تفكيك بنية السرد الجهادي: قراءة في استراتيجية داعش لتوليد المشروعية

الإثنين 01/ديسمبر/2025 - 01:29 م
طباعة  تفكيك بنية السرد حسام الحداد
 
تُعد افتتاحيات صحيفة النبأ في عددها الاخير ٥٢٣، والصادر مساء الخميس ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٥، إحدى أهم نوافذ تنظيم داعش الدعائية، حيث يعتمد عليها التنظيم بوصفها فضاءً يعيد فيه تشكيل رؤيته للعالم، وصناعة "طريقة قراءة" للأحداث، وتحديد عدو وصديق، وتثبيت شرعية ذاتية مقابل نزع الشرعية عن الآخرين. إن الافتتاحية المنشورة تحت عنوان «حرب بين مشروعين» تمثل نموذجًا صافيًا لكيفية بناء داعش لخطابه، وكيف يستثمر الأدوات البلاغية والدينية والسياسية لإنتاج سردية صلبة تُبرر العنف، وتُعطي مشروعية زائفة لوجوده.
يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل نقدي بنيوي للخطاب من خلال تفكيك مكوناته، والمتخيل الذي ينتجه، والاستراتيجيات التي يعتمد عليها في صناعة "وهم الشرعية"، وكيف يرسّخ ثنائية صراعية مغلقة تُقصي كل بديل.

إنتاج ثنائية الوجود والعدم
تقوم افتتاحية صحيفة النبأ على بنية خطابية مركزية تُقسّم العالم إلى قطبين لا ثالث لهما: مشروع داعش الذي يُقدَّم بصفته الحق المطلق، وبقية المشاريع والفاعلين بوصفهم الباطل المطلق. هذه الثنائية ليست مجرد صياغة لغوية، بل هي بمثابة "هيكل تأسيسي" يُبنى عليه خطاب التنظيم بكامل مكوّناته. فاختزال العالم إلى قطبين متنافرين يسمح للتنظيم برسم فضاء فكري بسيط يسهل تداوله بين أتباعه، ويخلق شعورًا زائفًا باليقين يمنع أي مساحة للتفكير النقدي أو إعادة التقييم.
من خلال هذه الثنائية، يُلغِي الخطاب الداعشي التعقيد السياسي والاجتماعي الذي يحيط بالصراعات المعاصرة، ويستبدله بسردية أحادية التفسير تضع التنظيم في مركز القدر التاريخي. فالنص يقدّم مشروع داعش كأنه قدرٌ إلهي، لا نتاجًا لتفاعلات اجتماعية أو سياسية، بل "حقيقة كونية" لا يمكن مناقشتها. هذا التقديس لمشروع التنظيم يحوّل أتباعه إلى أدوات في خدمة رواية جاهزة، ويمنح القيادة القدرة على تمرير أي قرار باعتباره امتثالًا لإرادة عليا لا يحق لأحد الاعتراض عليها.
" يستكمل معادلة الشرعية. فالمشروع لا يكتمل إلا بوجود نقيض يُعرَّف دائمًا بوصفه تهديدًا وجوديًا يستهدف التنظيم ودعوته. ولذلك نجد أن الافتتاحية لا تتوقف عن إنتاج العدو وإعادة تعريفه، سواء كان دولة أو جماعة أو مجتمعًا محليًا، لأن الخطاب الداعشي قائم على اقتصاد عدائي لا يحيا إلا بالصراع. في منطق داعش، العدو ليس طرفًا سياسيًا، بل "كيانًا شيطانيًا" يُبرّر استمرار الحرب ويمنح التنظيم مبررًا دائمًا للعنف.
 بهذا التأسيس الثنائي، يصبح العالم — كما تصوّره الافتتاحية — فضاءً صراعيًا مطلقًا لا مكان فيه للحياد، ولا وجود لدرجات أو فروق أو تعددية. إنه عالم مغلق تُلغى فيه المشاريع السياسية والاجتماعية والدينية الأخرى لأنها لا تحمل "ختم التنظيم"، وبالتالي تُعامل كتهديد يجب استئصاله. هذه الرؤية الإقصائية لا تكتفي بنفي الآخر، بل تنفي إمكانية وجود أي مشروع إنساني أو اجتماعي خارج دائرة الولاء للتنظيم، ما يجعل خطاب داعش نظامًا فكريًا توتاليتاريًا يُشيِّد شرعيته على العنف وعلى نفي كل بديل محتمل.

