من غزة إلى الأردن: كيف يعيد الإخوان صياغة الخطاب السياسي لخدمة أجندتهم
الجمعة 25/أبريل/2025 - 04:51 ص
طباعة

جاء البيان الصادر عن ما يُعرف بـ"المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين – تيار التغيير" في القاهرة، تعليقًا على قرار السلطات الأردنية حظر نشاط الجماعة، ليكشف مرة أخرى عن السمة الأبرز في خطاب الإخوان السياسي: تلك المفارقة الصارخة بين الشعارات المرفوعة والمواقف الفعلية. ففي الوقت الذي يُقدَّم فيه البيان بوصفه دفاعًا عن "المقاومة" و"قضايا الأمة"، يتبيّن عند التمحيص أنه خطاب محض تنظيمي، يستخدم لغة المواجهة والتعبئة للتغطية على أزمات داخلية وفقدان للشرعية، لا سيما بعد تراجع نفوذ الجماعة في معظم العواصم العربية، وافتقادها للعمق الشعبي والسياسي الذي طالما تباهت به.
الأهم من ذلك أن البيان يعيد إنتاج ازدواجية اللغة التي باتت ملازمة للخطاب الإخواني في العقد الأخير: لغة تدّعي التحدث باسم الشعوب وتضع التنظيم في موقع "قائد الأمة"، بينما تُمارس في الوقت ذاته نوعًا من الابتزاز الرمزي لقضايا كبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. إذ لا يتردد "تيار التغيير" في تصوير قرار سياسي سيادي كحظر جماعة غير مرخصة، على أنه تآمر ضد المقاومة، بل يذهب بعيدًا في خلط الأوراق، محاولًا تلبيس المشروع التنظيمي عباءة "الممانعة"، رغم أن هذه الجماعة – تاريخيًا – لم تكن يومًا على قلب واحد مع المشروع الوطني الفلسطيني، وإنما على وفاق دائم مع مصلحة التنظيم، أيًا كان الثمن.
الشعب لا الجماعة: خلط المقامات
يسعى البيان من السطور الأولى، إلى ربط قرار السلطات الأردنية بحظر جماعة الإخوان بتصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وكأن الدولة الأردنية تتحرك بتنسيق مباشر مع "المشروع الصهيوني" لضرب "المقاومة". هذا الربط ليس جديدًا في خطاب الإخوان، بل يعكس استراتيجية خطابية مألوفة لديهم تقوم على توظيف القضايا العادلة – وعلى رأسها فلسطين – كستار لتمرير أجندات تنظيمية داخلية، ودرع رمزية لحماية وجود الجماعة من أي محاسبة قانونية أو سياسية على أراضي الدول التي تحتضنهم أو كانت تفعل.
الخلط المتعمَّد بين الجماعة والشعب، وبين القرار الإداري والمواجهة الوجودية، هو جوهر هذا البيان، الذي يسعى إلى إيهام المتلقي بأن أي إجراء قانوني ضد جماعة الإخوان – في أي بلد – لا يمكن تفسيره إلا بوصفه امتدادًا لخطة دولية لضرب "قوى الأمة الحية"، وفقًا لتعبير البيان. وبهذا التعميم، تُختزل الأمة كلها في تنظيم سياسي واحد، وتُصبح الجماعة بقدرة لغوية خطابية هي "المقاومة"، بل تصبح صوت الشعوب وضميرها، وكأنها الكيان الوحيد المخوّل بالحديث باسم القضايا الكبرى.
لكن هذه المقاربة تتجاهل عمدًا السياق السياسي والتاريخي الذي يحيط بعلاقة الدولة الأردنية بجماعة الإخوان. فالأردن، على عكس ما يصوّره البيان، كان من أوائل الدول التي شرعنت وجود الإخوان ومنحتهم مساحة واسعة من العمل الدعوي والسياسي لعقود طويلة، بل إن الجماعة كانت شريكًا فعليًا في منظومة الحكم لسنوات، وحازت على تمثيل نيابي وبلدي واسع. العلاقة لم تكن يومًا علاقة قمع أحادي، بل علاقة تواطؤ مرحلي وتنسيق عميق، تعرّض لاحقًا لاختلالات حادة نتيجة تحوّل الجماعة إلى لاعب إقليمي يتجاوز الساحة الأردنية، وتحولها في نظر الدولة إلى تهديد للأمن الوطني، خاصة في ظل استغلالها للقضية الفلسطينية كرافعة للتحشيد السياسي.
