الكنيسة وتجدبد الخطاب الديني قضية جورج بباوي نموذجا
الخميس 10/سبتمبر/2020 - 06:36 ص
طباعة
حسام الحداد
يحصر البعض مطالبات "تحديث أو تطوير الخطاب الدينى" فيما يخص الدين الإسلامى فقط"، ويفهم المتلقون منها "أن الخطاب الإسلامى هو المعنى بالتجديد بعد ظهور داعش وحركات العنف الدينى وجماعات التكفير وتوغلها بهذا الشكل، إلا أنه وفى السياق نفسه لابد لنا أن نلتفت إلى أن الخطاب الدينى المسيحى ربما يحتاج للتجديد أيضًا، لتسير تلك المحاولات بشكل متوازٍ يناسب العصر ولا يُخرج المرء عن دينه مع ما يستجد من أسئلة.
وكثيرا ما يتخذ باباوات الكنيسة الأرثوذكسية وكبار الكهنة والمطارنة موقفا معاديا من تجديد الخطاب، فالبابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، "لا يرى أن الخطاب المسيحى يحتاج إلى تجديد"، بل يؤكد فى حوار تلفزيونى أن المسيحية لا تعرف ما يسمى بـ"تجديد الخطاب الدينى"، فالتعليم فى الكنيسة محدد بنظام ثابت وواضح والتطوير الكنسى يسير، وتتجه الكنيسة من عصر الأوراق إلى عصر الكمبيوتر، أما الصلوات التى كانت باللغة العربية والقبطية والألحان موزونة على ذلك فتعمل الكنيسة على ترجمتها إلى اللغات الأخرى وتحديثها حتى يفهم المستمع وفق لغته.
ورغم أن بابا الأرثوذكس المصريين يترجم مسألة تجديد الخطاب الدينى على طريقته، ويرى أنها لا تتناسب مع المسيحية، إلا أن الفاتيكان والكنائس الكاثوليكية التابعة له، شهدت محاولات كثيرة للتجديد، آخرها ما جرى فى المجمع الفاتيكانى الثانى الذى قاده البابا يوحنا الثالث والعشرون فى الفترة من 1962 وحتى 1965 وهو المجمع الذى شهدت الكنيسة طفرة كبيرة على يديه.
وما يؤكد موقف الكنيسة الأرثوزوكسية من قضية تجديد الخطاب الديني ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الجدل، خلال الأيام القليلة الماضية؛ حيث تعرض البابا تواضروس، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، إلى هجوم حاد بعد سماحه بتناول الدكتور جورج حبيب بباوي، من الأسرار المقدسة، باعتبار أنه معزول من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ عام 2007 بقرار من المجمع المقدس برئاسة البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث، في الوقت الذي دافع فيه البعض عن قرار البابا، مبررين إياه بدور الكنيسة المهم في دعم التوبة من أي شخص أخطأ.
جورج حبيب بباوي:
ولد جورج حبيب بباوي في السابع والعشرين من شهر نوفمبر عام ١٩٣٨ ، بحي مصر القديمة بالقاهرة، كان جورج ذَا احساس مرهف، ميال الي الفكر الصوفي، يمتلك عقلا يشبه عقول الفلاسفة، تنقل بين الكنائس الإنجيلية ، والارثوذكسية، وبرغم نشاط الكنيسة الإنجيلية آنذاك ، وكثرة منشوراتها سواء ترجمة او تأليف ، الا انه استقر بكنيسته القبطية الارثوذكسية ، وتتلمذ علي احد اقطاب الروحانية الارثوذكسية ، القمص مينا المتوحد، كان ذلك أواخر عام ١٩٥٦ ، بكنيسة مار مينا بمصر القديمة.
اتخذ جورج القمص مينا المتوحد ، مرشدا له، وأب اعترافه، كما انه وجد فيه ضالته، وبالكلية الإكليريكية تعمق في دراسة الفكر اللاهوتي للكنيسة القبطية، وتاريخ الأقباط ، وحياة الليتورجيا ، كما تعرف علي اساتذة الروحانية الارثوذكسية ، وكان نهما للعلم فيذكر انه قرأ كل الكتب المسيحية التي صدرت باللغة العربية تقريبا، كما اطلع علي الكثير من المخطوطات، وتعلم اللغة القبطية جيدا، كما تعلم أسس اللغة اليونانية واستكمل دراستها بإنجلترا .
كان جورج اول دفعته الي ان تخرج عام ١٩٦١ ، وعين معيدا بالكلية، وابتدأت رحلة الأبحاث الحقيقية واستكمال الدراسة.
وحدث بتاريخ ١٩٦٢/٩/٣٠ ان سيم القمص أنطونيوس السرياني اسقفا للتعليم ، باسم الانبا شنودة، وكان الانبا شنودة مولعا بالصحافة والإعلام ، فقرر ان يصدر مجلة الكرازة بعد سيامته بسنتين تقريبا، وصدر العدد الاول في يناير ١٩٦٥ ، واختير جورج المعيد بالاكليريكية آنذاك ليكون احد كتاب المجلة، ( راجع العدد الاول ص ١٥-٢١ ، العدد الثاني والثالث ص ٩-٢١ ، والعدد الرابع ص ٢٤-٢٦ ) ثم سافر جورج الي إنجلترا لدراسة الدكتوراه ، وكانت منحة دراسية من جامعة كمبردج بلندن ، ساعده في الحصول عليها المتنيح نيافة الانبا صموءيل ، ونشرت الكرازة هذا الخبر بالعدد الثامن ١٩٦٥ ، ص ٣٧ .