صناعة عالم مغلق
تكشف الافتتاحية عن استراتيجية لغوية تُمارس فيها داعش احتكارًا كاملًا لتفسير النص الديني، بحيث تُنتزع الآيات والأحاديث من سياقاتها التاريخية والفقهية المتراكمة، وتُعاد هندستها لتخدم المشروع القتالي للتنظيم. في هذا السياق، لا يُعامَل الوحي باعتباره منظومة أخلاقية أو إطارًا تشريعيًا متوازنًا، بل كـ"شيفرة عسكرية" جاهزة للاستخدام في ساحة المعركة. هذا الاحتكار يخلق جدارًا معرفيًا يحاصر أتباع التنظيم داخل تفسير واحد، ويُقصي أي إمكانية للاجتهاد أو إعادة التفكير، بحيث يصبح النص المقدّس أداة لضبط العقول لا تحريرها.
يعتمد الخطاب على مصادرة الواقع عبر تحويل كل حدث—مهما كان فشله أو جرمه—إلى انتصار معنوي أو ضرورة شرعية. فالهزيمة تُفهم باعتبارها "ابتلاءً" يؤكد صدق الطريق، والجرائم تُسوَّغ بصفتها "حاجة" لحماية الدعوة، والانسحاب يُعاد تعريفه بوصفه "تكتيكًا" ضمن خطة كبرى. وبهذه الآلية تُنتج الافتتاحية عالمًا مغلقًا لا يمكن اختراقه، لأن كل قراءة نقدية للواقع تُجهَض مسبقًا عبر قوالب جاهزة لتفسير الأحداث. إنها ما يسميه علماء الخطاب "المنظومة التأويلية الذاتية" التي تحصّن نفسها ضد أي مساءلة داخلية أو خارجية.
أحد أخطر مسارات الخطاب هو تحويل العنف من فعل مدان إلى فضيلة تُرفع إلى مرتبة العبادة. فالقتل يُعاد تعريفه باعتباره "تنفيذًا للشرع"، والمعارك العبثية توصف بأنها "جهاد"، والدماء تصبح مؤشرًا على الصدق والثبات. هذه العملية—المعروفة في تحليل الخطاب باسم إعادة التأطير (Frame Reconstruction)—تقطع الصلة بين الفعل وحقيقته الأخلاقية، وتُعيد إنتاجه داخل إطار لغوي يمنحه معنى نقيضًا. بهذا لا يعود العنف واقعة يمكن تقييمها، بل يتحول إلى "رمز" يُعرِّف هوية المقاتل، وتُقاس به درجة انغماسه في المشروع.
من خلال هذه الاستراتيجيات مجتمعة، يبني الخطاب الداعشي "أسوارًا رمزية" تحيط بأتباعه، تجعلهم يعيشون داخل عالم لغوي خاص يتناقض جذريًا مع العالم الواقعي. يصبح النص الديني محتكرًا، والواقع مؤوَّلًا بشكل قسري، والعنف فضيلةً، ما يؤدي إلى خلق بنية فكرية مغلقة لا تُنتج إلا الولاء والطاعة. إن هذه الأسوار لا تُبنى بالقوة المسلحة فقط، بل تُصاغ لغويًا عبر تراكم من المصطلحات والصور والتأويلات التي تمنع الفرد من رؤية العالم خارج الرواية الرسمية. وهكذا يتحول التنظيم من مجرد فاعل مسلح إلى نظام لغوي شامل يعيد تشكيل الإدراك، ويضبط الوعي، ويقف سدًا منيعًا أمام أي محاولة للعودة إلى التفكير الحر.

