الخلايا التكفيرية النائمة في ربوع الثقافة المصرية.. تقديس التراث الفقهي ومحاربة العلم (4)
الأربعاء 16/ديسمبر/2020 - 07:07 م
طباعة
نستكمل مناقشة كتاب محمد جاد الزغبي كتاب "شرح تلبيس إبليس لابن الجوزي" الجزء الأول "المعتزلة والشيعة"، والصادر عن وكالة العز للدعاية والإعلان في 2010، وقد نوهنا في المقالة الأولى بأننا سوف نتناوله في أكثر من مقالة لكشف ما فيه من دعاية وتحريض ضد مفهوم الدولة والمواطنة وعدم اعتراف بالدولة المصرية وتكفير مواطنيها.
تقديس التراث:
وقبل ان نتطرق لهجومه على رموز الثقافة المصرية كأفراد، نستكمل معا هجومه على تيار النهضة أو التنوير او العصرانيين الجدد كما يحب هو تسميتهم حيث يقول: "وتركز دور العصرانيين العرب في ترديد نغمات المعتزلة التي اهتزت أوتارها قديما بتلك المبادئ ومنها: الدعوة للاستهانة برموز الإسلام كبعض الصحابة الكبار مثل معاوية بن أبي سفيان وأبي هريرة وعمرو بن العاص وغيرهم وأيضا الاستهانة بمن تلاهم من قمم ورموز العلوم الفقهية والمحدثين كبن حنبل ومالك وابن تيمية وغيرهم واعتبارهم أشخاصا عاديين يحظون بالتكريم فيما قدموه بعصورهم وليس لهم في عصرنا الحالي مكان معتبر على اعتبار أن العصرانية تفرز للأمة من يتفوق عليهم ! ورغم هذا يقعون في التناقض عندما يبالغون مبالغة ملحوظة في الإشادة بمنحرفي المعتزلة وعلماء الكلام ويعتبرونهم ضحايا الفقهاء لا العكس !
بداية ومن خلال هذا النص المقتبس يتضح لنا جليا تقديس الكاتب لجانب التراث الفقهي وعدم اعتبار ممثلي هذا التراث بشرا، وتؤكد أن نظرة الكاتب للتراث الاسلامي المبكر، هي تلك التي تدَّعي قدسية التراث و صلاحيته لكل زمان و مكان. ويغفل الكاتب أنه حين نقدس شيئاً ما نتوقف عن النظر في تفاصيله بموضوعية، فإذا أضفنا إلى ذلك فكرة صلاحيته الأبدية، فإننا نغض النظر عن الظروف الموضوعية التي تفاعل معها فأنتجته و أنتجها. بعبارة أخرى، نحن جمدنا تراثنا و سافرنا به عبر العصور دون أن نبالي بتبدل الأزمنة و الظروف، فإذا بالهوة تتسع بينه و بين حاضر متغير نصطدم بمفاهيمه و شروطه كل يوم.
كما يغفل الكاتب تماما، ربط التراث الاسلامي بالتاريخ و الجغرافية، أي بظروف الزمان و المكان، وأنها الخطوة الأولى في تفكيك المأزق الحضاري الذي نعاني منه. لأنه سيجعلنا ندرك الأسس التي انطلق منها التراث، و المفاهيم التي رافقته، و الظروف الموضوعية التي تحكمت فيه، و نقارن كل ذلك بعالم اليوم و مفاهيمه و ظروفه. التراث الاسلامي مهما كانت مصادره تعامل مع واقع معين كان موجوداً قبله، واقع ينتمي إلى عصر انقضى، العالم اليوم اختلف كثيراً في معظم جوانبه.
كذلك انحياز الكاتب لأئمة النقل او ان شئنا الدقة مدرسة النقل مقابل مدرسة العقل في هجومه على المعتزلة وغيرهم، وكذلك وقوعه في خطأ منهجي مهم، حيث استشهد بمالك وابن حنبل وابن تيمية دون الالتفات للفروقات المذهبية التي انتجها الظرف التاريخي لكل منهم.
وأخيرا نهدي الكاتب هذا النص المقتبس للإمام الشوكاني الذي تعتمده الجماعة السنية أحد مصادرها المهمة خصوصا هذا التيار الملتصق بالتراث حيث يقول: "ان ترك الاجتهاد من القادر عليه كفر وشرك، لأنه تعطيل لكتاب الله وسنة رسوله وإحلال لقول صاحب المذهب محلهما، انهم يعتقدون العصمة في أئمتهم مع أن الذين يقلدونهم لا يعدون الحق موقوفا عليهم" الشوكاني أدب الطالب ص 22.
