ماذا بعد وقف إطلاق النــــــــار بين إيران وإسرائيل؟
الخميس 26/يونيو/2025 - 09:53 م
طباعة

قراءة مستقبلية للاستراتيجيات والتحولات المحتملة
لم يكن وقف إطلاق النار الأخير بين إيران وإسرائيل نهاية للصراع القائم بين الطرفين، بل يمثل بداية مرحلة جديدة من التنافس المركّب، ينتقل فيها الصراع من الشكل المباشر إلى أطر أكثر تعقيدًا ومرونة. فبعد سنوات من الضربات المتبادلة، واغتيالات العلماء، والهجمات السيبرانية، يبدو أن الطرفين – وإنْ اختارا التهدئة مؤقتًا – فإنهما لا يتجهان نحو السلام، بل نحو إعادة ترتيب أوراق القوة والردع بما يتلاءم مع التوازنات الدولية المتحولة والساحات الإقليمية المشتعلة.
في هذه المرحلة، يُتوقع أن تشهد المنطقة تصاعدًا في الحرب الهجينة: مزيج من العمليات الاستخباراتية، والحرب السيبرانية، وتفعيل الوكلاء الإقليميين، إلى جانب بناء تحالفات اقتصادية وعسكرية جديدة. لن يكون الصراع في صورته القادمة مجرد مواجهة تقليدية، بل صراع عقول وشبكات ونفوذ، تُستخدم فيه أدوات الإعلام، والاقتصاد، والتمويل، بقدر ما تُستخدم فيه المسيّرات والصواريخ. وفي الوقت الذي يسعى كل طرف لتفادي الانفجار الشامل، فإن هامش المغامرة والمناورة سيتسع بدرجة قد تجعل أي خطأ تكتيكي سببًا في اشتعال مواجهة واسعة.
يستند هذا التحليل إلى قراءة مستقبلية مدروسة لمجموعة من التحولات الكبرى في البنية العسكرية، والسياسية، والاستخباراتية، والاقتصادية لدى كل من إيران وإسرائيل، وتأثير هذه التحولات على البيئة الإقليمية والدولية المحيطة. كما يتوقف عند درجة تآكل أدوات النفوذ التقليدية، وتحوّل الوكلاء الإقليميين من أدوات حسم إلى عناصر توتر مكشوفة، إضافة إلى ازدياد أهمية التكنولوجيا والاقتصاد في إعادة رسم خريطة الاشتباك.
وفي هذا السياق، سنُقسّم هذا الملف إلى خمسة محاور رئيسية: المستوى العسكري (بما يشمله من تطوير للترسانة والدفاعات والحرب بالوكالة)، ثم المستوى الاستخباراتي (السيبرانية والخلايا النائمة وحرب المعلومات)، يليه المستوى السياسي والدبلوماسي (التحالفات الجديدة والاصطفافات الإقليمية)، ثم المحور الاقتصادي والدولي (العقوبات، التجارة، ممرات الطاقة)، وأخيرًا السيناريوهات المستقبلية المحتملة، بين المرحلة الباردة، والمواجهة الساخنة، والانفراجة الدبلوماسية. كل محور منها يرصد ملامح التحوّل، وأدوات التأثير، وأبرز التحديات التي قد تعيد تشكيل المشهد في الأشهر والسنوات المقبلة.
أ. تطوير الترسانة الصاروخية والطائرات المسيرة
التحديث والتوسّع في القدرات الصاروخية والمسيّرات
تسير إيران بخطى متسارعة في تطوير ترسانتها الصاروخية، مركّزة على الصواريخ الباليستية بعيدة ومتوسطة المدى ذات القدرة العالية على المناورة والدقة. في السنوات الأخيرة، كشفت طهران عن نماذج متطورة مثل "خُرمشهر-٤" و"قيام-٢"، بمدى يصل إلى أكثر من ٢٠٠٠ كم، ودقة محسّنة بفضل تقنيات التوجيه الذاتي بالأقمار الصناعية. الهدف الأساسي من هذا التوسّع هو خلق شبكة ردع تهدد العمق الاستراتيجي لإسرائيل والقواعد الأمريكية في المنطقة، وتفرض معادلة توازن بالرعب يصعب تجاوزها.
بالتوازي مع هذا، ركّزت إيران على تطوير أسطول ضخم من الطائرات بدون طيار، بعضها هجومي (مثل "شاهد ١٢٩"، و"شاهد ١٣٦") وبعضها للاستطلاع أو التشويش الإلكتروني. هذه الطائرات أثبتت فاعليتها في ميادين متعددة مثل سوريا والعراق واليمن، بل وانتقلت نماذج منها إلى روسيا لاستخدامها في أوكرانيا، مما أتاح لطهران فرصة ثمينة لاختبارها ميدانيًا وتطويرها بناءً على التجربة القتالية.
كذلك، تسعى إيران لإنشاء نظام تكاملي بين الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية، بحيث يمكن استخدامها في موجات متزامنة لإرباك الدفاعات الجوية، وزيادة احتمالية إصابة الأهداف بدقة. هذا التكامل يعكس رؤية استراتيجية جديدة تقوم على "هجمات الإشباع" التي تصعب من قدرة الدفاع الجوي الإسرائيلي، مهما بلغ تطوره، على اعتراض كل التهديدات الواردة.
الاختبارات المتقدمة: سباق نحو الهايبرسونيك
أشارت تقارير استخباراتية حديثة إلى أن إيران تعمل على تطوير نماذج أولية من الصواريخ الأسرع من الصوت (الهايبرسونيك)، والتي قد تُشكّل في حال اكتمالها نقلة نوعية في ميزان الردع الإقليمي. هذا النوع من الصواريخ يتميّز بسرعته الفائقة (تفوق ٥ ماخ) وقدرته على المناورة أثناء التحليق، مما يجعل اعتراضه أمرًا بالغ الصعوبة حتى من قبل منظومات دفاع جوي متقدمة مثل "آرو ٣" أو "باتريوت". الإعلان الإيراني الأخير عن صاروخ "فتاح" الذي قيل إنه هايبرسونيك، وإن لم تُؤكد فاعليته بعد، يدل على التوجّه الواضح في هذا الاتجاه.