 صناعة شيطان ممتد
لا تقدّم افتتاحية النبأ العدو بوصفه طرفًا سياسيًا أو عسكريًا له مصالح أو حسابات، بل تحوّله إلى كيان وجودي–مقدّس يقف على الضدّ من “مشروع التنظيم”. هذه الاستراتيجية تُلغي الفروق بين الدول والجيوش والمجتمعات، وتختزلها كلها في “مشروع مضاد” يتطلب نفيًا شاملًا. بهذا المعنى، لا يصبح الصراع صراعًا على موارد أو نفوذ أو توازن قوى، بل معركة بين حقيقتين كليّتين، إحداهما نور والأخرى ظلام. هذا النوع من التجريد يسمح للتنظيم بإعادة تشكيل المشهد السياسي كله داخل إطار ديني مغلق يفرض على أتباعه رؤية واحدة للصراع.
تعتمد الافتتاحية على ما تسميه الدراسات البنيوية بـ التشييء الرمزي للآخر (Othering)، حيث لا يُعامل الخصم كفرد أو مجتمع يمتلك مشاعر ودوافع بشرية، بل كشيء أو “كتلة باطلة” لا تستحق التعاطف. نزع الإنسانية هنا ليس مجرد تمهيد للعنف، بل خطوة بنيوية تسبق كل خطاب تعبوي؛ فحين يُفقد الآخر إنسانيته، تتلاشى تلقائيًا التكاليف النفسية والأخلاقية المترتبة على إيذائه أو قتله. وبهذا يتحول العدو من كائن بشري إلى “رمز شرير”، ومن ثم يصبح قتاله واجبًا لا تردّد فيه.
من خلال إعادة تشكيل صورة العدو بهذه الطريقة، يصبح العنف ليس خيارًا أو ردّ فعل، بل قدَرًا مفروضًا على المنتمين للمشروع. فالصراع، كما تصوّره الافتتاحية، ليس من نوع يمكن التفاوض حوله أو إعادة تقييمه، لأنه صراع بين مشروعين متناقضين لا يمكن أن يجتمعا في فضاء واحد. هذه القدَرية تُضفي على العنف بُعدًا دينيًا: فالمواجهة واجب شرعي، والقتل ضرورة لحماية المشروع، والتدمير ردٌّ على “عدوان وجودي”. وهكذا تُبنى شرعية السلوك الداعشي فوق قاعدة خطابية تحوّل الحرب إلى طقس تعبدي، لا إلى عملية سياسية.
يساعد هذا البناء الخطابي التنظيم على تجاوز جميع التساؤلات الأخلاقية التي يمكن أن تلاحق أفعاله: لماذا يقتل المدنيين؟ لماذا يهاجم المسلمين؟ لماذا يدمّر المجتمعات التي يعيش داخلها؟ كل هذه الأسئلة تُسحب من التداول عبر إجابة واحدة جاهزة ومُعلّبة: «لأنهم أصحاب مشروع باطل». هذه الإجابة تعمل كجدار لغوي يحمي الخطاب من التفكك، لأنها تغلق الباب أمام التفكير النقدي، وتحصر القتال في إطار واجب لا يمكن مساءلته. وبهذا تُعاد هندسة الوعي بحيث يبدو كل فعل دموي جزءًا طبيعيًا من معركة حتمية لا بديل عنها.

 قلب الهزائم إلى انتصارات 
تعتمد الافتتاحية على استراتيجية بنيوية ثابتة في خطاب داعش تتمثل في قلب الهزيمة إلى انتصار سردي. فبدلًا من الاعتراف بالواقع العسكري والسياسي المتردّي، يصرّ الخطاب على إعادة صياغته داخل إطار لغوي يمنح التنظيم شعورًا بالقوة والاستمرارية. هنا يصبح الواقع المادي مجرد “طبقة سطحية” لا قيمة لها، بينما تتحول اللغة إلى أداة لخلق واقع بديل يُقدَّم للأتباع بوصفه الحقيقة. هذه الآلية ليست تكتيكًا طارئًا، بل جزءًا من بنية التنظيم الفكرية التي ترفض الاعتراف بالتحولات الجذرية التي تصيب مشروعه.
