اليساريون والإخوان: تحالف الضرورة أم تلاقح أيديولوجي؟
الثلاثاء 21/يناير/2025 - 05:12 ص
طباعة

في الآونة الأخيرة، تصاعدت موجة من الجدل السياسي والثقافي في مصر بعد القبض على بعض الشخصيات اليسارية واتهامها بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة المحظورة رسميًا. هذه التطورات أثارت استغراب البعض، خاصة أن الاختلاف الأيديولوجي بين التيارين – اليساري والإخواني – يفترض أن يكون قاطعًا، إذ يتبنى اليسار رؤية علمانية اشتراكية تتناقض مع الطرح الإسلامي المحافظ الذي تحمله الجماعة. ومع ذلك، يبدو أن هناك أرضية مشتركة تتشكل أحيانًا بين الطرفين، وهو ما يستدعي تحليلًا أعمق.
الخلفية التاريخية للتقارب والصراع
يتميز تاريخ العلاقة بين التيارين اليساري والإخواني في مصر بالتوتر والعداء المستمر، مع بعض لحظات التقاطع الظرفي التي لم ترقَ إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. ورغم التناقض الأيديولوجي الجذري بينهما، إلا أن الظروف السياسية واللحظات الثورية فرضت أحيانًا نوعًا من التفاعل المتبادل بينهما. لفهم هذه العلاقة، يجب العودة إلى السياقات التاريخية التي حددت طبيعة الصراع والتقارب بينهما.
1- الملكية (1928-1952): صراع على النفوذ
نشأت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد حسن البنا كحركة إسلامية تسعى إلى إعادة إحياء القيم الإسلامية في المجتمع، ثم تطورت لاحقًا إلى مشروع سياسي يهدف إلى إقامة دولة إسلامية. في المقابل، بدأ الفكر اليساري يتشكل في مصر من خلال النقابات العمالية والحركات الاشتراكية المتأثرة بالماركسية والأفكار الثورية العالمية.
خلال هذه الفترة، كان الصراع بين التيارين قائمًا على أساس أيديولوجي بحت، حيث رأى اليساريون أن الإخوان يمثلون "التيار الرجعي" الذي يسعى إلى إعادة المجتمع إلى الوراء، بينما اعتبر الإخوان أن الشيوعية تمثل خطرًا على الهوية الإسلامية، وكانوا يروجون لفكرة أن "الشيوعية والإلحاد وجهان لعملة واحدة".
هذا التناقض ظهر بوضوح في مواقف الطرفين من القضايا السياسية والاجتماعية، مثل حقوق المرأة، والعلاقة مع الغرب، والملكية الفردية. وبينما ركز اليساريون على قضايا العدالة الاجتماعية ومحاربة الاستعمار، حاول الإخوان المزج بين الخطاب الإسلامي والعمل السياسي، ما جعلهم أكثر تقاربًا مع القوى التقليدية في المجتمع المصري، مثل البيروقراطية والدولة العميقة.
2- الحقبة الناصرية (1952-1970): قمع مشترك ولكن عداء مستمر
بعد ثورة 1952، بدأ عهد جمال عبد الناصر، الذي تبنى سياسات اشتراكية وناصرية ذات طابع يساري، تضمنت تأميم الشركات الكبرى، وتوسيع دور الدولة في الاقتصاد، وتعزيز فكرة القومية العربية. في البداية، دعم الإخوان الثورة، ظنًا منهم أنهم سيكونون جزءًا من الحكم الجديد، لكن سرعان ما اصطدموا مع الناصريين عندما رفض عبد الناصر مطالبهم بفرض الشريعة الإسلامية في الدستور.
عام 1954، دخل الإخوان في مواجهة مفتوحة مع الدولة بعد محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية، مما أدى إلى حملة قمع واسعة ضد الجماعة، شملت اعتقالات وإعدامات. ورغم أن بعض اليساريين تعرضوا للقمع في مراحل لاحقة، إلا أن العداء بين الطرفين لم يهدأ، حيث دعم اليساريون موقف الدولة في قمع الإخوان، معتبرين أنهم قوة رجعية تهدد المشروع الاشتراكي.
3- السبعينيات في عهد السادات: توظيف الإخوان ضد اليسار
مع تولي أنور السادات الحكم عام 1970، قرر اتباع نهج مختلف عن سلفه عبد الناصر، حيث بدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي، وحاول تقليص نفوذ اليساريين والقوميين الذين كانوا العمود الفقري لنظام عبد الناصر. في هذا السياق، أتاح السادات للإخوان هامشًا من الحرية، وسمح لهم بإعادة بناء تنظيماتهم والعودة إلى الجامعات والنقابات، بهدف موازنة النفوذ اليساري المتزايد في هذه المؤسسات.