قرار العزل والرد عليه:
قرار المجمع المقدس الصادر بعزله من الكنيسة سنة 2007 بإمضاء من البابا الراحل البابا شنودة الثالث، و 66 أسقف أخرين.
وجاء فى قرار العزل :"أن المجمع المقدس قرر فرزه وعزله من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بسبب انحرافاته واللاهوتية والعقائدية والطقسية ونشرها وتشوية فكر الآخرين بها وتشبثه بأخطائه وتنقله بين المذاهب المختلفة، وفرز وعزل كل من يؤمن بنفس أفكاره المنحرفة وبالتالي لا يسمح له ولهم بالاشتراك فى أي سر من أسرار الكنيسة القبطية الأرثوذكسية".
وقد أصدر الدكتور جورج حبيب بباوي ردا على ما جاء بقرار المجمع المقدس عبر موقعه "موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية"، أكد من خلاله أنه منذ أن:" أُبعِدَ عن الكنيسة القبطية، لم ينضم إلى أي كنيسة أخرى، بل ظل يخدم في الكنائس الأرثوذكسية الروسية واليونانية وغيرها، ولأنه مدرِّس جامعي، فإنه يُدعى لإلقاء محاضرات متتابعة في الكنائس ومعاهد اللاهوت الأرثوذكسية وغيرها، وهو ذات ما كان يقوم به أثناء وجوده في مصر، حيث خدم في كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة – المعهد الإكليريكي للأقباط الكاثوليك بالمعادي – جامعة الروح القدس المارونية – كلية اللاهوت للشرق الأدنى ببيروت – الجامعة الأمريكية ببيروت".
الكنيسة وتجديد الخطاب الديني:
أثار الجدل حول قضية تناول جورج بباوي شجون البعض وتخوفا من المطالبة بتجديد الخطاب الديني، الذي يطالب به عدد ليس قليل من المثقفين المصريين على اختلاف عقائدهم، إلا أن ما كان مستغربا هو لغة الخطاب المتشدد من بعض المثقفين والاعلاميين المسيحيين الذين كانوا قبل الواقعة يطالبون ويؤكدون على أهمية تجديد الخطاب الديني، حيث بات جليا ان هؤلاء المثقفون انما يطالبون بتجديد الخطاب الديني الإسلامي دون المسيحي، على اعتبار ان الدين المسيحي وخاصة الأرثوزوكس انما هي ديانة مكتملة وليست في حاجة لتجديد، ووصل بأصحاب هذا الرأي من التشدد في الخطاب لدرجة أن قال " نشكر الله لان تداول الناس لنشر موضوع جورج حبيب بباوي المعزول والمفروز كنسيا وبقرار مجمعي لارتكابه مخالفات واخطاء لاهوتية جسيمة ضد تعاليم كنيستنا العريقة، كشف لنا وللراي العام ما اشبه بشبكة كانت تخطط لمحو هوية وإيمان كنيستنا القبطية العريقة.. واذرع كبرى لهذا الهرطوقي تجلسه في عقولها كإله ، وترى في أن هذأ المعزول قام بتأصيل الفكر الأرثوذكسي وكأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العريقة بأصالتها وتمسكها بإيمانها وعقيدتها الراسخة ودفاعها عن الكنيسة ضد الهرطقات منذ قرابة ٢٠ قرنا من الزمن وقفت فيها امام عتاة من الهراطقة وحرمتهم حفاظا على الامانة كانت بلا إيمان إلى أن جاء هذا المعزول والمفروز ليؤسس لها إيمانها"
للأسف الشديد ان صاحب هذا الاقتباس صحفي واعلامي كبير ودائم الحديث عن التنوير وتجديد الخطاب الديني وحاجتنا إلى التطوير في المفاهيم الدينية حينما يكون الأمر متعلقا بالدين الإسلامي، أما بخصوص المسيحية فنجد خطابه هذا الذي أقل ما يوصف به أنه خطاب متشدد وطائفي بدرجة كبيرة واقصائي، هذا ما يوضحه جليا اتهامه كل من وقف بجانب الدكتور جورج بباوي بالتخطيط لمحو هوية وإيمان الكنيسة القبطية، ثم الحديث عن الكنيسة الأرثوزوكسية وكأنا الوحيدة المؤمنة والتي تدافع عن الإيمان، متماهيا مع الخطاب السلفي الإسلامي الذي يستند إلى أحاديث الفرقة الناجية وأن باقي الفرق في النار.