محاربة العلم:
يستطرد الزغبي في اتهامه للعصرانيين العرب كما يحب هو ان يسميهم ويقول انهم يتبنون: الدعوة لتمجيد الانحراف في ممثليه عبر التاريخ الإسلامي كالاحتفاء الشديد بملاحدة الفلاسفة كبن سينا، وبالروافض أصحاب التزييف كبن النديم صاحب الفهرست والأصفهاني صاحب الأغاني ومقاتل الطالبيين والجاحظ رمز المعتزلة وحمدان قرمط رمز القرامطة المنتمين لملاحدة الإسماعيلية وغيرهم
يتضح من هذا النص المقتبس أن الزغبي في كتابه هذا لا يعترف بالعلوم والفنون والأداب التي قامت عليها الحضارة الإسلامية بينما يعترف فقط ويقدس المنتج الفقهي لهذه الحضارة وليس أي منتج فقهي، بل المنتج الفقهي المعادي للعلوم الطبيعية والأداب والفلسفة، فهو يقدس ابن تيمية في الفقرة السابقة الذي هاجم الفلاسفة والعلماء، وسيرا على نهج ابن تيمية في التكفير، يخرج الكاتب ابن سينا وابن النديم والأصفهاني والجاحظ من الملة ويصفهم بالملاحدة، وينسف منتجهم المعرفي الذي ارتفع بالقيم الانسانية والحضارية مما جعلنا نباهي الامم بهم ونؤكد مساهمتنا في بناء الحضارة الانسانية بهم، ولنعط مثل بسيط لابن سينا وكتابه "القانون في الطب"، والذي له أهمية خاصة لدى الأوروبيين قديما وحديثا، بالرغم من أنه لم ينل هذه الأهمية في الشرق أو من جانب الباحثين العرب، سوى في الاقتباس منه، بضع فقرات من هنا او هناك، أو حتى النقل عن الآخرين، أو عمل الشروحات والملاحظات، ولم يفكر أي باحث عربي على امتداد سنوات طويلة في تناول الكتاب بالتحقيق العلمي إلى أن جاء الدكتور ماهر عبد القادر أستاذ تاريخ العلوم بجامعة الإاسكندرية وقام بتحقيق الكتاب في 2008، وهي مسألة تدعو إلى الدهشة، خاصة وأن كتاب "القانون في الطب" هو أكبر سفر طبي في القرون الوسطى، زود الأطباء في الشرق والغرب على السواء، بزاد معرفي وعلاجي وجراحي وتشريحي لم يتوفر لعالم أو طبيب من قبل، ومع هذا اتجه أغلب الذين عرفوا ابن سينا في الشرق إلى دراسة اسهاماته الفلسفية والمنطقية وأهملوا الجانب العلمي عنده، بل ولم يعيروه الانتباه والاهتمام الكافيين، لتركيزهم على الجانب الفقهي والتكفيري كما يفعل كاتبنا، على عكس ما فعله الغرب الوسيط والحديث الذي أولى الجانب العلمي عند ابن سينا، والمتمثل في كتاب "القانون في الطب" أهمية كبيرة.
لقد برع علماء المسلمين بشكل كبير ومؤثر في علم الطب، وقد عظم تأثيرهم في الأوساط اللاتينية في عصر النهضة، وقد امتد التأثير من مرحلة الترجمة الى مرحلة الإبداع عبر مرحلة التأسيس، ومن أهم رواد الطب العربي في فترتي الترجمة والتأسيس الطبيب والمترجم العربي حنين بن إسحق الذي أرسى دعائم مدرسة علمية في الترجمة والطب معا، وأبو بكر الرازي الذي اعتبر طبيبا سريريا لا يبارى، وهو صاحب أكبر موسوعة طبية، قبل ابن سينا، ولا يقل عن هذا أثر الزهراوي رائد علم الجراحة والذي طبقت شهرته الآفاق أو ابن النفيس، الذي امتد تأثيره إلى الغرب بلا حدود، وغيرهم الكثير، كل هؤلاء لا يهتم بهم الكاتب ولا يعيرهم اهتمام سوى بمدى قربهم أو بعدهم من مذهبه الفقهي، اذ يعمل سلاح التكفير في وجه كل من يختلف مع هذا الذهب الذي يعتمد ابن تيمية المرجعية الأولى له.