يُعاد تأويل كل خسارة يتعرض لها التنظيم—سواء فقدان الأرض أو تفكك القيادات أو انهيار الجبهات—باعتبارها تمحيصًا أو ابتلاءً أو امتحانًا للمجاهدين. هذه المفردات تُشكّل ما يمكن تسميته بـ القاموس الدفاعي للتنظيم، والذي يستخدمه لحجب آثار الهزائم وتخفيف وقعها على أتباعه. فبدل أن تصبح الهزيمة دافعًا للمراجعة أو إعادة التفكير، تتحول إلى “علامة رضا”، أو “مرحلة انتقالية”، أو “سُنّة كونية” تثبت صواب الطريق. وهنا تكتسب اللغة وظيفة علاجية تمنع الانهيار النفسي للفرد المنتمي للمشروع.
يهدف هذا التأويل القسري للهزائم إلى منع ما يُعرف في تحليل الخطاب بـ الصدمة المعرفية التي قد تُفكّك الإيمان بشرعية القيادة أو جدوى القتال. فعندما تنهار المدن أو تتفكك الجبهات، يكون التهديد الأكبر ليس عسكريًا، بل نفسيًا—تهديد فقدان الثقة. ومن خلال خطاب يعيد تفسير كل انتكاسة كضرورة إلهية أو خطوة في “الخطة الكبرى”، يضمن التنظيم استمرار الهيمنة على الوعي. وهكذا تُنتج القيادة شرعيتها من خلال سيطرتها على الذاكرة الجماعية للمنتمين، لا من خلال نتائج ملموسة على الأرض.
النتيجة النهائية لهذا المسار هي أن التنظيم يتحول إلى مشروع قائم على اللغة لا المنجز. فالخطاب لا يسمح للوقائع بأن تتحداه أو تكشف حدود قدرته، بل يُعيد دومًا إنتاجها ضمن رواية تحمي صورته الرمزية. وبذلك يفصل التنظيم نفسه عن الواقع، ويعيش داخل عالم لغوي مكتفٍ بذاته، تُصاغ فيه الانتصارات والهزائم بالطريقة نفسها، وتُحجب الحقائق خلف طبقة كثيفة من “السرديات التعويضية”. إنها بنية تقوم على إنقاذ المشروع عبر إنقاذ قصته، حتى لو كان المشروع نفسه يتآكل في العالم الفعلي.

عسكرة الفضاء الاجتماعي
تتّسم افتتاحية النبأ بدرجة عالية من العداء تجاه المجتمعات المحلية، حيث تُقدَّم هذه المجتمعات بوصفها كيانات ضعيفة، متخاذلة، غارقة في “الجاهلية” و“الطواغيت”. هذا التصوير لا يهدف إلى التشخيص، بل إلى نزع الشرعية الاجتماعية عن السكان، وتحويلهم إلى مادة قابلة للهيمنة. فبدل أن يُنظر إليهم كفاعلين اجتماعيين لهم مصالح، يُعاد إنتاجهم داخل الخطاب كجماعات “قاصرة” تحتاج إلى تأديب وإخضاع، وهو ما يمهّد لبناء علاقة فوقية بين التنظيم والمجتمع.
من خلال هذا التصوير العدائي، يبرّر التنظيم عملية السطو الكامل على المجتمع باعتبارها واجبًا شرعيًا لإنقاذ الناس من “الانحراف”. فالاستيلاء على الممتلكات، والتحكم في مصادر الرزق، ومراقبة التنقلات—all of this—يُقدَّم باعتباره جزءًا من مهمة إصلاحية. لكن في الحقيقة، هذه العملية ليست سوى إعادة تشكيل قسرية لمجتمع يريد التنظيم إخضاعه، تحت غطاء خطاب ديني يجرّم كل من يرفض أو يعترض. وهكذا يتحول المجتمع إلى مساحة خاضعة لهيمنة عسكرية–دينية بلا أي آليات للمساءلة.
حين يُختزل المجتمع إلى “كتلة جاهلية”، يصبح من السهل على التنظيم مصادرة المجال العام بالكامل: منع المشاركة، إلغاء التنوع، تكميم الأصوات، وفرض رؤية واحدة للحياة والسياسة والدين. وما يزيد خطورة هذا النهج أن التنظيم يفرض نموذج حكم لا يمتلك أي سند اجتماعي حقيقي؛ فهو لا نابع من التقاليد المحلية، ولا من إرادة شعبية، ولا من عقد اجتماعي. إنه نموذج فوقي يُفرض بالقوة، ويتغذّى على الفراغ الذي يصنعه بنفسه بعد تحطيم كل أشكال التنظيم الأهلي والقبلي والمدني.