استغل الإخوان هذه الفرصة للتمدد في الأوساط الشبابية، بينما تعرض اليساريون لضغوط أمنية متزايدة. ولكن رغم السماح النسبي للإخوان بالحركة، لم يكن هناك تحالف مباشر، بل كان توظيفًا سياسيًا متبادلًا، حيث استخدم السادات الإخوان لضرب اليسار، بينما حاول الإخوان استغلال الانفتاح لإعادة بناء تنظيمهم.
4- عهد مبارك (1981-2011): التعايش والصراع السياسي
في عهد حسني مبارك، استمر التضييق على الإخوان، لكن النظام سمح لهم بالمشاركة المحدودة في الحياة السياسية من خلال الانتخابات البرلمانية والنقابات المهنية. في المقابل، واجهت الحركات اليسارية تراجعًا كبيرًا نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي وضعف تأثير الفكر الاشتراكي عالميًا.
رغم ذلك، استمر العداء بين الطرفين في الساحة السياسية، حيث كان الإخوان يسعون إلى بناء دولة إسلامية، بينما حاول اليساريون الدفاع عن دولة مدنية ديمقراطية. ومع ذلك، شهدت بعض القضايا المشتركة، مثل معارضة الفساد والدفاع عن الحريات السياسية، نوعًا من التنسيق المحدود بين بعض الشخصيات من الجانبين، لكن دون أن يتحول إلى تحالف حقيقي.
5- ثورة 25 يناير وما بعدها: تقاطع المصالح ثم الصدام
مثّلت ثورة 25 يناير 2011 لحظة فارقة في العلاقة بين اليسار والإخوان، حيث شارك الطرفان في الميادين تحت شعار مشترك: "إسقاط النظام". ولكن هذا التقارب كان تكتيكيًا وليس استراتيجيًا، إذ كان الهدف الأساسي هو التخلص من نظام مبارك، وليس بناء مشروع سياسي مشترك.
بعد سقوط مبارك، سعى الإخوان إلى الهيمنة على المشهد السياسي، وفازوا بأغلبية في البرلمان ثم تولوا الرئاسة عبر محمد مرسي. في هذه المرحلة، بدأت الخلافات مع اليساريين تظهر بوضوح، حيث اتهموا الجماعة بالسعي إلى "أخونة الدولة" وإقصاء القوى السياسية الأخرى. وبلغ الصدام ذروته في احتجاجات 30 يونيو 2013، التي شارك فيها اليساريون بقوة للمطالبة بعزل مرسي، وهو ما أدى إلى تدخل الجيش وعزل الإخوان من الحكم.
6- ما بعد 2013: هل تغيرت المعادلة؟
بعد الإطاحة بالإخوان في 2013، أصبح التيار اليساري أكثر دعمًا للدولة المصرية، باعتبار أن البديل كان حكمًا دينيًا إقصائيًا. ولكن مع مرور الوقت، بدأت بعض الأصوات اليسارية تعبر عن انتقادات تجاه السياسات الحكومية، وهنا ظهر تقاطع جديد بين بعض الشخصيات اليسارية والإخوانية في الخطاب المعارض، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ورغم أن هذا التقاطع لا يمكن وصفه بتحالف، إلا أن بعض اليساريين باتوا يتبنون سرديات الإخوان حول الدولة، سواء بحسن نية نتيجة تشابه بعض القضايا الحقوقية، أو بدافع العداء المشترك للنظام السياسي الحالي. هذا التداخل يثير تساؤلات حول مدى استقلالية الخطاب اليساري، وما إذا كان يعبر عن موقف مبدئي أم مجرد اصطفاف مؤقت ضد الدولة.
ونجد أخيرا أنه على مدار التاريخ، كانت العلاقة بين اليساريين والإخوان في مصر علاقة صراع دائم، مع لحظات محدودة من التقاطع التي لم تستمر طويلًا. واليوم، ورغم استمرار العداء الأيديولوجي، نجد أن بعض الأصوات اليسارية تتماهى مع خطاب الإخوان في بعض القضايا، مما يطرح تساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء هذا التقارب، وما إذا كان مجرد توظيف سياسي أو تحوّل فكري حقيقي.