هذا السباق ليس فقط تكنولوجيًا، بل يحمل أبعادًا جيوسياسية، إذ يُعتقد أن روسيا قد تقدّم لطهران مساعدات تقنية في هذا المجال مقابل دعم بالطائرات المسيّرة والذخائر. ومن غير المستبعد أن تكون بعض الاختبارات تتم في مواقع مغلقة ضمن أراضي حلفاء إيران الإقليميين، لتجنّب الرصد والاكتشاف المبكر من الأقمار الصناعية الغربية.
بالنسبة لإسرائيل، فإن بروز قدرة إيرانية على إنتاج صواريخ هايبرسونيك يُعد تطورًا مقلقًا واستفزازيًا، لأنه يفتح الباب أمام هجمات استباقية يصعب التنبؤ بها أو التصدي لها. ولذا من المتوقع أن ترد إسرائيل بتطوير "منظومات اعتراض مستقبلي"، أو تسريع الشراكات مع الولايات المتحدة لتحديث شبكة دفاعها الجوي، وهو ما قد يقود إلى تصعيد جديد في سباق التسلح في المنطقة.
الاستفادة من الخبرات الميدانية في سوريا واليمن وأوكرانيا
وفّرت الساحات المشتعلة في سوريا واليمن، وفي الآونة الأخيرة أوكرانيا، مختبرات حقيقية لإيران لاختبار منظوماتها وتكتيكاتها الجديدة. في سوريا، على سبيل المثال، استخدمت طائرات "شاهد ١٢٩" و"مهاجر-٦" في مهام استطلاع وهجوم على أهداف معارضة أو إسرائيلية، وتمّ رصد تحليقها في محيط الجولان عدة مرات. في اليمن، سمحت العلاقة مع الحوثيين بتحويل هذا البلد إلى "قاعدة أمامية" لاختبار الطائرات المسيّرة الانتحارية، وتحقيق ضربات مباشرة على أهداف نفطية سعودية وإماراتية، وهو ما كشف عن دقة ومدى هذه المسيّرات أمام العالم.
أما في أوكرانيا، فقد أظهرت الحرب هناك مدى اعتماد روسيا على الطائرات الإيرانية الانتحارية (شاهد-١٣٦) لاستهداف البنية التحتية، ما منح طهران فرصة لا تقدّر بثمن لفهم نقاط الضعف والقوة، وتحسين أداء المسيّرات بناء على نتائج ميدانية مباشرة. هذا التفاعل بين التصنيع والخبرة الميدانية جعل إيران واحدة من أبرز الدول التي طوّرت نموذجًا خاصًا من "الحرب غير المتكافئة" بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والضربات الدقيقة الرخيصة، والمرونة التشغيلية.
كل هذه الخبرات تراكمت وأصبحت جزءًا من "العقيدة العسكرية الإيرانية الجديدة"، التي تهدف إلى خوض الحروب من مسافات بعيدة، وبأقل تكلفة بشرية، وأكثر تأثير سياسي ونفسي ممكن.
ب. تعزيز الدفاعات وحماية المنشآت الحيوية
الدفاع الجوي: التحديث المحلي والانفتاح على الشركاء الشرقيين
تضع إيران تحديث الدفاعات الجوية في صلب أولوياتها العسكرية، إدراكًا منها لأن أي مواجهة مباشرة أو ضربة استباقية إسرائيلية ستعتمد بدرجة أساسية على السيطرة الجوية. وقد أحرزت طهران تقدمًا ملحوظًا في تطوير منظومات محلية مثل "بافار-٣٧٣" و"خرداد-١٥"، التي يُروّج لها باعتبارها نظيرًا لمنظومة "إس-٣٠٠" الروسية. هذه الأنظمة تعتمد على رادارات متعددة النطاقات وصواريخ بمدى يصل إلى ٢٠٠ كم، وتزعم إيران أنها قادرة على تعقب أهداف شبحية أو أسرع من الصوت.
لكن بالرغم من هذا التقدّم، تدرك القيادة الإيرانية أن المنظومات المحلية لا تزال تعاني من فجوة تكنولوجية مقارنة بالأنظمة الغربية، وهو ما يدفعها إلى البحث عن حلول هجينة. من هنا، تتجه الأنظار إلى صفقات محتملة مع موسكو وبكين للحصول على أنظمة دفاع جوي متطورة مثل "S-٤٠٠" الروسية أو "HQ-٢٢" الصينية. هذه الخطوة تمثل تحوّلًا استراتيجيًا في العقيدة الدفاعية الإيرانية، من الاعتماد الكامل على الاكتفاء الذاتي إلى تبني نهج تكاملي يجمع بين التصنيع المحلي والاستيراد النوعي.
في الوقت نفسه، يتمثل أحد التحديات الكبرى في دمج هذه المنظومات ضمن شبكة قيادة وتحكم متجانسة وفعّالة، بحيث تعمل كرادار موحّد في وجه الهجمات الجوية. وهنا، تلعب الحرب السيبرانية دورًا خفيًا، حيث تحاول إيران تحصين أنظمتها من التسلل الإلكتروني أو التعطيل الخارجي، خاصةً في ظل تقارير عن محاولات إسرائيلية لاختراق الشبكات العسكرية الإيرانية في مراحل سابقة من التصعيد.
حصانة المنشآت النووية: التمويه والتحصين العميق
في ضوء التهديدات الإسرائيلية المتكررة بضرب منشآت إيران النووية، وخصوصًا موقعي "نطنز" و"فوردو"، تعمل طهران بشكل متسارع على نقل هذه المنشآت إلى أعماق الأرض، باستخدام خرسانة مسلّحة وتقنيات هندسية متطورة للحد من فعالية أي هجوم جوي أو صاروخي. وقد أشارت تقارير استخباراتية غربية مؤخرًا إلى أن إيران بدأت في إنشاء مجمّعات تحت جبل "زاغروس" بعمق يفوق قدرة القنابل الخارقة للتحصينات المعروفة حتى الآن.