ويستطرد الكاتب في خطابه المتشدد بقوله " أن المطلوب الآن وبقوة هو كشف كل الأذرع التي تنتمي لهذا الهرطوقي والتي تسعى وتخطط مخططات فاشلة وستفشل لتغيير هوية وعقيدة الكنيسة تحت ستار التنوير والإصلاح المزعوم"، متناسيا أنه هو نفسه قبل هذه الواقع يطالب بالتنوير والإصلاح.
لم يكتف بالهجوم على جورج بباوي والمساندين له في أيامه الأخيرة بل هاجم العلمانية التي كان يطالب بها ويتحسر على عدم تطبيقها بقوله " أن قداسة البابا شنودة الثالث العلامة والرجل الوطني المحب ل( مصر ) كان قد كشف منذ زمن عن هذه الأذرع التي يستخدمها جورج حبيب بباوي للهجوم على الكنيسة وهو التيار العلماني القبطي".
ولا شك ان الكاتب كون رؤيته هذه أو خطابه هذا من خلال مجموعة من القراءات سواء للنصوص الدينية أو نصوص جورج بباوي وهذا النوع من الخطاب يقيم نوعا من التقاطع الذي يكاد يصل إلى حد التماهي بين النصوص الدينية وبين فهم (قراءة) تلك النصوص، ويترتب عن ذلك ادعاء ضمني بالقدرة على النفاذ إلى «جوهر» النص، أي إلى تحقيق نوع من التطابق بين النص والقراءة. وهذا من الناحية النظرية والإجرائية مستحيل لاختلاف «زمن النص» عن «زمن قراءته»، ومثل ذلك الادعاء يفهم في غالب الأحيان على أن القارئ يفهم ما لا يستطيع الآخرون أن يفهموه، ويرمي من وراء ذلك إلى أنه وحده من يمتلك «الحقيقة» الدينية، مما يوقع الخطاب في تناقض صارخ بين ادعائه التنوير والعلمانية في أحاديثه الصحفية وتصريحاته الإعلامية وبين امتلاك الحقيقة المطلقة والحكم على الأخر بالإيمان والكفر.
ومن شأن هذا كله أن يكرس مبدأ «القراءة» الواحدة للنص، مما يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى إلغاء العقل، ويتمثل هذا الإلغاء بالخصوص في استحضار تراث «السلف»، حيث يمارس نوعا من الانتقائية، وهكذا يتشكل خطاب يقيني مبني على التجريد، الذي يقصي في كل الأحوال البعد التاريخي للنص الديني، ويتجاهل سياقه الخاص.
وكذلك فان هذا الخطاب لا يقوم بإلغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و"الموضوع" فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء- ضمني- بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في النصوص. وفي هذا الادعاء الخطير لا يدرك هذا الخطاب أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة "الحديث باسم الله"، ومن العجيب أن صاحب هذا الخطاب يعيب هذا المسلك ويندد به في حديثه عن موقف الكنيسة من العلم والعلماء في القرون الوسطى.
نتائج:
المتابع لقضية د. جورج بباوي على السوشيال ميديا أو المواقع الإخبارية يصل لحقيقة مفاداها
- ان بعض من المطالبين بتجديد الخطاب الديني الأقباط انما يقصدون تجديد الخطاب الديني الإسلامي وليس المسيحي.
- أن التيار المحافظ يكرس مبدأ «القراءة» الواحدة للنص، مما يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى إلغاء العقل.
- ان هذا الخطاب التقليدي أو المحافظ لا يقوم بإلغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و"الموضوع" فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء- ضمني- بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في النصوص.
- أن الحكم بالهرطقة لا يجب أن يصدر إلَّا بعد محاكمة يتاح فيها للمتهم أن يدافع عن نفسه، ذلك هو قانون الكنيسة.
- فى الإسلام هناك ما يسمى بأسباب النزول، أما فى المسيحية يوجد ما يسمى بالخلفية السياسية والدينية والاجتماعية للنص.
وحينما تقول الكنيسة أن "النص صالح لكل العصور، وهو وحى من السماء ويواكب البشرية فى تطورها"، لا نستطيع هنا أن ننكر أن النص ولد فى بيئة معينة، وفى خلفية مغايرة، وفى ظروف محددة، فلا يمكن انتزاع النص من سياقه التاريخى، وتأويله فوق ما ينبغى تأويله.
- أن العصر تغير لذلك فإن النص الدينى يحتاج أن يواكب العلم الحديث والتكنولوجيا وحقوق الإنسان، ويؤكد أن هناك مسائل بعينها تنتظر التجديد فى الفكر المسيحى مثل حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وكذلك قضايا الزواج والطلاق.
- اذا كان فى الإسلام هناك معنى عميق لسماحة النص، كذلك فى المسيحية النصوص قابلة للفهم والتأويل ونفهمه بطرق متنوعة، ولكن حدث فى بلادنا ما يسمى بجمود التفسير وصار التفسير مقدس كالنص، رغم أن النص يحتمل أكثر من قراءة وفهم حسب المدارس المتعددة وتفسير النص محاولة بشرية، وبالتالى لا توجد قراءة شرعية وحيدة للنص، وهو ما أوجد كنائس متعددة، ومذاهب متعددة فى الإسلام".