرك بغية الوصول لمرفأ أمان.
كتاب "حاخامات الدم في الشرق الأوسط" للكاتب أحمد محمد عبده، إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة 2018، والذي يحاول فيه الكاتب الإجابة على السؤال السابق من خلال مقدمة وستة فصول، حيث يعد الفصل الأول من الكتاب تعريفات عامة أو مدخل يؤسس فيه للقضايا التي سوف يناقشها في هذا الكتاب، والذي يحتوى على نتيجة مهمة توصل لها الكاتب حيث يقول "لو امتلك العرب والمسلمون الشخصية القيادية، وفعّلوا العقل العلمي النقدي، وتخلّو عن الطائفية والمذهبية، ونظروا للمستقبل "كأنهم يعيشون أبدا"، وفهموا روح العصر ولم يجعلوا من الدين معايير للعلم، ولم يحشروه في السياسة مع أن الإسلام جوهره العلم وبما يملكون من مؤهلات وامكانات وثروات، لكانوا في طليعة الأمم"، هذا ما يؤكد عليه في أولى صفحات الكتاب من خلال اقتباسين مهمين أحدهما لابن خلدون يقول فيه "إذا أردت أن تقنع العامة بقضية.. فغلفها بالدين"، والاقتباس الثاني لعالم الاجتماع العراقي "علي الوردي" يقول فيه "لو خيروا العرب بين دولتين، دولة دينية ودولة علمانية، لصوّتوا للدولة العلمانية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية".
ويختتم الفصل الاول بعنوان مهم "كيف تكونت ثقافتنا؟" حيث يسرد لنا كم الخرافات التي زرعت في أدمغتنا حتى أصبحت مشكلتنا في العالم الإسلامي أننا وضعنا كل تركة الأجداد في موضع قدسية القرآن، قدسنا الكلام وقدسنا الرجال، وفضلت الاجيال السير على نهجهم عجزا عن التنقية والتحديث، تجنبا للانتقاد، فاصطدم كم كبير من التراث مع حداثة العصر، ونجد أن لكلمة "التراث" قداسة في ثقافتنا تتوازى مع قداسة القرآن. فتاهت الأجيال المتعاقبة بين كثرة المذاهب والأراء وتناقضها، وادعاء المعرفة بالفطرة والعاطفة وتعليم عشوائي متعصب، يفتقد للمنهجية المتدرجة.
وفي الفصل الثاني يتناول الكاتب "محنة هذه الأمة"، من خلال رصد لأخبار الجماعات والتنظيمات الإرهابية ووصفها بأنها "فرق تمزيق الأمة"، حيث ظهرت بدايات التعصب المذهبي عند المسلمين، خلال القرون الثلاثة الهجرية الأولى، ما أدى إلى ظهور عشرات الفرق والمذاهب والتنظيمات، فكانت محنة الأمة في فرق، كل فرقة تحتكر الحقيقة، وكل فرقة يتلبسها "وهم الفرقة الناجية"، ويقدم الكاتب على عجالة لأكثر من 200، فرقة ومذهب وتنظيم، كل واحدة منهم يتخيل أصحابها أنها الفرقة الناجية وباقي الفرق على باطل وضلال ويجب محاربتها.
وفي هذا الفصل يعيد الكاتب ظهور الحركات الدينية كرد فعل لظروف سياسية، وأزمات اجتماعية، وفي الغالب يكون الدافع لها ظروف المراهقة العمرية للصغار، أو المراهقة الثقافية حين تسيطر تلك الأفكار على الكبار.
هذه الاسباب وغيرها صوّرت الخلافة، وتطبيق الشريعة، كأنها المنقذ من الفشل، والخروج من "الجاهلية الجديدة" على حد زعمهم، فلا العالم الإسلامي صار كيانا قويا مكتملا بنهج الإسلام، ولا هو انتهج الليبرالية التي حققت لشعوبها العدالة والعزة والتقدم والرقي.
أما الفصل الثالث والذي عنوانه "الغرب في خدمة الإسلام" يناقش فيه الكاتب التنظيمات الكبرى بداية من الحركة الوهابية، ثم جماعة الإخوان، وحركة حماس، وتنظيمي القاعدة وداعش، ويبدأ الكاتب بالحركة الوهابية وكيف شجعت بريطانيا محمد بن عبد الوهاب ودته بالأموال والسلاح لغزو البلدان الإسلامية الواقعة تحت سيطرة الخلافة العثمانية، في الجزيرة العربية والشام واعراق، فنهبوا وسلبوا وقتلوا وأسروا الرجال والنساء والأطفال بدعوى أنهم كفار.
وعن جماعة الإخوان يسرد لنا الكاتب كيف تعاونت الجماعة منذ تأسيسها مع بريطانيا وخاصة فرقة المخابرات m6 ، ليس هذا فقط بل تعاون البنا مع حكومة هتلر النازية وتلقي أموال منها أيضا مستفيدا من الحرب والخلاف البريطاني الألماني، حيث ذكر المؤرخ البريطاني جورج كيرك، أن حسن البنا حصل أكثر من مرة على مبلغ 2000 جنيه من مكتب مخابرات ألمانيا النازية بالقاهرة، وهو ما أكدته البرقيات التي كانت في مكتب البعثة الألمانية في القاهرة.
اذ يؤكد الكاتب في هذا الجزء أن جماعة الإخوان منذ النشأة وحتى الأن تلعب لصالحها فقط وتلعب مع من يدفع لها فليس لديها انتماء لوطن أو جنس أو دين وانما ولائها للأموال التي تتدفق عليها.
وينتقل بنا إلى جناح الإخوان في غزة "حماس" وكيف صنعتها ودعمتها اسرائيل لإضعاف منظمة فتح.