الهدف الأساسي من هذا التحصين ليس فقط الحماية الفيزيائية، بل كذلك خلق ردع نفسي وسياسي، حيث تسعى طهران إلى إيصال رسالة مفادها أن أي ضربة على منشآتها النووية لن تكون حاسمة أو مضمونة، بل قد تشعل ردًا انتقاميًا واسع النطاق. كما يجري توظيف هذه الورقة في المفاوضات الدولية للضغط على الغرب، بإبراز تكلفة أي عمل عسكري محتمل.
إلى جانب التحصين البنيوي، تطوّر إيران تقنيات متقدمة في التمويه والخداع، من بينها أنظمة بث إشارات رادارية زائفة (Decoys)، واستخدام طلاءات تمتص الأشعة تحت الحمراء والرادارية، بحيث يصعب على الطائرات أو الأقمار الصناعية اكتشاف المواقع الدقيقة للمنشآت أو تقييم الأضرار بعد القصف. كما يُعتقد أنها أنشأت أنفاقًا بديلة ومحطات طوارئ للحفاظ على استمرارية العمليات النووية حتى في حال وقوع هجوم مفاجئ.
مفهوم الدفاع الطبقي وتوسيع المظلّة الجغرافية
ضمن الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية الجديدة، لا يقتصر تحصين الأهداف على المواقع النووية أو العسكرية فقط، بل يشمل البنية التحتية الحساسة مثل محطات الكهرباء والمياه، ومراكز القيادة والسيطرة، وحتى المنشآت الاقتصادية الكبرى كالمصافي والموانئ. هذا التوسيع في مفهوم "الدفاع الشامل" يعكس وعيًا متزايدًا بأن الحرب المقبلة – حتى لو كانت محدودة – ستستهدف العمق المدني والإستراتيجي لإحداث شلل كامل.
لذلك، تعتمد إيران على نشر منظومات دفاع جوي قصيرة ومتوسطة المدى حول المدن والمواقع الحيوية، بحيث تتكامل مع المنظومات البعيدة المدى لتشكيل شبكة متعددة الطبقات قادرة على اعتراض طائرات مسيرة، صواريخ كروز، وحتى الطائرات الشبحية. كذلك، تمّ تطوير شبكة رادارات متنقلة قادرة على المراقبة المستمرة للمجال الجوي الإيراني، وحتى مراقبة الحدود العراقية والخليجية ضمن سياسة "الإنذار المبكر".
أما جغرافيًا، فتسعى إيران لتحصين المناطق الحدودية الغربية والجنوبية، لا سيما في الأحواز، وبوشهر، وخوزستان، تحسّبًا لأي تسلل جوي أو بري محتمل. بل وهناك تقارير تتحدث عن نشر منظومات في سوريا والعراق ضمن محور المقاومة، لتكون بمثابة "مناطق اعتراض متقدّمة"، تبعد الخطر عن الداخل الإيراني، وتربك حسابات الرد الإسرائيلي أو الأمريكي.
ج. الحرب بالوكالة: تراجع الأذرع القديمة ومحاولات لإعادة التموضع
رغم أن إيران لطالما اعتمدت على وكلائها في المنطقة كأداة مركزية لمدّ نفوذها وتوجيه رسائلها إلى الخصوم، فإن السنوات الأخيرة شهدت تآكلًا واضحًا في فاعلية هذه الأدوات، خاصة بعد الضربات الإسرائيلية المركّزة في لبنان وسوريا. حزب الله اللبناني، الذي كان يُعدّ الورقة الأهم في يد طهران، تلقّى خسائر استراتيجية كبيرة نتيجة الاستهداف الجوي الإسرائيلي المتكرر، الذي طال مخازن أسلحة، مراكز قيادة، ومواقع إطلاق صواريخ دقيقة. كما أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في الداخل اللبناني، والانكشاف الأمني المتزايد للحزب، أضعفت قدرته على شن عمليات هجومية واسعة دون التعرّض لخسائر فادحة أو ردود دولية.
في سوريا، المشهد أكثر تعقيدًا. فبعد صعود هيئة تحرير الشام كقوة مهيمنة، أُجبرت الميليشيات الإيرانية مثل "فاطميون" و"زينبيون" على الانسحاب أو الانكماش في مواقع محدودة. هذا الانكماش ترافق مع ضربات إسرائيلية استباقية استهدفت قوافل سلاح، ومراكز دعم لوجستي، ومقرات للحرس الثوري قرب دير الزور وتدمر. النتيجة كانت تقليص هامش الحركة الإيراني في سوريا، وتحجيم دوره كنقطة انطلاق لعمليات بالوكالة ضد إسرائيل، وهو ما يُعد نكسة استراتيجية لطهران كانت تعتمد على هذه الساحة كـ"منطقة عازلة هجومية".
أمام هذا التراجع، يبدو أن إيران تسعى إلى إعادة تموضع استراتيجية في ساحات أقل تعرضًا للضغط الإسرائيلي المباشر، مثل العراق واليمن. ففي العراق، لا تزال بعض الفصائل المنضوية تحت "الحشد الشعبي" تمتلك حرية حركة نسبية، وتستخدم سلاح الطائرات المسيّرة لضرب المصالح الأمريكية – وربما لاحقًا الإسرائيلية – كنوع من الرد غير المباشر. وفي اليمن، تظل أنصار الله (الحوثيون) ورقة ضغط بحرية بامتياز، يمكن لإيران أن تفعّلها ضد ممرات الطاقة والملاحة في البحر الأحمر، متى ما احتاجت إلى تصعيد تدريجي دون بصمة مباشرة. هكذا تتحول الحرب بالوكالة من أداة هجومية واسعة، إلى وسيلة استنزاف انتقائية محسوبة ضمن حدود البيئة الإقليمية الجديدة، التي باتت أقل تسامحًا مع النفوذ الإيراني الصريح.