هذه المقاربة التي تختزل السكان إلى “كتلة يجب تأديبها” ليست سوى تجلٍّ لروح الأيديولوجيا التوتاليتارية التي عرفها التاريخ في صور متعددة. الفرق أن داعش يغلفها بلغة دينية تمنحها قداسة زائفة، وتجعل الاعتراض عليها بمثابة اعتراض على “شرع الله”. فكما تصنع الأنظمة الشمولية “مواطنًا مثاليًا” عبر القمع والتطويع، يصنع التنظيم “مجتمعًا مثاليًا” عبر فرض الطاعة وإلغاء الإرادة الحرة. وهكذا يصبح الدين مجرد غطاء يُشرعن السيطرة، بدل أن يكون إطارًا أخلاقيًا يحفظ كرامة الإنسان.

ما الذي يخفيه الخطاب؟
يُظهر التحليل البنيوي للنص أن ما يقال فيه لا يقل أهمية عمّا يتعمّد إخفاءه. فالمساحات الصامتة، أو ما يُسقطه الخطاب عمدًا، تكشف أحيانًا أكثر مما تفصح عنه العبارات المباشرة. في هذه الافتتاحية، لا يكتفي التنظيم بطرح روايته، بل يعمل على حجب حقائق مركزية تشكل جوهر أزمته الحالية. فالصمت هنا ليس عفويًا، بل جزء من هندسة أيديولوجية مقصودة تهدف إلى إبقاء الصورة متماسكة أمام أتباع يعيشون واقعًا منهارًا.
أول تلك الحقائق هو سقوط مشروع “الدولة” في الواقع. لا وجود لجغرافيا ثابتة، ولا مؤسسات قادرة على إدارة حياة الناس، ولا أجهزة تخطيط أو اقتصادات محلية. ومع ذلك، يتحدث النص وكأن كل هذه العناصر ما زالت قائمة، بل وكأن التنظيم يمارس دور “الدولة” بكامل أدواتها. هذا الإصرار على استحضار نموذج الدولة — رغم غيابه الفعلي — هو محاولة للهروب من الاعتراف بأن الحلم الذي بُني عليه التنظيم قد انهار بالكامل.
أما الحقيقة الثانية التي يخفيها الخطاب فهي تآكل الحاضنة الاجتماعية وانحسار أي قبول شعبي. فالافتتاحية لا تذكر شيئًا عن رفض السكان لسلطته، ولا عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحقهم، ولا عن عمليات التهجير القسري والإعدامات والسلوك القمعي الذي جعل المجتمعات تنفضّ عنه. إن هذا الصمت عن ردود فعل المجتمع يعكس إدراك التنظيم أن الاعتراف بفقدان القبول يعني نسف آخر عناصر شرعيته المتخيلة.
وثالث الحقائق المحجوبة هو غياب أي رؤية سياسية أو اجتماعية فعلية. فالخطاب يوحي بوجود “مشروع” كبير، لكن تفكيك هذا المشروع يكشف أنه مجرد مجموعة من الشعارات القتالية التي لا تقدم أي تصور للحكم أو إدارة المجتمع أو بناء المؤسسات. إن الحديث المتكرر عن “التمكين” يخفي خواءً فكريًا عميقًا، حيث لا وجود لبرامج أو خطط أو بنية حكم حقيقية يمكن الركون إليها.
وعند فحص “المشروع” الذي يقدمه النص، يتضح أنه قائم فعليًا على العنف والتكفير والصراع المفتوح. لا توجد رؤية لاقتصاد أو تعليم أو مجتمع، بل فقط آلة حرب تعمل باستمرار، وتحتاج دائمًا إلى عدو جديد وساحة جديدة كي تبقى قادرة على تبرير ذاتها. هذا النموذج القائم على الصراع الدائم يتحول إلى غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق أي هدف سياسي.
