رصاص الإرهاب في ذكرى دامية.. باكستان تواجه شبح الماضي في هجوم باجور
في مشهد يعكس استمرار التحديات الأمنية التي تواجهها باكستان، قُتل شخصان على الأقل، أحدهما من أفراد الشرطة، إثر هجوم مسلح استهدف فريقًا لتطعيم الأطفال ضد شلل الأطفال في منطقة باجور بإقليم خيبر بختونخوا، في حادثة أعادت إلى الواجهة خطورة التهديدات الإرهابية التي ما زالت تطال المدنيين والعاملين في القطاعات الحيوية، بالتزامن مع إحياء البلاد الذكرى الحادية عشرة لهجوم مدرسة الجيش العامة في بيشاور، أحد أكثر الهجمات دموية في تاريخها الحديث. الحادث الجديد، الذي وقع يوم الثلاثاء في منطقة تانجي التابعة لبلدة سالارزاي، جاء ليؤكد أن الإرهاب ما زال يسعى إلى ضرب ركائز الاستقرار والأمن، واستهداف المبادرات الإنسانية والصحية التي تمثل شريان حياة لملايين الأطفال في البلاد.
الإرهاب في مواجهة الصحة العامة
ويأتي هذا الهجوم في سياق بالغ الحساسية، إذ تُعد باكستان واحدة من
دولتين فقط في العالم، إلى جانب أفغانستان، لا يزال شلل الأطفال متوطناً فيهما، ما
يجعل حملات التطعيم مسألة أمن قومي وصحي في آن واحد. وعلى مدار العقد الماضي، دفع
المئات من أفراد الأمن والعاملين في المجال الصحي حياتهم ثمناً لاستهدافهم من قبل
جماعات متطرفة تعارض هذه الحملات، سواء بدوافع أيديولوجية أو ضمن استراتيجية أوسع
لزعزعة الاستقرار وبث الخوف في المجتمع. وقد تزامن الهجوم الأخير مع انطلاق الحملة
الوطنية لمكافحة شلل الأطفال لعام 2025، التي تهدف إلى تحصين أكثر من 45 مليون طفل
في مختلف أنحاء البلاد ضد هذا المرض المنهك، في واحدة من أكبر الحملات الصحية على
مستوى العالم.
وفي هذا السياق، أعلن وزير الصحة الاتحادي سيد مصطفى كمال أن باكستان
سجلت حتى الآن 30 حالة إصابة بشلل الأطفال خلال العام الجاري، مشيراً إلى أن إقليم
خيبر بختونخوا سجل العدد الأكبر من الحالات بواقع 19 حالة، وهو ما يسلط الضوء على
التحديات الصحية والأمنية المتداخلة في هذا الإقليم الحدودي الذي يشهد منذ سنوات
نشاطاً مكثفاً للجماعات المسلحة. هذه الأرقام، وإن كانت أقل مقارنة ببعض الأعوام
السابقة، إلا أنها تؤكد أن القضاء النهائي على المرض لا يزال بعيد المنال في ظل
استمرار استهداف الفرق الطبية والأمنية.
وعلى المستوى السياسي، قوبل الهجوم بإدانات واسعة من أعلى المستويات
في الدولة. فقد أدان رئيس الوزراء شهباز شريف بشدة الاعتداء الإرهابي، معرباً عن
حزنه العميق لاستشهاد الشرطي وإصابة أحد المدنيين، ومقدماً التعازي لأسر الضحايا.
وشدد رئيس الوزراء على أن الاعتداءات على العاملين في حملات استئصال شلل الأطفال
تمثل جريمة مدانة بأشد العبارات، موجهاً السلطات المختصة بضمان سرعة تحديد هوية
الجناة وتقديمهم للعدالة دون إبطاء. كما أكد أن حملة مكافحة شلل الأطفال ستستمر
بلا هوادة حتى يتم القضاء على المرض نهائياً من البلاد، في رسالة واضحة بأن
الإرهاب لن ينجح في تعطيل الجهود الوطنية.
بدوره، أدان وزير الداخلية محسن نقوي الهجوم، واصفاً إياه بالعمل
الشنيع الذي ارتكبته عناصر وصفها بالبربرية، مشيداً بتضحيات الشرطي الشهيد سجاد
أحمد الذي نال شرف الشهادة أثناء تأدية واجبه في حماية الفريق الطبي. وأكد نقوي أن
هذه التضحيات لن تذهب سدى، وأن الدولة عازمة على ملاحقة كل من يقف وراء مثل هذه
الجرائم، في وقت تتكثف فيه الإجراءات الأمنية لتأمين الفرق الصحية والعاملين في
الخطوط الأمامية.
كما أدان رئيس وزراء إقليم خيبر بختونخوا، سهيل أفريدي، الهجوم، معتبراً
إياه اعتداءً على الإنسانية والواجب الوطني، ومؤكداً أن تضحيات العاملين في مجال
مكافحة شلل الأطفال ورجال الأمن ستبقى خالدة في ذاكرة الأمة. وشدد على أن الحادثة،
رغم مأساويتها، لن تؤثر على استمرار الحملة، لأنها ضرورية لحماية الأطفال الأبرياء
وضمان مستقبل صحي للأجيال القادمة.