التصعيد الخفي: خلايا نائمة وحرب سيبرانية متعددة الأبعاد
في ظل صعوبة خوض مواجهة عسكرية تقليدية مفتوحة، تعتمد إيران بشكل متزايد على أدوات الاستخبارات والعمليات الخفية كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. أبرز هذه الأدوات هو تفعيل الخلايا النائمة في دول متعددة، لا سيما في الداخل الإسرائيلي، وأراضي الجوار كالأردن والعراق وحتى بعض الدول الأوروبية التي تُستخدم كنقاط ارتكاز لوجستية واستخبارية. هذه الخلايا لا تُستخدم فقط لأغراض التجسس، بل لتنفيذ عمليات نوعية تستهدف شخصيات محددة، أو بنى تحتية حيوية، دون أن تترك خلفها أدلة مباشرة على تورط طهران، ما يسمح لها بالحفاظ على هامش إنكار رسمي واسع.
من جهة أخرى، تشهد القدرات السيبرانية الإيرانية تصاعدًا كبيرًا من حيث التنسيق والتنوع. فبدلاً من الاقتصار على اختراقات تقليدية لمواقع حكومية، أصبحت الهجمات الإلكترونية أكثر تعقيدًا، تستهدف شبكات الكهرباء، أنظمة المياه، المستشفيات، البنوك، وحتى وسائل الإعلام. وقد تم تسجيل عمليات اختراق ناجحة طالت منشآت استراتيجية إسرائيلية، بعضها نُسب إلى مجموعات مثل “Black Shadow” و“Charming Kitten” المرتبطة بالحرس الثوري. هذه الهجمات لا تهدف فقط إلى الإضرار بالبنية التحتية، بل أيضًا إلى زرع الشك داخل المجتمع الإسرائيلي، وإحداث اضطراب نفسي وأمني دائم.
وتُعدّ الهجمات السيبرانية أيضًا وسيلة فعّالة لضرب المصالح الإسرائيلية في الخارج، سواء عبر استهداف الشركات المتعاملة مع إسرائيل في الخليج وأوروبا، أو عبر استهداف البنية الاقتصادية والإعلامية لحلفاء تل أبيب، كالسعودية والإمارات، خاصة في لحظات التوتر الإقليمي الشديد. كما تسعى إيران إلى تعزيز تعاونها السيبراني مع حلفائها مثل روسيا والصين، لتبادل الخبرات وتطوير أدوات هجومية تتجاوز الأنماط التقليدية، وتعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لاختراق الأنظمة الدفاعية.
وأمام هذا التصعيد، تحرص إسرائيل على تطوير قدراتها في الحرب السيبرانية والدفاع الإلكتروني، لكنها تعترف بأن "الجبهة الرقمية" باتت خط الدفاع الأول والأخطر. فالهجمات الخفية لا تُقاس بعدد القتلى أو المباني المدمرة، بل بمدى قدرتها على شل مؤسسات الدولة أو التأثير على الرأي العام. في هذا السياق، يبدو أن الجبهة الاستخباراتية تتحول إلى مسرح حرب قائم بذاته، مستقل عن الجبهات العسكرية التقليدية، وأكثر تأثيرًا في تحديد معالم الصراع في السنوات القادمة.
حرب المعلومات والدعاية: الهيمنة على السرد وتفكيك الخصم نفسيًا
في موازاة العمليات السيبرانية، تعتمد إيران بشكل كثيف على حرب المعلومات والدعاية الموجّهة كأداة استراتيجية لا تقل أهمية عن الصواريخ والمسيّرات. تسعى طهران من خلالها إلى السيطرة على "سردية الصراع"، عبر تصوير نفسها كممثل للمقاومة والمظلومية في وجه "الهيمنة الصهيونية – الغربية"، مقابل شيطنة إسرائيل وحلفائها العرب بوصفهم خونة للقضية الفلسطينية. هذه السردية تُبث عبر قنوات تليفزيونية ممولة إيرانيًا (مثل العالم، الميادين، المسيرة)، إلى جانب آلاف الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تُدار من مراكز عمليات رقمية في طهران، بغداد، وبيروت.
أحد محاور هذا النشاط هو اختراق المجتمعات العربية بلغة شعبوية وشعارات تتماشى مع المزاج العام، مثل التضامن مع غزة، ورفض التطبيع، والهجوم على الأنظمة الخليجية، بهدف كسب تعاطف جماهيري واسع حتى في دول لا ترتبط مباشرة بالصراع. في المقابل، يتم تصوير الخصوم – سواء من الداخل الإيراني أو من الدول السنية – كأدوات للغرب أو كعملاء "للمشروع الصهيوني"، في سياق خطاب تعبوي ثنائي قطبي: "محور مقاومة" مقابل "محور خيانة".
تعمل إيران أيضًا على استثمار أدوات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake) لتوليد مواد مرئية تُظهر شخصيات إسرائيلية أو خليجية في مواقف محرجة، أو تروّج لمعلومات مضللة بطريقة يصعب على المستخدم العادي كشف زيفها. كما يتم استهداف الجمهور الإسرائيلي نفسه، عبر حسابات وهمية ناطقة بالعبرية، تحاول إثارة الشكوك بين الإسرائيليين بشأن قدرة حكومتهم على حمايتهم، خاصة بعد كل ضربة سيبرانية أو أمنية ناجحة.
في ظل هذه البيئة الإعلامية المعقّدة، تتحوّل المعركة على الوعي العام إلى عنصر حاسم في إدارة الصراع، بل ربما أهم من إدارة الاشتباك العسكري نفسه. فالمكاسب المعنوية التي تحقّقها إيران عند كل أزمة – حتى دون أن تطلق رصاصة واحدة – تُترجم إلى مكاسب سياسية في المحافل الدولية، وإلى استقطاب شعبي يدعم بقاء مشروعها في الوعي العربي والإسلامي، رغم التراجعات العسكرية الميدانية.
