إمبراطورية الحرس الثورى كيف نهب اقتصاد إيران وأفقر شعبها رغم ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن؟

الجمعة 27/يونيو/2025 - 10:39 م
طباعة إمبراطورية الحرس كتبت - أميرة الشريف
 
رغم امتلاك إيران ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن، يعانى الاقتصاد الإيرانى من تدهور متسارع، وانكماش متواصل، وتضخم قاسٍ أفقر الملايين.
المفارقة المؤلمة أن هذه الموارد لا تُدار لصالح الشعب، بل تقع تحت رحمة مافيا الحرس الثورى الإيراني، الذى حوّل الدولة إلى حقل نفوذ اقتصادى وعسكرى مغلق، فعندما تأسس الحرس الثورى الإيرانى فى عام 1979 بأمر من المرشد الأول للنظام آية الله خميني، لم يتوقع أى من قادة الثورة أن هذا الجهاز سيصبح، ليس أكثر المؤسسات العسكرية الإيرانية كفاءة ويد إيران الطولى للتدخل والتوسع فى منطقة الشرق الأوسط وما وراءها، والقبضة الحديدية لقمع المعارضين فى الداخل فحسب، بل أيضاً سيسيطر هذا الجهاز على الاقتصاد الإيرانى بالمطلق عبر جناحه الاقتصادى المعروف باسم "مقر خاتم الأنبياء"، مما دفع الكثيرين لأن يصفونه بـ"المافيا العملاقة" ويحملونه مسؤولية إفلاس الاقتصاد الإيراني.
     
يمتلك أغلب الأسهم فى شركات سيارات.. وله أذرع مالية فى شركات تأمين وبنوك.. ويسيطر على السوق السوداء لبيع النفط والعملة الصعبة
 وبسيطرته على المفاصل الإنتاجية والمالية والتجارية، أصبح الحرس الثورى دولة داخل الدولة، بينما يدفع المواطن الإيرانى ثمن هذا الاستحواذ فى صورة بطالة وفقر وحرمان من أبسط الحقوق.
بنية الاقتصاد الإيراني.. غنى الموارد وفقر الإدارة
يعتمد الاقتصاد الإيرانى بشكل رئيسى على صادرات النفط والغاز، اللذين يمثلان أكثر من ٨٠٪ من دخل العملة الصعبة. إلا أن هذا الاعتماد المفرط على قطاع واحد جعل الاقتصاد هشًا أمام التقلّبات الدولية والعقوبات الغربية. 
وبجانب النفط، تمتلك إيران قطاعات واعدة مثل الزراعة، والصناعات التحويلية، والتعدين، لكنها بقيت مهمّشة أو مستحوذًا عليها من قِبل كيانات تابعة للدولة أو للحرس الثوري.
فى ظل العقوبات، لم تبادر الدولة إلى تنويع الاقتصاد أو تشجيع القطاع الخاص بشكل جاد، بل كرّست السياسات الريعية التى تسمح للأجهزة السيادية بالاستفادة من السوق السوداء واحتكار الموارد.
ويُقدّر الخبراء أن نحو ٦٠٪ من الاقتصاد الإيرانى يُدار من خلال كيانات دينية أو عسكرية أو شبه حكومية، ما يعيق أى إصلاح أو تطوير حقيقي.
من حارس الثورة إلى ناهب الثروة
تأسس الحرس الثورى عام ١٩٧٩ كقوة أمنية لحماية الثورة الإسلامية، لكنه سرعان ما تمدد فى مفاصل الدولة، خاصة بعد الحرب العراقية الإيرانية (١٩٨٠–١٩٨٨). حيث بدأت سيطرة "الحرس" على الاقتصاد الإيرانى عام ١٩٨٩، وفُتحت أبواب السلطة والثروة الاقتصادية على مصراعيها للحرس من خلال استحداث المادة ١٤٧ من الدستور الإيرانى التى نصت على أنه: "على الحكومة فى زمن السلم أن تستفيد من أفراد الجيش وتجهيزاته الفنية فى أعمال الإغاثة والتعليم والإنتاج، وجهاد البناء، مع مراعاة موازين العدالة الإسلامية بشكل كامل وبما لا يُضر بالجهوزية العسكرية للجيش".. وبذلك، استغل "الحرس" الهدوء بعد الحرب مع العراق، لكى يوسع أنشطته الاقتصادية.