من هنا، فإن تصوير حظر الجماعة وكأنه استهداف مباشر لفلسطين أو للمقاومة، لا يعدو كونه محاولة لتأميم الشعور القومي وتجييره لصالح مشروع تنظيمي خاص. بل إن هذا الخطاب – في جوهره – يُفرغ التضامن الحقيقي مع فلسطين من مضمونه، حين يُراد له أن يُختزل في الولاء لتنظيم بعينه، وكأن دعم القضية لا يكون إلا عبر الإخوان. وهذا تزييف خطير للوعي السياسي الجمعي، لا يقل ضررًا عن التواطؤ مع الاحتلال، لأنه يستبدل فلسطين الحقيقية بفلسطين الرمزية التي تستخدم في معارك الجماعة مع خصومها، لا أكثر.
شيطنة الدولة وتبرئة الجماعة
يتبنى البيان خطابًا يقوم على سردية مؤامراتية مغلقة، ترفض الاعتراف بأي مسؤولية ذاتية للجماعة في ما آلت إليه الأمور، وتُسقِط اللوم كاملًا على الدولة الأردنية، بل وعلى "منظومة الأنظمة القمعية" كما يسميها. إذ يصف البيان القرار الأردني بأنه "خيانة للقضية" و"تفكيك لخنادق المقاومة"، وهي تهم سياسية كبرى تُطلق بلا سند واقعي أو تحليل موضوعي، وتغلب عليها اللغة التعبوية الانفعالية، التي تهدف في جوهرها إلى شيطنة الدولة الأردنية وتبرئة الجماعة من أي مساءلة أو نقد.
هذه السردية لا تأخذ في الحسبان السياق الداخلي في الأردن، ولا مواقف الجماعة الأخيرة التي أثارت حفيظة الدولة والمجتمع معًا، لا سيما بعد الربيع العربي وتحوّلات المنطقة. فالخطاب الإخواني بات يُقرأ – سياسيًا وأمنيًا – كخطاب متقاطع مع أجندات خارجية، ويتقاطع أحيانًا مع مشاريع الفوضى لا مشاريع الإصلاح، ما دفع العديد من الدول، ومنها الأردن، إلى إعادة النظر في تموضع الجماعة وشرعيتها السياسية. تجاهل هذه التحوّلات والرد عليها بمنطق المؤامرة لا يُنتج فهمًا، بل يعمّق القطيعة بين الجماعة والواقع.
الأدهى أن البيان يُقدّم الجماعة وكأنها حارسة للمقاومة وممثلة عن فلسطين، من دون أن يراجع سجلها العملي في هذا الشأن. فالجماعة – عبر تاريخها وفروعها المختلفة – لم تطرح يومًا مشروعًا وطنيًا شاملًا لتحرير الأرض أو لمواجهة الاحتلال، بل اكتفت بتقديم نفسها كبديل للنظام السياسي القائم، لا كشريك في مشروع تحرري أو تنموي جامع. وبهذا، كان هدفها الأول هو السلطة، لا التحرير، والشرعية التنظيمية، لا الشرعية الشعبية.
وحين دعمت الجماعة فصائل المقاومة الفلسطينية – كحركة حماس – فإن هذا الدعم لم يكن خارج الحسابات التنظيمية المغلقة، بل كان مشروطًا وموجّهًا لخدمة صورة الجماعة ومكاسبها السياسية في العالم العربي والإسلامي. لم يكن دعمًا نابعًا من موقع جماهيري عام، أو من موقع المسؤولية الوطنية، بل من موقع المنافسة على تمثيل القضية والاستحواذ على رمزية المقاومة. وهذا يفسر الانزعاج الإخواني من أي فاعل عربي أو إسلامي يشارك في دعم فلسطين من خارج مظلتهم، لأنهم يرون في المقاومة وسيلة لتعزيز حضورهم، لا قضية جامعة لكل أبناء الأمة.