أ. تعزيز المحاور الاقتصادية والجيوسياسية: شراكة شرقية وخروج من هيمنة الغرب
في ظل الضغوط الغربية والعقوبات المتصاعدة، تسعى إيران إلى إعادة تشكيل خريطتها الجيوسياسية عبر توطيد شراكة استراتيجية مع القوى الشرقية الكبرى، وتحديدًا روسيا والصين. هذا التوجه لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل اتفاقيات تعاون عسكري وتقني طويلة الأجل، كما ظهر في الصفقة الاستراتيجية الممتدة لـ٢٥ عامًا مع الصين. ضمن هذا الإطار، تسعى طهران إلى الحصول على تقنيات متطورة في مجال الأقمار الصناعية، والطيران، والرصد الفضائي، ما يمنحها قدرة استخباراتية أكبر واستقلالية عن مصادر المعلومات الغربية.
في الجانب العسكري، تتجه إيران لتوسيع نطاق صفقات الأسلحة مع روسيا، مستفيدة من حاجات موسكو في أوكرانيا، ومن ارتخاء قبضة العقوبات نتيجة التفاهمات الثنائية. ويُحتمل أن تشمل هذه الصفقات أنظمة دفاع جوي، طائرات مقاتلة من الجيل الرابع والخامس، وغواصات هجومية صغيرة الحجم. هذه التحركات تهدف إلى كسر حالة الحصار العسكري المفروضة منذ سنوات، وتطوير الردع الإيراني في مواجهة إسرائيل والتحالف الغربي. كما أن هذا التعاون يتضمن تبادلًا في الخبرات القتالية، خصوصًا في مجال الحرب السيبرانية والطائرات المسيّرة، التي أثبتت فعاليتها في جبهات عدة.
اقتصاديًا، تعوّل طهران على بناء ما يُعرف بـ "الاقتصاد الرمادي"، عبر شراكات مع دول مثل الصين والهند وروسيا وفنزويلا، خارج المنظومة المالية الدولية التي تهيمن عليها واشنطن. ويتم ذلك من خلال استخدام العملات المحلية أو الرقمية، وإنشاء مسارات بديلة لتصدير النفط بعيدًا عن أعين المؤسسات الرقابية الغربية، كمنصات التجارة المقايضية، أو شحنات بحرية مموّهة. الهدف الأساسي هنا هو كسر احتكار الدولار، والتحلل التدريجي من تأثيرات العقوبات التي كبّلت الاقتصاد الإيراني لعقود.
في هذا السياق، تتحول إيران إلى نقطة ارتكاز ضمن محور عالمي مضاد للغرب، يجمع دولًا تسعى لتحدي النظام الدولي القائم أو التحايل عليه. هذا المحور لا يستند فقط إلى المصلحة الآنية، بل إلى رؤية مشتركة لعالم "متعدد الأقطاب"، تكون فيه السيادة الوطنية فوق الالتزامات الغربية. مثل هذا الاصطفاف يُكسب طهران دعمًا سياسيًا في المحافل الدولية، ويمنحها غطاءً سياسيًا لأدوارها الإقليمية، ويعزز من صلابتها في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة.
ب. تحديات المحيط العربي: اصطفاف مضاد وتحوّلات استراتيجية حسّاسة
في مقابل التمدد الإيراني، تسعى دول الخليج – خصوصًا السعودية والإمارات – إلى بناء شبكة تحالفات دفاعية وأمنية لمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد. خلال الأعوام الأخيرة، شهدنا انفتاحًا غير مسبوق في العلاقات الخليجية – الإسرائيلية، تمثّل في تعاون استخباراتي وتنسيق أمني عالي المستوى، حتى وإن لم يُعلن دائمًا بشكل رسمي. الهدف من هذا التعاون هو مواجهة التهديدات الإيرانية، خاصة على صعيد المسيّرات، والصواريخ، والحرب السيبرانية، إضافة إلى مراقبة تحركات الحرس الثوري وأذرعه في الخليج والعراق.
وقد يتطور هذا التعاون خلال المرحلة المقبلة ليشمل برامج ردع نووي غير معلن، سواء عبر إنشاء محطات نووية سلمية خاضعة لتغطية أمنية مشتركة، أو عبر الدخول في برامج بحثية مشتركة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تتيح هامشًا تقنيًا قريبًا من العتبة النووية. هذا السيناريو لا يعني بالضرورة امتلاك سلاح نووي، لكنه يرسم ملامح "توازن رعب إقليمي" جديد، تُدفع إليه دول الخليج بدافع من الخوف من انفراد إيران بامتلاك قدرة نووية هجومية مستقبلاً.
في موازاة ذلك، تشهد المنطقة اصطفافًا إقليميًا أكثر حدة بين محورين: الأول تقوده إيران ويضم حلفاءها التقليديين (ما تبقي من كيانات تابعة في سوريا، بعض أطراف العراق، أنصار الله في اليمن)، والثاني يضم إسرائيل، والغرب، ودول الخليج، وربما لاحقًا تركيا في سياقات معيّنة. هذا الاستقطاب يجعل المنطقة أكثر هشاشة، حيث قد تُترجم أي أزمة أو حادث محلي إلى تصعيد إقليمي واسع، كما حدث مرارًا في غزة، لبنان، أو البحر الأحمر. الحدود بين الأزمات المحلية والصراعات الإقليمية باتت شبه معدومة.
ورغم بعض المؤشرات على الحوار الإيراني – الخليجي بوساطة عراقية أو عمانية، فإن عمق الشكوك بين الطرفين لا يزال عائقًا أمام تطبيع كامل. بالنسبة للدول العربية، فإن السلوك الإيراني في العراق وسوريا واليمن ما زال يُعد تهديدًا وجوديًا. وبالنسبة لطهران، فإن التنسيق الخليجي مع إسرائيل يُنظر إليه كعدوان مبطّن. هكذا، فإن المحيط العربي لإيران لم يعد ساحة مرنة كما كان في السابق، بل أصبح "حزام اشتباك ناعم"، قد يشتعل في أي لحظة مع تغيّر موازين القوى أو في حال اندلاع مواجهة في الساحة الفلسطينية أو اللبنانية.