ثم إن الوعد المؤجل بـ"التمكين" يُستخدم بوصفه أداة لتسكين أتباع التنظيم وتبرير الفشل المستمر. فكل هزيمة هي “ابتلاء”، وكل خسارة هي “تمحيص”، وكل انكسار هو مرحلة نحو “النصر الكبير” الذي لا يأتي أبدًا. بهذه الطريقة يُبقي الخطاب الأتباع داخل دائرة انتظار لا تنتهي، قائمة على وعود معلّقة بلا أفق.
وبمجمل ذلك، يتحول “المشروع” الذي يتحدث عنه النص إلى آلة حرب مغلفة بخطاب ديني، وليس مشروعًا سياسيًا أو اجتماعيًا أو حتى جهاديًا بالمعنى التاريخي. هو بنية صراع مغلقة، تُنتج العنف بوصفه هوية ووجودًا، وتستخدم اللغة الدينية كغطاء يمنحها شرعية مصطنعة.
هكذا، لا يكشف النص ما يريده التنظيم فقط، بل يفضح — بصمته — عمق أزمته: انهيار الدولة، غياب المجتمع، وانعدام المستقبل. وبذلك يصبح الخطاب نفسه دليلًا على التآكل الداخلي الذي يحاول إخفاءه.

 خطاب قائم على العنف… لا على المعنى
تكشف افتتاحية النبأ عن نموذج مكتمل لخطاب يقوم على بناء عالم مغلق، عالم لا مكان فيه للتعقيد أو التعدد أو النقاش. فالثنائية الصارمة بين “حق” و“باطل” تُستخدم هنا ليس كأداة أخلاقية، بل كجدار يحجب الواقع ويُلغي إمكانية التفكير. هذا الإغلاق المتعمد للعالم يخلق بيئة معرفية مغلقة تجعل كل ما هو خارج التنظيم عدوًا، وكل ما هو داخله حقيقة مطلقة لا يجوز مساءلتها. وفي هذه البيئة ينصهر الدين داخل منطق الصراع، ويتحوّل إلى مورد لتغليف العنف ومنحه قداسة شكلية.
وبالاقتراب من هذا الخطاب، نلاحظ كيف يُعاد تشكيل الدين نفسه في صورة عسكرية، إذ يصبح الجهاد مرادفًا للحرب الدائمة، ويغدو “الآخر” — أيًا كان — مشروعًا للشيطنة والإقصاء. يتم تحويل الاختلاف إلى تهديد، والواقع إلى مادة قابلة للإنكار. فالتنظيم لا يكتفي بإعادة قراءة العالم، بل يعمل على قلبه بالكامل، ليجعل الهزيمة انتصارًا، والانكماش قوة، وتفكك “الدولة” دليلًا على صدق “المسار”. هنا تصبح اللغة أهم من الوقائع، والسرد أهم من الحقيقة، والرمز أهم من الإنسان.
وعند تحليل هذا الخطاب بنيويًا، يتضح أن التنظيم لا يمتلك مشروعًا حقيقيًا بالمعنى السياسي أو الاجتماعي أو حتى الديني. ما يمتلكه هو بنية خطابية محكمة تُنتج — بشكل شبه ميكانيكي — التبرير والتجييش وتخدير الأتباع. فكل تناقض يذوب داخل السردية، وكل فشل يجد له تأويلًا دينيًا، وكل انكسار يتحوّل إلى علامة من علامات “التمكين المؤجل”. إن مهمة الخطاب ليست قيادة مجتمع أو إدارة حياة، بل إدارة الوعي نفسه، وضبطه بما يضمن استمرار حالة الطاعة والانضباط.
وفي جوهره، لا ينتمي هذا الخطاب إلى الدين ولا إلى السياسة، بل إلى منطق الهيمنة والعنف الذي يبحث عن شرعية بأي ثمن. يستخدم الدين هنا كغلاف، كقناع يشرعن اللا–مشروع، ويمنح آلة الحرب مظهرًا عقائديًا. ولذلك فإن كشف هذه البنية وتفكيك آلياتها — من الإغلاق الثنائي إلى قلب الواقع إلى إنتاج السرديات البديلة — يمثل خطوة مركزية لفهم كيفية اشتغال التنظيم: كيف يصنع وعيًا مغلقًا، وكيف يعيد تشكيل العالم وفق احتياجاته، وكيف يجعل العنف قدرًا محتومًا لا إمكانية للخروج منه.

شارك