المقاومة كغطاء أيديولوجي
يُلاحظ في البيان الإفراط المقصود في استخدام مفردة "المقاومة"، حيث تتكرر بشكل شعاراتي أشبه بالتعويذة السياسية، من دون أي تحديد دقيق لماهية هذه المقاومة أو طبيعة مشروعها وأدواتها. فالمقاومة، بحسب الخطاب الإخواني الوارد في البيان، لا تُفهم بوصفها فعلًا تحرريًا واسع الأفق ومتعدد المستويات، بل تُقدَّم كمجرد غطاء أيديولوجي لتبرير وجود الجماعة ومراكمة الشرعية السياسية لها، حتى في وجه قرارات قانونية سيادية تتعلق بتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.
في هذا السياق، لا يبدو أن البيان حريص فعليًا على نصرة الفلسطينيين أو دعمهم، بقدر ما يُستخدم "خط الدفاع عن المقاومة" كأداة لغسل السمعة السياسية للجماعة في الداخل الأردني والمصري، والتغطية على فشلها في بناء مشروع وطني حقيقي. فالدفاع عن فلسطين لا يكون بشيطنة الدولة الأردنية أو بإثارة الغضب الشعبي من داخل المجتمعات العربية، بل بالعمل على تعزيز التماسك الداخلي وتوفير بيئة مستقرة تُشكّل سندًا فعليًا لأي جهد تحرري.
بل إن أخطر ما في هذا الخطاب هو اختزال "المقاومة" في شخص الجماعة وهيكلها التنظيمي، بحيث تُصبح كل مقاومة لا تمر عبر بوابات الإخوان إما غير شرعية أو مشكوكًا في صدقيتها. هذا الاحتكار المفاهيمي يُفرغ القضية الفلسطينية من بعدها الجامع، ويحوّلها إلى ملف تتاجر به الجماعة في وجه خصومها، بدل أن يكون ميدانًا مفتوحًا أمام كل من يملك الإرادة والموقف لدعمه، سواء كان إسلاميًا أو قوميًّا أو وطنيًا أو حتى مستقلًا.
إلى ذلك، فإن توظيف المقاومة بهذا الشكل لا يخلو من ارتباطات مشبوهة بحسابات إقليمية عابرة للحدود، تستثمر في الفوضى والانقسام وتغذّي الصراعات الداخلية في الدول العربية تحت راية "نصرة فلسطين". وهي علاقات سبق أن ثبت توظيفها لخدمة تحالفات معقدة مع قوى إقليمية تستخدم الجماعة كورقة ضغط أو ذراع نفوذ، لا كفاعل مبدئي في معادلة التحرير. وهنا تصبح المقاومة مجرد بند في لعبة توازنات أكبر، لا قيمة جوهرية له إلا بمقدار ما يخدم أجندات سياسية خارجية، لا القضية ذاتها.
الدعوة إلى المواجهة: لغة خطيرة
أخطر ما تضمنه البيان الصادر عن "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين – تيار التغيير" هو اللغة التحريضية الصريحة التي تعتمد مفردات المواجهة والتصعيد، وتُصور القرار الأردني السيادي باعتباره نقطة فاصلة تستوجب "الحسم"، وليس مجرد إجراء قانوني ضمن منظومة دولة. هذا التصعيد اللفظي لا يعبّر عن موقف سياسي متزن أو احتجاج مشروع، بل يكشف عن ذهنية تنظيمية لا ترى في الدولة الوطنية شريكًا أو إطارًا ناظمًا للعمل العام، بل خصمًا يجب التمرد عليه وتحديه، بل والانقلاب عليه إن لزم الأمر.
البيان لا يكتفي بإعلان الرفض، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يطالب بـ"مواجهة الأنظمة" باعتبارها "ضرورة استراتيجية"، وهو تعبير يتجاوز بكثير حدود العمل السياسي السلمي أو الدعوة إلى الإصلاح. إن الدعوة إلى المواجهة بهذه الصيغة تفتح الباب أمام استنساخ تجارب الفوضى والانقسام والعنف التي شهدناها في بلدان عربية عدة، حين تماهت الشعارات الكبرى مع أجندات تنظيمية مغلقة، وارتفعت راية "المقاومة" في الداخل، بينما كانت النتيجة تدمير المجتمعات من الداخل.