أ. حرب العقوبات: ضغط مستمر وتحوّل نحو اقتصاد ظل متعدد الشراكات
رغم التحولات الجيوسياسية، لا تزال العقوبات الاقتصادية الغربية تشكّل أبرز أدوات الضغط على إيران، سواء من قبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وتشمل هذه العقوبات قطاعات النفط، البنوك، الصناعات البتروكيميائية، الشحن، والتحويلات المالية. وهي تمنع إيران من الدخول في النظام المالي العالمي (SWIFT)، وتقيّد قدرتها على بيع النفط بحرية، ما يؤثر بشدة على إيرادات الدولة ويزيد من معدلات التضخم والبطالة.
ردًا على ذلك، عملت طهران على تطوير ما يُعرف بـ"الاقتصاد المقاوم"، القائم على التحايل المنظم على العقوبات عبر شبكات تهريب معقدة، وطرق دفع بديلة تشمل المقايضة بالسلع، والتحويلات عبر وسطاء في بلدان مثل الإمارات، تركيا، أو حتى أمريكا اللاتينية. كما أنشأت إيران بنوكًا ومؤسسات مالية موازية لا تعتمد على الدولار، وتحاول تسويق النفط بأسعار أقل إلى أطراف لا تلتزم بالعقوبات، خاصة في آسيا.
من بين أبرز الشركاء الذين تعتمد عليهم طهران: الصين، التي تُعد أكبر مستورد للنفط الإيراني رغم الحظر، وروسيا، التي تشاركها نفس الظروف بعد الحرب في أوكرانيا، والهند، التي تسعى للتوازن بين مصالحها مع واشنطن والحفاظ على علاقاتها التاريخية مع طهران. هذا التنويع يمنح إيران شريان حياة اقتصادي، لكنه لا يعوّض بالكامل عن فقدان الأسواق الغربية أو التقنيات الحديثة المرتبطة بها، ما يجعل النمو الاقتصادي هشًا وغير مستدام.
في المحصلة، فإن الاقتصاد الإيراني يدخل مرحلة "الاعتماد على الحلفاء لا المؤسسات"، وهي مرحلة محفوفة بالمخاطر، حيث يصبح مصير الاقتصاد مرتهنًا لتوازنات سياسية خارجية غير مستقرة. لكن في المقابل، تمنح هذه الوضعية طهران هامش مناورة تكتيكي، حيث يمكنها "الصمود تحت الضغط" وشراء الوقت ريثما تتغير الظروف الإقليمية أو تتاح فرصة تفاوضية جديدة مع الغرب.
ب. حرب ممرات الطاقة والتجارة: من الخليج إلى شرق المتوسط – خطوط اللهب
تُدرك إيران جيدًا أن أحد أهم أوراقها في الصراع الجيو-اقتصادي هو التحكّم أو التهديد المباشر لممرات الطاقة والتجارة الحيوية في المنطقة، وهي ورقة لطالما استخدمتها كأداة ردع غير تقليدية. فمضيق هرمز، الذي يمرّ عبره نحو ٢٠٪ من النفط العالمي، يقع تحت مرمى النيران الإيرانية، وقد سبق أن هُددت بإغلاقه في حالات تصعيد سابقة. هذه القدرة على التلويح بالخطر – دون الدخول في مواجهة مباشرة – تمنح طهران تأثيرًا استراتيجيًا يفوق قدرتها الاقتصادية الفعلية.
غير أن باب المندب والبحر الأحمر باتا أكثر حساسية اليوم، بعد دخول الحوثيين – حلفاء إيران – على خط المواجهة البحرية. وقد شهدنا بالفعل عمليات استهداف سفن شحن إسرائيلية أو مرتبطة بها، في إطار الحرب غير المعلنة على الملاحة، ما يهدد أحد أهم شرايين التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا. هذه المنطقة تحوّلت إلى مسرح دائم للتوتر، بحيث يمكن لأي حادث صغير أن ينعكس على أسعار الشحن والنفط عالميًا، في ظل انكشاف أمني جزئي لا تستطيع حتى القوات الأمريكية تأمينه بالكامل.
أما في شرق المتوسط، فإن الصراع على الغاز والطاقة البحرية بين إسرائيل، لبنان، وتركيا بات هو الآخر جزءًا من معادلة النفوذ الإقليمي، وتحاول إيران التأثير عليه عبر تحريك وكلائها أو التأثير على الرأي العام في بعض الدول. وقد تتحول هذه المنطقة لاحقًا إلى بؤرة صراع غير مباشر إذا ما تصاعدت المواجهة، خاصة في ظل محاولات تشكيل تحالفات للطاقة تضم إسرائيل ودولًا عربية، وهو ما تعتبره طهران استهدافًا مباشرًا لها.
في هذا السياق، يمكن القول إن إيران لا تستهدف السيطرة على هذه الممرات بقدر ما تسعى إلى جعلها "رهائن جغرافية" قابلة للاشتعال عند الحاجة. وهو ما يضع المجتمع الدولي – لا سيما أوروبا والولايات المتحدة – أمام معضلة: إما احتواء إيران دبلوماسيًا، أو المخاطرة بانفجار بحري – اقتصادي قد يؤثر على الاستقرار العالمي. ولذلك فإن هذه الحرب غير المعلنة على الممرات التجارية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من أدوات الردع الإيرانية الهجينة، المتداخلة مع كل مفاصل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
أ. المرحلة الباردة: تصعيد دون اشتعال – الحرب الرمادية
في هذا السيناريو، يُتوقع أن يظل الصراع الإيراني–الإسرائيلي في إطار "الحرب الرمادية"، أي دون إعلان رسمي للمواجهة، مع استمرار العمليات المحدودة والاستنزافية التي لا تتجاوز "الخطوط الحمراء" المتفق عليها ضمنيًا. ستُستخدم أدوات مثل الاستخبارات، الحرب السيبرانية، والاستهداف غير المباشر عبر الوكلاء، لضرب المصالح المتبادلة بشكل متقطّع، بما يسمح بتحقيق مكاسب تكتيكية دون دفع الكلفة الاستراتيجية للحرب الشاملة.