ما الذي تغير اليوم؟
في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة في المشهد السياسي المصري، حيث بدأت بعض الشخصيات اليسارية تتبنى سرديات تتقاطع مع تلك التي تروج لها جماعة الإخوان المسلمين في نقدها للدولة المصرية. ورغم أن هذا لا يعني بالضرورة انضمام هؤلاء اليساريين إلى الجماعة أو اعتناقهم لفكرها، إلا أنه يكشف عن تحولات في طبيعة المعارضة السياسية، ومدى تأثير العوامل الإعلامية والرقمية في إعادة تشكيل الاصطفافات الأيديولوجية. ويمكن فهم هذا التلاقي غير المتوقع من خلال عدة عوامل رئيسية:
1- العداء المشترك للدولة
أحد أبرز العوامل التي دفعت بعض اليساريين إلى تبني خطاب قريب من الإخوان هو العداء المشترك للدولة. فهناك تيار يساري، خاصة من الراديكاليين، يعتبر النظام الحالي امتدادًا لما يسمونه "دولة القمع والاستبداد"، ويرون أن الدولة، بغض النظر عن من يحكمها، تمثل أداة للقمع الطبقي والسياسي. هذا الموقف يجعلهم يقفون ضد السلطة بغض النظر عن طبيعة خصومها، ما يؤدي أحيانًا إلى تقاطع خطابهم مع خطاب الإخوان، الذين يعتبرون النظام الحالي عدوهم الأساسي بعد إزاحتهم من الحكم في 2013.
ورغم أن الأهداف النهائية لكل من التيارين مختلفة جذريًا—فاليساريون يسعون إلى دولة علمانية ذات طابع اشتراكي، بينما الإخوان يريدون دولة إسلامية بمرجعية دينية—إلا أن العداء المشترك للنظام يجعلهم يستخدمون لغة متشابهة أحيانًا في انتقاد السياسات الحكومية. هذا التقاطع لا يعني وجود تحالف بالضرورة، لكنه يخلق انطباعًا بوجود تقارب، خاصة في أعين الجمهور العام الذي قد لا يدرك الفوارق الدقيقة بين الطرفين.
2- الاستفادة من المنصات الإعلامية الإخوانية
مع تراجع مساحة التعبير السياسي داخل مصر، وجدت بعض الشخصيات اليسارية نفسها أمام معضلة: إما الصمت، أو البحث عن منصات بديلة لإيصال صوتها. وهنا برزت المنصات الإعلامية التابعة للإخوان أو المتعاطفة معهم كأحد الخيارات المتاحة، حيث تمنح هذه القنوات والوسائل الإعلامية مساحة للمعارضين بمختلف توجهاتهم، ليس بالضرورة كنوع من التحالف، ولكن كجزء من استراتيجيتها لاستقطاب أصوات معارضة للنظام.
بالنسبة لبعض اليساريين، فإن الظهور على هذه المنصات لا يعني تأييدهم للإخوان، بل يُنظر إليه على أنه استغلال للمنبر الإعلامي المتاح. ومع ذلك، فإن هذا الظهور يعزز التقاطع بين الخطابين، حيث يجد المتابع العادي أن نفس الروايات تُطرح من قبل شخصيات يسارية وإخوانية على حد سواء. هذه الديناميكية تجعل من الصعب أحيانًا التمييز بين الخطاب اليساري المستقل والخطاب الذي يخدم أجندة الجماعة، خاصة عندما يتم تسليط الضوء فقط على الجوانب المشتركة مثل انتقاد السياسات الحكومية، دون التطرق إلى الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين الطرفين.
3- التأثر بالبروباجندا الرقمية
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت السرديات السياسية تُصنع وتنتشر بشكل أسرع وأكثر تأثيرًا مما كان عليه الحال في السابق. ومع وجود شبكات إعلامية رقمية تروج لروايات معينة ضد الدولة، يجد بعض اليساريين أنفسهم يتبنون هذه السرديات دون تمحيص، إما بدافع المعارضة المطلقة، أو بسبب التقاطع في بعض القضايا الحقوقية، مثل الحريات السياسية وحقوق الإنسان.
الإشكالية هنا تكمن في أن البروباجندا الرقمية التي تروجها الجماعة تعتمد على استراتيجيات ذكية في صياغة الخطاب، حيث تدمج القضايا الحقوقية والمظلومية السياسية مع رؤيتها الأيديولوجية الخاصة، مما يجعل بعض اليساريين يرددون نفس الخطاب دون الانتباه إلى الأجندة الكامنة خلفه. وفي بعض الحالات، يتم استدراج الشخصيات اليسارية إلى هذا الفخ الإعلامي، حيث يبدأون بتبني مواقف تتماشى مع رؤية الإخوان، ليس لأنهم يوافقونهم أيديولوجيًا، بل لأنهم يرون في هذا الخطاب أداة لمعارضة النظام القائم.