ثمّة خطورة أكبر في نبرة التحريض المباشر التي يتوجه بها البيان إلى "شباب الحركات الإسلامية" في الأردن، واصفًا إياهم بـ"سلاح الأمة"، وهي عبارة ذات دلالات تعبويّة تتقاطع مع خطاب الجماعات الراديكالية التي لطالما وظّفت الشباب في معارك خاسرة، تحت عناوين فضفاضة مثل "تحرير الأقصى" أو "مواجهة الاستبداد". مثل هذه اللغة تضع الشباب في مواجهة مفتوحة مع مؤسسات الدولة، وتحوّلهم إلى وقود محتمل لصراعات لا تخدم لا فلسطين، ولا المجتمعات التي ينتمون إليها.
والواقع أن هذا النمط من الخطاب، الذي يخلط بين المقاومة والتحريض، وبين الأمة والدولة، وبين القانون والمؤامرة، يعكس أزمة عميقة في العقل السياسي الإخواني الذي لم ينجح في مغادرة منطق الجماعة المغلقة نحو أفق العمل الوطني المشترك. بل هو خطاب يعيد إنتاج مناخات ما بعد 2011، حين تحوّل الغضب إلى رافعة للدمار، واستُبدلت الشعارات الإصلاحية بالدعوات إلى "الحسم"، فانتهى الأمر إلى تقويض الأوطان باسم الدفاع عنها.
استثمار لحظة غزة: ما بعد الطوفان؟
يستخدم البيان الصادر عن "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين – تيار التغيير" ما يُسمّى بـ"طوفان الأقصى" كذريعة للربط بين الأحداث الراهنة في فلسطين وبين الحراك السياسي للجماعة في الدول العربية. وهذا الربط يبدو في جوهره محاولة لاستثمار اللحظة العاطفية العميقة التي يعيشها الشارع العربي جراء التصعيد الصهيوني في غزة، بهدف إعادة تلميع صورة الجماعة وتحسين موقعها في المشهد السياسي العربي. إذ يسعى البيان إلى استثمار مشاعر التضامن مع القضية الفلسطينية ليس فقط في سياق الدعم الشعبي لفلسطين، بل أيضًا في سياق تحشيد الأنصار في الداخل العربي، وهو ما يُظهر نوعًا من الاستغلال السياسي لهذه اللحظة العاطفية بدلًا من أن يكون مبدئيًا وواقعيًا.
لكن هذا الربط بين الأحداث الجارية و"حراك الجماعة" على المستوى الداخلي يطرح سؤالًا جوهريًا عن مواقف الفصائل المقاومة في فلسطين نفسها. فالفصائل التي تقاتل على الأرض، سواء كانت حماس أو غيرها من الحركات، لم تُفوّض الإخوان ولا غيرهم للحديث باسمها أو فرض أجندات سياسية تنظيمية. في الواقع، على الرغم من تاريخ طويل للجماعة في دعم المقاومة الفلسطينية، فإن الجماهير العربية تدرك أن الواقع لا يجب أن يتحول إلى فرصة لتنفيذ أجندة إخوانية ضيقة. بدلاً من أن يكون هناك تكامل في الجهود، يتم استثمار القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية تخص الجماعة، وهو ما يمكن أن يساهم في إضعاف المسار الوطني العام.
الأكثر أهمية هنا هو أن الجمهور العربي، خاصة في لحظات التحول الوطني الكبرى، يعي تمامًا أن "ما بعد الطوفان" لا يجب أن يكون مشروعًا إخوانيًا مغلّفًا بخطاب ديني ثوري، كما يُحاول البيان تقديمه. إن هذه اللحظة تتطلب مشروعًا وطنيًا تحرريًا جامعًا، لا تقتصر فيه الأولوية على الأجندات التنظيمية أو السياسية الضيقة، بل على توحيد الجهود الوطنية والدولية لدعم القضية الفلسطينية، والارتقاء بالخطاب العربي إلى مستوى التحديات الحقيقية التي يواجهها، دون تلاعب بالشعارات لمصالح ضيقة.
وفي هذا السياق، يبرز الخطاب الإخواني الموجه من خلال البيان كخطاب استثماري أكثر منه نابعًا من رؤية استراتيجية واضحة. إذ يُحاول القائمون على البيان تصوير "طوفان الأقصى" كمرحلة تحوّل تتطلب دعمًا لأجندتهم التنظيمية، في الوقت الذي تُظهر فيه المعادلات السياسية والجماهيرية في العالم العربي ضرورة إعادة بناء الخطاب الوطني حول القضية الفلسطينية بعيدًا عن الاستغلال الأيديولوجي.