ستبرز في هذا السياق العمليات النوعية والموجّهة، مثل استهداف منشآت نووية، أو اغتيال علماء ومسؤولين أمنيين، أو شلّ منشآت حيوية عبر هجمات إلكترونية دقيقة. هذه الأعمال ستُنفَّذ بأدوات غير تقليدية يصعب رصدها أو نسبها بشكل قاطع، مما يُبقي حالة "الإنكار الرسمي" قائمة. ومع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة، والاختراق السيبراني، ستكون هذه المرحلة مساحة لتجريب أدوات الصراع الجديدة، وتطوير بنك الأهداف على الجانبين.
في هذا السيناريو، سيكون للوكلاء الإقليميين دور محوري، لكن بطريقة "المشاركة الحذرة"، أي دون الانزلاق إلى معارك واسعة. فحزب الله قد يطلق طائرات مسيرة، أو يقصف أهدافًا محدودة في الجليل، لكن من دون نية للتصعيد الشامل. بالمثل، قد ينفذ الحوثيون عمليات في البحر الأحمر، أو تستهدف فصائل في العراق مواقع أميركية، ضمن هامش محسوب. الهدف الأساسي هنا هو الحفاظ على التوازن: ضغط بلا انهيار، وتهديد بلا انفجار.
هذه المرحلة، رغم أنها تُجنب المنطقة كلفة الحرب، إلا أنها تخلق مناخًا دائمًا من التوتر وعدم الاستقرار، وتُرهق الأنظمة السياسية والاقتصادات المحلية، وتفتح المجال لأخطاء في الحسابات قد تتحوّل إلى صدام غير مقصود. ولذلك فإن المرحلة الباردة، رغم أنها السيناريو الأرجح حاليًا، ليست مستدامة إلى الأبد، وقد تكون مجرد "هدنة مشروطة" تسبق انفجارًا لاحقًا.
ب. المرحلة الساخنة: اشتعال محدود.. وانزلاق مفتوح
في هذا السيناريو، تنزلق إيران وإسرائيل إلى مواجهة عسكرية محدودة في الزمان والمكان، لكنها تحمل مخاطر التوسّع السريع. قد تبدأ هذه المرحلة نتيجة عملية نوعية إسرائيلية خاطفة في لبنان، أو استهداف مفرط لمنشأة نووية إيرانية، أو بسبب عملية انتقامية خارجة عن السيطرة من أحد وكلاء إيران. وتشير تجارب السنوات السابقة إلى أن اشتباكًا من هذا النوع يمكن أن يتصاعد بسرعة إلى حرب إقليمية، نتيجة تداخل المحاور وسرعة الانتقام المتبادل.
ستكون الساحات الأكثر عرضة للاشتعال هي لبنان، وسوريا، والعراق. في لبنان، قد يجد حزب الله نفسه مضطرًا للرد إذا قُصفت مراكز استراتيجية أو قُتل قيادي بارز، ما قد يدفع إلى حرب شاملة على الحدود الشمالية لإسرائيل. في سوريا، رغم تراجع الوجود الإيراني الميداني، فإنها قد تُستخدم مجددًا كمنصة لإطلاق صواريخ أو كغطاء لعمليات انتقامية. أما في العراق، فالميليشيات الشيعية قد تستهدف القواعد الأمريكية أو حتى الإسرائيلية (في حال توسّع النشاط الأمني الإسرائيلي هناك)، ما يفتح الباب لتصعيد واسع.
الرد الإيراني في هذا السيناريو قد يكون مباشرًا أو عبر تحريك جبهات متعددة، وهو ما قد يجعل الحرب تتخذ طابعًا إقليميًا واسعًا، خاصة إذا تدخلت الولايات المتحدة أو سعت دول الخليج إلى حماية مصالحها بالقوة. ستكون الجبهات البحرية (الخليج، باب المندب، شرق المتوسط) أيضًا جزءًا من المعركة، وستتضرر خطوط الطاقة والملاحة، مما سيؤثر على الأسواق العالمية، ويرفع منسوب الضغط الدولي لوقف القتال.
لكن المفارقة هي أن هذه المرحلة، رغم كلفتها البشرية والاقتصادية الضخمة، قد تخلق فرصة لتغيير قواعد الاشتباك أو فرض واقع سياسي جديد، إذا خرج أحد الطرفين منتصرًا أو أُجبر الطرفان على الجلوس إلى الطاولة تحت ضغط السلاح. غير أن هذه النتائج تبقى مرهونة بدرجة السيطرة والانضباط لدى كل طرف، وقدرته على تجنب الانزلاق نحو "حرب شاملة بلا سقف".
ج. المرحلة الدبلوماسية: توازن هش برعاية وسطاء
السيناريو الثالث يفترض أن الأطراف – رغم التصعيد – ستقبل بالعودة إلى طاولة التفاوض، بوساطة أطراف ثالثة مثل عمان، قطر، أو سويسرا. هذا الخيار يرتكز على إدراك كل من إيران وإسرائيل أن تكلفة الحرب الشاملة ستكون أكبر بكثير من أي مكاسب محتملة، وأن العالم – خاصة بعد أزمات أوكرانيا وغزة – لم يعد يحتمل جبهة توتر جديدة قابلة للانفجار في كل لحظة.