4- الانقسامات داخل التيار اليساري
ليس كل اليساريين يتبنون هذا الخطاب أو يقبلون بالتقاطع مع الإخوان. على العكس، هناك طيف واسع من اليساريين يرفض أي تقارب مع الجماعة، ويعتبرون أن الإخوان يمثلون مشروعًا سلطويًا دينيًا لا يختلف في جوهره عن الأنظمة التي يعارضونها. ومع ذلك، فإن التيار اليساري يعاني من انقسامات داخلية عميقة، حيث يوجد خلاف بين الجناح الراديكالي الأكثر تصعيدًا في معارضته للنظام، والجناح الأكثر واقعية الذي يسعى إلى تحقيق تغيير تدريجي دون الوقوع في فخ التحالفات غير المبدئية.
الأصوات الأكثر راديكالية داخل اليسار تجد أحيانًا في التحالفات الظرفية وسيلة للضغط السياسي، حتى لو كان ذلك يعني التقاطع مع الإخوان في بعض القضايا. هذا التيار يرى أن أي قوة معارضة للنظام الحالي يمكن أن تكون شريكًا في تحقيق هدف "إضعاف السلطة"، حتى لو كان الاختلاف الأيديولوجي جوهريًا. لكن في المقابل، هناك تيارات يسارية أخرى ترفض هذا المنطق تمامًا، وتعتبر أن أي تقارب مع الإخوان هو خيانة للمبادئ اليسارية الحقيقية، خاصة أن الجماعة لم تظهر يومًا التزامًا حقيقيًا بقيم الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية التي ينادي بها اليسار.
وأخيرا نجد أن التقاطع بين بعض الشخصيات اليسارية وجماعة الإخوان المسلمين ليس تحالفًا رسميًا، ولكنه نتاج لعدة عوامل، أبرزها العداء المشترك للدولة، والاستفادة من المنصات الإعلامية الإخوانية، والتأثر بالبروباجندا الرقمية، والانقسامات داخل التيار اليساري نفسه. هذا التقاطع يثير تساؤلات حول مدى استقلالية الخطاب اليساري، وما إذا كان يعبر عن موقف نقدي حقيقي، أم أنه مجرد اصطفاف مرحلي نتيجة الظروف السياسية الحالية. وفي النهاية، يبقى التحدي الأكبر أمام اليسار المصري هو الحفاظ على خطابه المستقل، وعدم السماح لأي طرف آخر بتوظيفه لخدمة أجندته الخاصة.
إشكالية ازدواجية المعايير
المفارقة الكبرى في تقاطع بعض الشخصيات اليسارية مع خطاب الإخوان المسلمين تكمن في التناقض الجوهري بين المبادئ التي يروج لها التيار اليساري، والقيم التي تمثلها الجماعة تاريخيًا. فاليسار، في جوهره، يتبنى قيم الديمقراطية، والتعددية، وحقوق الإنسان، ويدعو إلى العدالة الاجتماعية بمنظور تقدمي يسعى إلى تفكيك البنى السلطوية التي تعيق تحقيق المساواة. في المقابل، أثبتت تجارب الإخوان في الحكم، سواء في مصر أو دول أخرى، أنهم لا ينظرون إلى الديمقراطية كقيمة ثابتة، بل كأداة تكتيكية للوصول إلى السلطة، دون التزام حقيقي بها عند امتلاك النفوذ. هذه الحقيقة تضع اليساريين الذين يتقاطعون مع خطاب الإخوان في موقف إشكالي، حيث يدعمون، ولو بشكل غير مباشر، تيارًا لا يؤمن أصلاً بالمبادئ التي يدافعون عنها.