فى بداية التسعينيات، بدأ الحرس يتدخل فى المشروعات الاقتصادية بحجة المساهمة فى إعادة إعمار البلاد، لكن هذه المشاركة تحوّلت تدريجيًا إلى احتكار. وسيطر قبل عام ١٩٩٧  على ثلث الواردات الإيرانية، من خلال إنشاء ٦٠ مرسى بحريًا على شواطئ الخليج العربى وبحر عمان، و١٠ مطارات، من ضمنها مطار "بيام" بالقرب من العاصمة طهران.
الذراع الاقتصادية الأبرز للحرس هى "مؤسسة خاتم الأنبياء للإعمار"، وهى تسيطر على مئات المشروعات فى مجالات النفط والغاز، والطرق، والموانئ، والاتصالات. وبحسب مصادر غربية، فإن خاتم الأنبياء وحدها تتولى تنفيذ مشاريع تتجاوز قيمتها ٥٠ مليار دولار، دون رقابة أو مناقصات مفتوحة.
لا يقف نفوذ الحرس عند حدود المشاريع الإنشائية؛ بل يمتلك أسهماً فى شركات سيارات مثل "إيران خودرو"، وله أذرع مالية فى شركات تأمين وبنوك، ويسيطر على جزء من السوق السوداء لبيع النفط والعملة الصعبة، ما يضمن له أرباحًا هائلة خارج الموازنة الرسمية للدولة، خاصةً أنه يقوم بكل هذه الأنشطة بعيدًا عن الوزارات ذات الصلة.
السيطرة على قطاع النفط..  من الإنتاج إلى التهريب
من أبرز مجالات النفوذ التى يمارسها الحرس الثورى هى السيطرة على قطاع النفط، وهو شريان الحياة للاقتصاد الإيراني، ففى ظل العقوبات الأمريكية، أصبحت تصديرات النفط الرسمية محدودة، وهو ما فتح المجال أمام الحرس لقيادة عمليات تهريب واسعة للنفط الخام ومشتقاته عبر شركات وهمية ومسارات بحرية سرّية.
ووفقًا لتقارير أمريكية، يمتلك الحرس شبكة ناقلات نفط تُغير هويتها باستمرار، وتنقل النفط الإيرانى إلى الصين وماليزيا وفنزويلا، مقابل عمولات ضخمة.
كما يستخدم الحرس بعض الدول كوسيطات مالية لتجاوز النظام المصرفى العالمي، ما يضمن له تدفقًا غير مشروع للأموال، دون أن يستفيد منها الشعب الإيرانى بأى شكل.
الحرس وسوق العملة.. تحكم فى السوق السوداء
بجانب النفط، يتحكم الحرس فى سوق العملة، حيث يشرف على بيع وشراء الدولار واليورو فى السوق السوداء عبر شركات صرافة تابعة له.
وفى فترات الأزمات، يتعمد الحرس ضخ أو سحب العملة الصعبة لخلق طلب مرتفع، يتيح له جنى أرباح ضخمة على حساب استقرار الاقتصاد.
هذا التدخل المُمنهج أدى إلى انهيار قيمة الريال الإيراني، حيث تجاوز سعر الدولار ٦٠٠ ألف ريال فى السوق السوداء، مقابل سعر رسمى لا يتجاوز ٤٢ ألف ريال، وهو ما فاقم من معاناة الإيرانيين ورفع أسعار السلع المستوردة إلى مستويات جنونية.
الشعب الإيرانى يدفع الثمن .. الفقر والبطالة والحرمان
فى بلد يمتلك رابع أكبر احتياطى نفطى فى العالم وثانى أكبر احتياطى غاز، يعانى أكثر من نصف السكان من الفقر بمستوياته المختلفة، حسب تقديرات مؤسسات إيرانية مستقلة.
وتُظهر الإحصاءات أن أكثر من ١٥ مليون إيرانى يعيشون تحت خط الفقر المدقع، بينما تُقدر البطالة بين الشباب بنحو ٢٧٪، وقد تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير فى المناطق الريفية والأطراف.