هذه المرحلة لا تعني السلام، بل تقود إلى "نظام توازن مؤقت"، قائم على التفاهم غير المعلن حول قواعد الاشتباك، وضبط النفس، وتحييد بعض الجبهات. قد يتم الاتفاق على عدم استهداف المنشآت النووية بشكل مباشر، أو عدم الانخراط في حرب بالوكالة خارج الحدود، مقابل تخفيف بعض الضغوط الاقتصادية أو تسهيلات في التبادل التجاري. الدور الأهم في هذه المرحلة سيكون للدبلوماسية السرية، والرسائل غير المباشرة عبر الوسطاء، وربما اتفاقات أمنية مؤقتة برعاية دولية.
لكن التحدي الأكبر في هذه المرحلة يتمثل في هشاشة التفاهمات، إذ إن أي طرف إقليمي خارج الحسابات (كالحوثيين، أو فصائل الحشد، أو متطرفين داخل إسرائيل نفسها) قد يُفجّر الوضع بعملية غير محسوبة، تُجبر الجميع على العودة للمربع الأول. كما أن غياب الثقة التاريخية بين إيران وإسرائيل، وتناقض أهدافهما الوجودية، يجعل من أي اتفاق هدنةً مؤقتة لا تُفضي بالضرورة إلى سلام دائم.
ورغم ذلك، فإن المرحلة الدبلوماسية قد تُستخدم كنافذة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب أوراق اللعبة، سواء من قبل القوى الإقليمية أو الفاعلين الدوليين. وقد تكون مناسبة لطرح مبادرات أوسع نحو تخفيض التسلّح، أو رسم خرائط أمنية جديدة، لكنها تبقى مرهونة بالاستعداد السياسي، والضغط الدولي، ووجود وسطاء فاعلين يمكنهم ضبط إيقاع التوتر في أخطر منطقة بالعالم.
الخلاصة: نحو مرحلة "حرب هجينة طويلة الأمد"
لا يمثل وقف إطلاق النار الأخير بين إيران وإسرائيل نهاية للصراع، بل هو هدنة ظرفية تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المواجهة متعددة الأبعاد، حيث تختلط أدوات الحرب التقليدية بأشكال الصراع غير المباشر، ويتقدّم الفعل السيبراني والاستخباراتي والإعلامي ليملأ الفراغ الذي تركته المدافع مؤقتًا. لقد تحوّلت المنطقة إلى رقعة شطرنج متحرّكة، تتحرّك فيها القوى الكبرى والإقليمية ضمن معادلات دقيقة من الردع والمناورة، يصعب معها التنبؤ بالخطوة التالية دون قراءة عميقة للتوازنات الهشة.
المرحلة المقبلة ستكون مسرحًا لـصراع طويل منخفض الحدة، قائم على ضربات موضعية، وحروب بالوكالة، وهجمات سيبرانية، ومناوشات إعلامية، لا تصل حدّ الحرب المفتوحة لكنها تظل كفيلة بإبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم. أدوات الردع لم تعد مقتصرة على الصواريخ والجيوش، بل باتت تشمل السردية الإعلامية، الاقتصاد الرمادي، والاصطفافات الدولية الجديدة. والنتيجة: شرق أوسط يتقن فنّ "اللاحرب" و"اللاسلم"، ويتحرّك ضمن منطقة رمادية سياسية وأمنية واقتصادية.
أمام هذا المشهد، من الضروري أن تتبنّى الدول العربية، خصوصًا الخليجية والمركزية منها (مثل مصر والسعودية والإمارات)، استراتيجيات أكثر واقعية ومرونة، ترتكز على بناء تحالفات أمنية متوازنة، وتطوير قدرات الدفاع السيبراني، وإعادة التفكير في مفاهيم الردع التقليدية. كما تحتاج إلى توسيع أدوات قوتها الناعمة، ليس فقط لمواجهة سردية "المقاومة" التي توظفها طهران، بل أيضًا لبناء خطاب إقليمي مستقل يحصّن المجتمعات من الاستقطاب الطائفي أو الاختراق الإعلامي الخارجي.
كذلك، فإن القوى الإقليمية مطالبة بتفعيل قنوات الوساطة الدبلوماسية، سواء عبر أطراف مثل سلطنة عمان وقطر، أو من خلال آليات إقليمية جديدة تضمن إدارة النزاعات وتحييد التصعيد، بدلًا من الارتهان للمبادرات الدولية المتأخرة. فالتعامل مع "الحرب الهجينة طويلة الأمد" لا يقتضي فقط الاستعداد العسكري، بل أيضًا بناء منظومات استقرار سياسي واقتصادي ومجتمعي قادرة على امتصاص الصدمات، وتحويل لحظات التوتر إلى فرص لإعادة ترتيب الأولويات. فقط بهذا المزيج من الواقعية والمرونة، يمكن للإقليم أن يتفادى الأسوأ، ويصوغ معادلة أمنية أكثر استدامة.
الصراعات لا تنشأ من فراغ، وغالبًا ما تُدار، تُغذّى، أو يُسمح لها بالاستمرار عندما تخدم أهدافًا أكبر من مجرد خلافات داخلية.»
ماذا بعد وقف إطلاق النــــــــار بين إيران وإسرائيل؟
الصراع الإيرانى- الإسرائيلى فى جوهره لم يعد متعلقًا فقط بالحدود أو العقائد بل بات جزءًا من معركة كبرى على الممرات والموارد وعلى الهيمنة على الفضاءات الجغرافية كلا الطرفين رغم عدائهما يتحركان ضمن مناخ استراتيجى تسمح به القوى الكبرى وتُعيد ضبطه كلما اقتضت الحاجة الصراعات التى تغذيها إيران واسرائيل فى سوريا ولبنان والعراق واليمن تؤدى إلى إبقاء المنطقة فى حالة عدم استقرار تمنع تنفيذ المشاريع الاقتصادية الكبرى وتُبقى على الوجود العسكرى الغربى بوصفه ضرورة الصراع الإيرانى–الإسرائيلى فى مظهره أيديولوجى لكن فى مضمونه جيوسياسى يخدم مصالح أكبر من الأطراف المتنازعة ويشكل جزءًا من آلية التحكم الاستراتيجى فى المنطقة.