وينتقل الكاتب في هذا الفصل لتنظيمين مهمين لعبا دورا مهما في تفتيت الدول العربية واشعال الصراعات في المنطقة، "القاعدة وداعش"، حيث أفرخت جماعة الإخوان تنظيم القاعدة وتنظيم القاعدة أفرخ لنا عدد لا حصر له من الجماعات والتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش"، وارتباط هذا التنظيم الأخير بالمخابرات الأمريكية، حيث ذكرت تقارير اخبارية متنوعة أن "مايكل فيكرز" صقر المخابرات المركزية الأمريكية هو القائد الفعلي لقوات داعش، والرأس المدبر لكل عمليات التنظيم في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وهو مهندس تفريخ وتدريب الجماعات، حيث يرجع تاريخه إلى عمليات مقاومة السوفييت في أفغانستان فهو الذي جند وسلح الأفغان والقاعدة وطالبان، وهو قائد العمليات الخاصة في وزارة الدفاع الأمريكية.
أما الفصل الرابع والذي عنوانه "كهف الأفكار الشاذة"، حيث يفكك فيه الكاتب ويناقش شعارات تلك الجماعات وعلى رأسها جماعة الإخوان حيث يقول " فالجماعة تنظيم حركي سياسي، يتخذ من الشعارات الدينية رداء لجذب الجماهير إليه، وسبيلا للقفز على السلطة، مستعينا بكلمة لحسن البنا يقول فيها: "ومن صبر معي حتى تنمو البذرة، وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين القطاف، فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر الحسنيين.. إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة"، فالقطاف هنا حسب الكاتب هو لحظة القنص والقفز على السلطة، وبالطبع فلن يتأتى لهم ذلك إلا بما قاله البنا في موضع آخر ".. ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار، واعداد الجنود، وتعبئة الصفوف"، فيا ترى: النصر والسيادة على من؟ والشهادة في من؟ ومن هؤلاء الجنود إلا إذا كان الحديث عن ميليشيات دولة داخل الدولة؟ وهل هنا رائحة لتوجيه القتال لمحتل القدس؟ أم هي ميليشيات في كهوف وجحور الدولة لقتال الدولة؟
أما الفصل الخامس فيناقش فيه الكاتب "شريعة الذبح المقدس"، ويصدره بعنوان كاشف "كيميا الدين والتدين" مستندا لاقتباس من كتاب إقبال الغربي "مقاربة نفسية لفهم التطرف الديني"، حيث تقول: "الجمود الذهني هو عطب يصيب الإنسان بعجز عن تغيير وجهة نظره، ولا يسمح له بوضع نفسه مكان الأخر لفهمه وتفهم أفكاره، والمصاب بالجمود الذهني يرتكز على ثوابت ومسلمات لا تقبل النقاش، ويبحث المصاب بذلك الجمود عن آخرين لا يختلفون معه فكريا، فهو سيجد فيهم الراحة والأنس والمعاونة، وعدم تكدير النفس، وارضاء نرجسيته، فينشأ عنده التعصب وكراهية الأخر، فهذا الأخر في نظره يمثل خطرا، ليس عليه وحده أو على جماعته، بل على نظام الكون ويسبب الفوضى والفساد، إن الانطواء والانغلاق على الذات هو انتصار لغريزة الموت".
ويستطرد الكاتب تحت عنوان "على جماجم الواقع وفوضى الكتابة"، بأن الشرق الأوسط منطقة منكوبة باهلها، تحترق الآن بنار "الفرقة الناجية من النار" اعتقدوا هذا عصرهم ، السني يقتل الشيعي لأنه يقول في الأذان علىّ ولي الله، والشيعي يقتل السني إذا كان اسمه أبا بكر أو عمر، حتى صارت المنطقة العربية والإسلامية مثل بقرة برية اجتمعت عليها مجموعات ذئاب ملتحية، يد تحمل المصحف ويد تحمل الساطور، أرض الطائفية والقبلية والمذهبية والتنطع والتشدد، ذبح البشر على صيحة الله أكبر، وينتهي الكاتب من هذا الجزء بنتيجة مهمة ألا وهي ان الطريق إلى داعش يبدأ بالجماعة السلفية، الطريق إلى داعش يبدأ من التعليم ومن خطباء الجوامع، من انحلال المجتمع وانعدام العدالة.
اما الفصل السادس والأخير فقد عنونه الكاتب "نصوص الفتنة وسفك الدم إشكالية التفسير"، حيث العالم الإسلامي محاصر داخل همجية التطرف وإشكالية تفسير/تأويل النص، فيؤكد الكاتب عبر استشهادات كثيرة أن نكبة الأمة جاءت من التمسك بظاهر النصوص، والتمسك بمحل الإقامة الأول للأمة، رائحته وثقافته وطبائعه وأدواته، وما سن فيه من سنن تناسبه، نصوص مقاصدها أبعد من حروف كلماتها، فنفتقد الجرأة على فتح بطن النص، فأصبحت النصوص قطع صماء، ونحن أمة ترديد النصوص بامتياز، مفهومنا لعصر الخيل والبغال والحمير، هو مفهومنا لنفس النصوص في عصر الصواريخ والسفر إلى المريخ.
منتهيا بأنه لا ينبغي علينا أن تتوقف حياتنا عند مفردات حياة المسلمين الأوائل: الخلافة، البيعة، والجزية.. وغيرها، فلابد من تغيير الخطاب الديني لإخراج الناس من جب الغيبيات إلى سطح واقع الحياة، أو التوازن بينهما وعدم تغليب جانب على آخر.