خاتمة:
البيان الصادر عن "تيار التغيير" في جماعة الإخوان المسلمين لا يقدم جديدًا على صعيد الفكر أو الاستراتيجية، بل يعكس استمرار الجماعة في محاولة تبرير أزمتها البنيوية عبر أسلوب التلبيس الأيديولوجي. بدلاً من أن يكون هناك تقييم نقدي أو مراجعة داخلية، يُستمر استخدام الخطاب الشعبوي المرتبط بالقضية الفلسطينية كوسيلة للتغطية على العجز التنظيمي والسياسي الذي تعيشه الجماعة منذ سنوات. فالبيان يعكس، في النهاية، رغبة في العودة إلى مربعات الماضي، بعيدًا عن ضرورة تجديد الخطاب وتطوير الآليات السياسية التي تواكب التحولات الحالية.
ما تحتاجه الأمة في الوقت الراهن ليس تنظيرات جديدة متكئة على لغة قديمة تقتصر على الصراع الأيديولوجي، بل حاجة ماسة إلى مقاومة واعية ومدروسة، قادرة على التفريق بين مفاهيم أساسية يجب أن تُفصل بوضوح. أولًا، التفريق بين "الدولة" و"النظام"؛ فالأمة العربية بحاجة إلى خطاب يميز بين مؤسسات الدولة الوطنية التي ينبغي الدفاع عنها من جهة، وبين الأنظمة التي قد تكون مشوهة أو مستبدة من جهة أخرى. يجب أن تُفهم المقاومة على أنها مشروع يهدف إلى الإصلاح والبناء، وليس مجرد التصعيد ضد الأنظمة الحالية دون اعتبار للمآلات أو العواقب.
ثانيًا، لا بد من التفريق بين "التنظيم" و"الحركة الشعبية". ففيما يسعى التنظيم إلى استغلال قضايا كبرى لصالح أجندته الخاصة، تبقى الحركة الشعبية هي الأداة الفعالة لتحقيق التغيير الشامل والمستدام. الجماعات يجب أن تدرك أن التحولات التي تمر بها المنطقة تتطلب مشاركة شعبية واسعة ومستدامة، لا تقتصر على الجهود التنظيمية الضيقة التي لا تستطيع أن تمثل الأمة ككل أو تواكب متطلبات المرحلة.
أخيرًا، يجب أن يُفصل بين "تحرير الأرض" و"قفز الجماعات على دماء الشعوب". إن ما يحدث في فلسطين، كما في بقية الأقطار العربية، ليس مجرد معركة تحرير أرض، بل هو صراع طويل من أجل كرامة الشعوب وحريتها. وفي هذا السياق، يجب أن تكون المقاومة شاملة وعادلة، دون أن تستغلها الجماعات لتحقيق مصالحها السياسية. لن تكون الفوضى أو العنف الطريق إلى التحرير، بل التوحد الوطني والاستراتيجية الواضحة التي تُفرّق بين التحرير الحقيقي وبين محاولات احتكار النضال باسم الشعب.
نص البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظلّ التصعيد الصـــ ـهيوني المتواصل على أهلنا في غــ ــزة، ومحاولات كسر إرادة
المــ ـقاومة، يتواصل الاستهداف الممنهج لقوى الأمة الحيّة وأبطالها المــ ـــقاومين، في إطار حملة منظمة تهدف إلى إسكات كل صوت حر وتصفية كل مشروع وحراك مقاوم.
وفي هذا السياق، تابع المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين القرار الصادر عن السلطات الأردنية بحظر جماعة الإخوان المسلمين، في خطوة تعبّر عن مستوى بالغ الخطورة من الارتهان السياسي، وانسجام فاضح مع المشروع الصهيوني وأجندته المعادية لقضايا الأمة وتطلعات شعوبها.