علاوة على ذلك، فإن الإخوان لا يتبنون فعليًا قيم العدالة الاجتماعية بمفهومها التقدمي، بل يطرحون بديلًا سلطويًا آخر قائمًا على هيمنة تيار ديني على المجال السياسي والاجتماعي. ورغم تبنيهم شعارات العدالة ومناهضة الفساد أثناء فترات المعارضة، إلا أن سياساتهم عندما كانوا في الحكم لم تعكس أي التزام حقيقي بإصلاح هيكلي لصالح الفئات المهمشة، بل على العكس، عززوا سياسات السوق الحرة وأظهروا استعدادًا لعقد تفاهمات مع القوى الاقتصادية التقليدية، ما يتناقض مع الرؤية اليسارية للدولة ودورها في تحقيق التوازن الاجتماعي. هذا يثير تساؤلات عن مدى اتساق الخطاب اليساري لدى من ينجرفون نحو التقاطع مع الإخوان، وهل هو نابع من قناعة سياسية حقيقية، أم أنه مجرد اصطفاف ظرفي تحكمه حسابات المعارضة لا المبادئ؟
هل هو تحالف أم مجرد تقاطع؟
من الصعب القول إن هناك تحالفًا استراتيجيًا بين بعض الشخصيات اليسارية وجماعة الإخوان المسلمين، لكنه بالتأكيد يمثل حالة من التقاطع في بعض المساحات السياسية والإعلامية. فالإخوان، كتنظيم ذو تاريخ طويل، يمتلكون مشروعًا سياسيًا واضحًا يسعون إلى تحقيقه، حتى وإن تغيرت تكتيكاتهم بحسب الظروف. لديهم بنية تنظيمية قوية، ورؤية محددة لكيفية إدارة الدولة والمجتمع وفق منظورهم الإسلامي، وهو ما يجعلهم يسعون دائمًا إلى توظيف أي قوى معارضة يمكن أن تخدم أهدافهم ولو بشكل غير مباشر. في المقابل، فإن كثيرًا من الشخصيات اليسارية التي تتقاطع مع خطاب الإخوان لا تمتلك مشروعًا سياسيًا متكاملًا، وإنما تتحرك ضمن منطق الرفض المستمر للسلطة، دون تقديم بديل واقعي أو متماسك يمكن أن يشكل تهديدًا فعليًا للنظام القائم.
هذه الحالة تجعل بعض اليساريين أقرب إلى دور "المعارض الدائم"، أي أنهم يرفضون كل ما هو قائم، لكن دون رؤية واضحة لما يجب أن يكون. في المقابل، الإخوان لا يقفون عند حدود المعارضة، بل يسعون إلى استبدال النظام القائم بمشروعهم الخاص. وهذا الاختلاف الجوهري يعني أن أي تقاطع بين الطرفين هو تقاطع مرحلي تكتيكي وليس تحالفًا حقيقيًا، حيث يستخدم كل طرف الآخر بطريقة مختلفة: الإخوان يستفيدون من الأصوات اليسارية لتعزيز خطابهم كمعارضة واسعة النطاق، بينما يجد بعض اليساريين في المنابر الإخوانية فرصة للتعبير عن رفضهم للنظام. لكن في النهاية، يظل هذا تقاطعًا مؤقتًا، سرعان ما ينكشف عند طرح الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الدولة والمجتمع والنظام السياسي الذي يسعى كل طرف إلى تحقيقه.
الخاتمة: المعارضة بين المشروعية والتوظيف
المعارضة السياسية حق مشروع، بل إنها ضرورة لأي نظام ديمقراطي صحي، حيث تساهم في تصحيح المسار وكشف أوجه القصور في السياسات القائمة. ومع ذلك، عندما تفقد المعارضة استقلاليتها الفكرية، وتتحول إلى مجرد صدى لسرديات أطراف أخرى، فإنها تفقد قيمتها النقدية، بل وتصبح أداة تُستخدم دون وعي في خدمة مشاريع لا تنسجم مع مبادئها الأصلية. من حق أي تيار سياسي أن يعارض السلطة وينتقد سياساتها، لكن من الضروري أن يكون ذلك انطلاقًا من مرجعية فكرية واضحة ومستقلة، وليس مجرد استجابة لمعادلات ظرفية قد تؤدي في النهاية إلى تقويض مصداقيته أمام جمهوره. وهذا التحدي يبرز بوضوح في حالة بعض اليساريين الذين، عن وعي أو دون وعي، وجدوا أنفسهم يرددون خطابًا يتقاطع مع رؤية الإخوان، رغم التناقض الجذري بين المشروعين.
في النهاية، بناء تيار يساري مستقل وفاعل في المشهد المصري يتطلب تجاوز منطق "المعارضة من أجل المعارضة"، والعمل على تقديم بدائل حقيقية تعكس رؤية واضحة لمستقبل الدولة والمجتمع. لا يكفي أن يكون اليسار مجرد قوة رافضة للواقع، بل يجب أن يكون قادرًا على طرح سياسات وأفكار بديلة قابلة للتنفيذ، بعيدًا عن أي اصطفافات ظرفية أو تحالفات غير مبدئية. فالمعارضة الحقيقية لا تُقاس بمدى شدتها فقط، وإنما بقدرتها على التأثير وتقديم مشروع مقنع يتجاوز مجرد الهدم إلى البناء، وهو ما يحتاجه المشهد السياسي المصري اليوم أكثر من أي وقت مضى.