جرح جديد
مع ذكرى أليمة
وتكتسب هذه التطورات بعداً رمزياً إضافياً، إذ تتزامن مع إحياء
الذكرى الحادية عشرة لهجوم مدرسة الجيش العامة في بيشاور، الذي وقع في 16 ديسمبر
2014، وأسفر عن مقتل 147 طالباً ومعلمًا وموظفًا، بينهم 122 طفلاً، في واحدة من
أبشع الجرائم الإرهابية في تاريخ باكستان والعالم. ذلك الهجوم، الذي نفذه ستة
إرهابيين ارتدوا الزي العسكري واقتحموا حرم المدرسة، لا يزال يمثل جرحاً غائراً في
الذاكرة الوطنية، ورمزاً للتكلفة الإنسانية الباهظة التي دفعتها البلاد في حربها
ضد الإرهاب.
وفي بيان صدر بهذه المناسبة، أكد الرئيس آصف علي زرداري أن التزام
باكستان بهزيمة الإرهاب مطلق وغير قابل للمساومة، مشدداً على أنه لا مجال للتساهل
مع الإرهابيين أو من يدعمونهم أو يمولونهم أو يبررون أفعالهم. وقال إن ذكرى شهداء
مدرسة الجيش العامة عززت عزيمة الأمة، مضيفاً أن باكستان لن تسمح لأعداء السلام
بالنجاح، وأنه لا يمكن إجراء أي مفاوضات مع من يرفعون السلاح ضد الدولة أو
يستهدفون الأطفال الأبرياء.
وأشار الرئيس إلى أن تضحيات ضحايا هجوم بيشاور ستظل تذكيراً دائماً
بالثمن الباهظ الذي دفعته الأمة في مواجهة الإرهاب، مؤكداً الوقوف إلى جانب
العائلات التي ما زالت تتحمل آلام الفقد بشجاعة. كما أشاد بدور قوات الأمن ووكالات
إنفاذ القانون وأجهزة الاستخبارات التي نجحت في إحباط العديد من المخططات
الإرهابية خلال السنوات الماضية، محذراً في الوقت نفسه من أي محاولات للتستر على
الإرهاب تحت أقنعة سياسية أو أيديولوجية أو دينية زائفة.
وفي سياق متصل، جدد رئيس الوزراء شهباز شريف تأكيده على وحدة الأمة
وثباتها في مواجهة الإرهاب، مؤكداً أن تضحيات شهداء مدرسة بيشاور ستظل محفورة في
الضمير الوطني، ومشدداً على أن القضاء على الإرهاب مسؤولية جماعية لا تحتمل
التراخي. كما أكد وزير الداخلية أن الدولة حسمت أمرها في مواجهة الجماعات
المتطرفة، وأن الإرهاب مرفوض وغير مقبول تحت أي اسم أو راية.
وتعكس هذه التصريحات إجماعاً وطنياً على ضرورة مواصلة المواجهة
الشاملة مع الإرهاب، في وقت تشهد فيه البلاد تصاعداً ملحوظاً في الهجمات المسلحة،
لا سيما في الأقاليم الحدودية والمناطق ذات الحساسية الأمنية. وتشير تقارير أمنية
إلى أن الجماعات المتطرفة تحاول استغلال التحديات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة
إلى التوترات الإقليمية، لإعادة تنظيم صفوفها وتنفيذ عمليات تستهدف المدنيين وقوات
الأمن على حد سواء.
وفي مواجهة هذا التصعيد، كثفت السلطات الباكستانية إجراءاتها الأمنية
من خلال تعزيز الانتشار الشرطي والعسكري، وتوفير حراسة مشددة لحملات التطعيم
والمؤسسات التعليمية، إلى جانب توسيع نطاق العمليات الاستخباراتية الاستباقية. كما
تعمل الحكومة على تطوير استراتيجياتها في مكافحة الإرهاب، بما يشمل مواجهة الفكر
المتطرف وتجفيف مصادر تمويله وتعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين.
ورغم هذه الجهود، يبقى التحدي قائماً، كما يبرهن عليه الهجوم الأخير
في باجور، الذي أعاد التذكير بأن المعركة ضد الإرهاب في باكستان لم تنته بعد، وأن
استهداف العاملين في المجال الصحي يمثل محاولة لضرب الثقة في الدولة وإعاقة مسار
التنمية. غير أن الرسالة التي تحرص الحكومة على تأكيدها، في هذه اللحظة الرمزية
المتزامنة مع ذكرى هجوم مدرسة الجيش العامة، هي أن دماء الضحايا لن تذهب هدراً،
وأن البلاد ماضية في معركتها حتى تحقيق الأمن والاستقرار، والقضاء على الإرهاب بكل
أشكاله، وحماية مستقبل أطفالها من المرض والعنف معاً.