وإزاء هذا القرار، يُعلن المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين جملة من المبادئ والمواقف، وذلك على النحو التالي:
أولًا: في الوقت الذي تتصاعد فيه التحديات أمام الأمة، وتشتدّ الحاجة إلى طاقات الحركات الإسلامية وأدوارها في دعم قضايا الأمة، تصرّ الأنظمة القمعية على ملاحقة هذه الحركات وحظرها وتقييد حريتها، بدلًا من دعمها وتمكينها. ويكشف قرار السلطات الأردنية في هذا التوقيت الحساس انسجامًا خطيرًا مع المشروع الصـــ ــهيوني-الأميركي، وضربة مباشرة لأدوات المـ ــقاومة والإسناد الشعبي لفلسطين. أما التبريرات الأمنية المصاحبة لهذا القرار، فهي جزء لا يتجزأ من حملة إقليمية تهدف إلى كسر إرادة الشعوب، ومصادرة حقها في النضال والمــ ــقاومة، وقطع الطريق أمام أي مشروع يواجه الاحــ ــتلال أو يرفض مسار التطـ ــبيع.
ثانيًا: إن موقف النظام الأردني من القضية الفلسطينية لم يكن يومًا منسجمًا مع نبض الأمة ولا مع استحقاقات المرحلة، بل ظلّ محمّلًا بالتواطؤ والعمالة والخزي. ويأتي هذا القرار استمرارًا لمسار طويل من خيانة القضية وتفكيك خنادق المقــ ــاومة، ويؤكد أن هذا النظام قد اختار موقعه بوضوح خارج صفوف الأمة، ومع أعدائها.
ثالثًا: نرفض رفضًا قاطعًا اعتبار دعم المــ ــقاومة جريمة أو تهمة، بل نعدّه وسام شرف يُعلّق على صدر كل من انتصر لفلسطين بصدق ووعي. وإن ملاحقة الأحرار بسبب نصرتهم لقضيتهم المركزية، تمثل دليلًا فاضحًا على انحياز هذه الأنظمة لأعداء الأمة، وارتهانها التام للمشروع
الصـ ــهيوني.
رابعًا: على رموز المشروع الإسلامي وقواه الفاعلة أن يدركوا أن ما بعد الطــ ــوفان ليس كما قبله، وأن اللحظة الراهنة تفرض مراجعة جذرية للاستراتيجيات والسياسات والمواقف، مراجعة تتجاوز منطق الانتظار وردود الأفعال. فقد تغيّرت المعادلات، وسقطت الأقنعة، ولم يعد من المقبول التغاضي عن حقيقة أن هذه الأنظمة، المرتبطة عضويًا بالمشروع الصــ ــهيوني، تمثل اليوم العقبة الأبرز في وجه أي مشروع تحرري أو مقــ ــاوم. وإن مواجهة هذه الأنظمة باتت ضرورة استراتيجية لا بد منها، وهي البداية الحقيقية لمسار تحرير الأقصى واستعادة قرار الأمة وإرادتها. فلم يعد في المشهد متّسع للمناورة أو المواءمة، ولا مجال للتردد أو الحسابات الضيقة. آن أوان الحسم والوضوح: فإما انحياز صريح لمشروع الأمة ومقــ ـــاومتها، أو السقوط في مستنقع أنظمة فقدت كرامتها وباعت قضاياها.
خامسًا: إلى شباب الحركات الإسلامية، وخاصة في الأردن: أنتم سلاح الأمة في لحظتها الفاصلة، والمواجهة أصبحت واجبًا تاريخيًا لا مفر منه، فالتصدي للأنظمة التي تحرس المشروع
الصـ ـــهيوني ليس خيارًا، بل هو طريق حتمي لتحرير الأقصى، وإنقاذ الأمة من الاحـ ـــتلال والاستبداد، بكل أشكاله، السياسي والعسكري والفكري. لا تسمحوا لهذا القرار أن يكسر عزيمتكم، بل اجعلوه نقطة الانطلاق. لا تنتظروا التغيير من أحد… أنتم التغيير.
نسأل الله أن يُثبّت أقدام الأحرار، وأن يُعلي راية الحق، وأن يجعل من طــ ــوفان الأقــ ـصى بدايةً لصحوةٍ شاملةٍ تعيد للأمة كرامتها، وللمــ ــقاومة مكانتها، وللأقصى حريته.
والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الإخوان المسلمون - تيار التغيير
المكتب العام - القاهرة
الخميس 24 أبريل 2025م
25 شوال 1446هـ