الفجوة الطبقية فى إيران اتسعت بشكل خطير، حيث تعيش قلة قليلة من المتنفذين، وخاصة المحسوبين على الحرس الثورى والمؤسسات الدينية، حياة مترفة داخل العاصمة طهران ومدن كبرى، بينما يعيش المواطن العادى فى دوامة من الغلاء وانعدام فرص العمل وتدهور الخدمات.
وقد أدى هذا الوضع إلى موجات غضب متكررة، كان أبرزها فى ديسمبر ٢٠١٧ ويناير ٢٠١٨، ثم فى نوفمبر ٢٠١٩، حين اندلعت احتجاجات شعبية واسعة بسبب رفع أسعار الوقود.
قابلها النظام بالقمع، وراح ضحيتها مئات القتلى وآلاف المعتقلين. والسبب الجذرى لكل ذلك، وفق محللين، هو الاستحواذ الكامل على الاقتصاد من قِبل مؤسسات لا تملك أى رؤية تنموية، بل تسعى فقط للثراء والنفوذ.
تهريب السلع والسوق السوداء .. اقتصاد الظل المزدهر
فى ظل العقوبات الغربية، تحوّلت إيران إلى بيئة خصبة لاقتصاد الظل، حيث يُهرّب كل شيء: من الوقود، إلى المواد الغذائية، إلى الأدوية، إلى الأجهزة الإلكترونية.
وغالبًا ما تكون المافيات المرتبطة بالحرس الثورى هى المتحكمة فى شبكات التهريب، وتحقق من خلالها أرباحًا طائلة.
ففى محافظة سيستان وبلوشستان، على سبيل المثال، تنتشر شبكات تهريب الوقود إلى باكستان وأفغانستان بإشراف ضمنى من بعض الأجهزة.
وفى مناطق الجنوب، تُستخدم الموانئ غير الرسمية فى تهريب السلع عبر الخليج. وكل هذا يتم فى ظل غياب الرقابة، وتحت مظلة “الاقتصاد المقاوم”، الذى يتحول فعليًا إلى اقتصاد مافيوى لا يخدم إلا فئة ضيقة.
قطاعات خدمية تنهار فى ظل إنفاق عسكرى هائل
بينما يُخصص الحرس الثورى ميزانيات ضخمة لمؤسساته ومغامراته العسكرية فى سوريا والعراق واليمن ولبنان، يعانى المواطن الإيرانى من انهيار فى الخدمات الأساسية.
فقد شهدت الميزانية العامة فى السنوات الأخيرة تراجعًا مستمرًا فى تمويل قطاعات التعليم والصحة، ما أدى إلي، نقص حاد فى الأدوية الأساسية والمعدات الطبية، ارتفاع تكاليف التعليم الجامعى والخاص،  ضعف البنية التحتية للمدارس والمستشفيات فى الأقاليم الفقيرة، نزوح الكوادر الطبية إلى الخارج بحثًا عن أجور لائقة.
وفى المقابل، تُضخ مليارات الدولارات فى مشاريع تسليح وتدريب ميليشيات فى الخارج، وهو ما يعتبره المواطنون نوعًا من “الخيانة الداخلية”، حين يُهمل الداخل من أجل أجندات خارجية تخدم طموحات الحرس الثورى وحده.
مؤسسة المستضعفين وغيرها .. أذرع أخرى للسيطرة
بعيدًا عن الحرس الثوري، توجد كيانات اقتصادية ضخمة مثل "مؤسسة المستضعفين"، التى تأسست لمساعدة الفقراء بعد الثورة، لكنها تحوّلت إلى إمبراطورية مالية تدير آلاف العقارات والمصانع، وتُقدّر أصولها بمليارات الدولارات. ومع أن هذه المؤسسة يُفترض أنها خيرية، إلا أنها لا تخضع لأى نوع من الرقابة المالية أو القضائية، شأنها شأن باقى المؤسسات شبه الحكومية المرتبطة بالمؤسسة الدينية أو بالحرس.
وتشمل هذه المنظومة الاقتصادية المعقدة أيضًا "مؤسسة الشهيد"، و"أستان قدس رضوي" فى مشهد، التى تدير أوقافًا ضخمة وتتدخل فى مجالات الاقتصاد والسياحة والزراعة والتجارة.
كل هذه المؤسسات تمارس نشاطًا اقتصاديًا واسعًا دون أن تدفع ضرائب للدولة، ما يحرم الموازنة العامة من مصادر تمويل ضخمة، ويزيد من عجز الميزانية، فى حين تُجبى الضرائب من المواطنين العاديين والتجار الصغار.
القطاع الخاص..  رهينة فى يد المؤسسات السيادية
يعانى القطاع الخاص الإيرانى من تهميش شديد، بسبب هيمنة المؤسسات التابعة للحرس الثورى والمؤسسات الدينية على أغلب المشاريع الحكومية.
فغالبًا ما تُمنح العقود الكبرى من دون منافسة نزيهة، ويتم استبعاد الشركات الخاصة إما بدافع سياسى أو لضمان استمرار الأرباح داخل دائرة الولاء للنظام.
كما تُفرض على رجال الأعمال الناشطين خارج دوائر السلطة ضرائب باهظة، وتتم ملاحقتهم أمنيًا فى حال حاولوا الاعتراض أو التوسع.
وقد هاجر كثير من المستثمرين الإيرانيين إلى دول مثل تركيا، وجورجيا، والإمارات، للاستثمار فى بيئات أكثر استقرارًا وأقل فسادًا.
هذه السياسة تُخنق النمو الاقتصادي، وتمنع خلق فرص عمل حقيقية، وتعزز ثقافة الفساد والمحسوبية داخل المجتمع الإيراني.
شهادات وتحليلات من الداخل الإيراني
كانت لجنة الخبراء الاقتصاديين القريبة من الرئيس الراحل حسن روحانى قد كشفت الوضع المزرى للاقتصاد الإيرانى خلال السنوات الثمانى التى سبقت حكم روحانى دون أن تشير للحرس الثورى ودوره المباشر فى الاقتصاد. وجاء فى تقرير اللجنة: "على الرغم من أن الطاقة والإمكانيات الكامنة للاقتصاد الإيرانى تضع هذا البلد فى الرتبة الـ٢٠ فى العالم إلا أن القوة الفعلية تهبطه إلى المرتبة الـ٧٠".
وفى وقت سابق، كشف شهادات بعض الاقتصاديين والمعارضين الإيرانيين عن طبيعة المأساة الاقتصادية التى تُدار خلف الكواليس، فقد صرح الخبير الإيرانى المقيم فى أوروبا "سعيد ليلاز" فى مقابلة صحفية أن الحرس الثورى أصبح أكثر قوة من الحكومة نفسها، فهو يحدد الأولويات الاقتصادية ويمتلك مفاتيح التصدير والاستيراد.
أما الصحفى الإيرانى "روح الله زم" الذى أعدمه النظام فى ٢٠٢٠، فكان يدير قناة "آمد نيوز" التى نشرت مئات الوثائق التى تُظهر تورط الحرس فى تهريب النفط والأسلحة، والتلاعب بأسعار السوق لصالح شبكاته.
وفى استطلاع أجرته وكالة "إيران واير" فى عام ٢٠٢٣، أكد ٧٢٪ من الإيرانيين المشاركين أنهم لا يثقون فى عدالة توزيع الثروات داخل البلاد، وعبّروا عن اعتقادهم بأن "الحرس الثورى ينهب ثروات الشعب الإيراني".
لقد أثبتت التجربة الإيرانية أن سيطرة الخرس الثورى على الاقتصاد بدون رقابة أو مساءلة تؤدى إلى تدمير قدرات الشعوب، وتوسيع الفجوة بين الدولة والمجتمع، فبدلًا من أن يكون الحرس الثورى قوة دفاع عن إيران دون أن يتمدد للخارج، تحول إلى قوة استنزاف لثرواتها. وبدلًا من أن يكون ركيزة لحماية الاستقرار، أصبح عقبة أمام أى إصلاح اقتصادى أو سياسي.
ولن يُكتب للاقتصاد الإيرانى التعافي، ما لم تُكسر قبضة هذه المؤسسات غير الخاضعة للمساءلة، ويتم إفساح المجال أمام الشفافية والمنافسة والنزاهة. عندها فقط، يمكن أن يبدأ الشعب الإيرانى فى استعادة حقوقه، وتحقيق التنمية التى حُرم منها لعقود.

شارك