التجربة الجزائرية : مواجهة أجندات التطرف والإرهاب.. متى يتجدد الخطاب الديني؟
الثلاثاء 03/أبريل/2018 - 07:53 م
طباعة
داليا غانم
على الرغم من الجهود التي تبذلها الدول في كافة أنحاء العالم بشكل عام، والدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص، للحفاظ على سيطرتها التامة على الدين داخل مجتمعاتها، إلا أنّ الأصوات الرسمية ليست الوحيدة. إذ يواجه الإسلام التابع للدولة منافسة شديدة من الأفراد والمؤسسات غير الرسمية ذات التوجّهات المتنوّعة والتي تزداد شعبية في بلاد بعينها، أو انخفضت وتيرتها في بلاد أخرى، ولكنها لم تنقضي، مما يجعل مسألة السيطرة الشاملة للحكومات على المساجد والرابطات الدينية في بعض الأحيان أقرب إلى المستحيل في ظلال السياسات المتبعة حاليًا، وبينما تستطيع الدول عبر أجهزتها المعنية بالأمر تقديم تفسيرات وتوجيهات فقهية لكبح الأصوات الأخرى وفرض وجهة نظرها الخاصة، من المستحيل التأكد من أنّ الجمهور سيستمع إلى الهيئات الرسمية وموظفيها.
إنّ الجهود التي تبذلها الدول لاستخدام الصوفية كنموذج لإسلام سليم ولمعالجة التطرف والعنف غير مجدية، - وعلى سبيل المثال هنا الجزائر – فيرى البعض أن دفع تعزيز الحكومة للتصوّف الناس إلى الإدراك أنّ هذه المؤسسات الدينية مجرد أبواق للنظام، وهو ما أتاح ثمّة حالة من انعدام ثقة عام كبير بهذا الزواج المفاجئ بينه وبين الدولة، إذ يعتقد البعض أن الأخيرة تدعم التصوّف فقط في محاولة استغلالية لإضفاء الشرعية على حكمها، إضافةً إلى ذلك، فإنّ كل محاولات الدولة هذه للحفاظ على سيطرتها لا تُحيّد أو تُغيّب التفاعلات الداخلية السلبية القوية.
في هذا السياق، يشعر الشباب العربي بخيبة الأمل وفقدان الثقة في مؤسساته الدينية وفي قدرة الدولة على الإنجاز، فعلى الرغم من قدرة خطاب الكراهية الديني على أن يلعب دوراً في التطرف والعنف، إلا أن دوافع التطرّف العنيف ليست دينية وحسب، ولذلك السيطرة على المساجد والتحكم بالخطاب الفقهي، وتشجيع تقاليد دينية أكثر تسامحاً، وتدريب رجال دين مؤهلين، ليست سوى أدوات للحدّ من الأصوات الراديكالية ومكافحة التطرف. وحتى إذا بقي التطرف لغزاً بلا إجابة، فمن الممكن أن نقول إنّه ما دام الناس في جميع أنحاء العالم يعانون من الاغتراب الاجتماعي، والتهميش السياسي، وعدم المساواة الاقتصادية، ونقص الفرص، والقمع، والعنف العشوائي، فإن بعضهم سيذعن إلى إغراء التطرّف والعنف والإرهاب.
النتائج السابقة، توصلت إليها الباحثة بمركز كارنيجي للشرق الأوسط، داليا غانم، عبر دراستها الأخيرة، المنشورة على موقع المركز باللغة العربية، مؤخرًا، تحت عنوان «الإسلام التابع للدولة في الجزائر يواجه منافسة حادة»، وأخذت من الجزائر نموذجًا لدراستها، التي بدأت تفاصيلها، إلى بداية انطلاق الانتفاضات العربية في عام 2011، وانتهت بإجراءات حكومية تم توقيعها في مارس الماضي، كمبادرة وزير الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر، محمد عيسى، إلى دعوة الأئمة الجزائريين إلى "تبنّي تكنولوجيات جديدة وتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي لمحاربة التطرّف، والتعصّب المذهبي، وتعزيز أركان الإسلام الحقيقية، ومن ثم تطرقت إلى كيفية السيطرة على ممتلكات الصوفيين والحبوس والطواقم الدينية، وقبل استخلاص نتائجها الأخيرة، نظرت الباحثة في مسائل الارشاد والخطاب الديني واللوائح والقوانين الأسرية، وهو ما سنورده تباعًا لتتضح الصورة جلية كالتالي:
• الربيع العربي وتصاعد خطاب العنف في المنطقة:
كانت الانتفاضات العربية، عند انطلاقتها في العام 2011، قد شهدت تصاعد موجة الإيديولوجيات العنيفة والمتطرفة في المنطقة. وحينها، ركّزت الدولة على إحكام قبضتها على الدين، وعلى تأكيد دورها كونها الجهة الوحيدة الراعية للإسلام والتي تقوم بترويجه ونشره في الجزائر، بغية التصدّي لتلك الإيديولوجيات الأكثر تطرّفاً. تسيطر مؤسسات الدولة على إدارة الممتلكات التابعة للمؤسسات الدينية والخيرية، وتتولّى الإشراف على المساجد ورجال الدين، وتهتم بإدارة شؤون الزكاة والحج، وإصدار اجتهادات فقهية وفتاوى، وتطبيق بعض صيغ الشريعة الإسلامية، وفي هذا الاطار اتخذت الباحثة من الجزائر نموذجًا رئيسيًا للدراسة، ولكن بمقارنة السياسة الدينية للحكومات في العالم العربي، فغالبًا ستجدها قريبة من بعضها، إن لم تكن متطابقة في أغلبها.
ومن حيث السلطة الحكومية على كل ما يتعلق بالشأن الديني فهي ليست مُطلقة، ولم يعد النهج الرسمي غير قابل للجدل، فاحتكار الدولة للدين يتعرّض إلى التحدّي من جانب أصوات ومؤسسات غير رسمية ذات توجّهات متنوّعة، في إطار معركة سياسية ضارية على خلفية مَن هي الجهة المخوَّلة الحديث عن الدين في الجزائر، فمن بعد الاستقلال، اعتمد القادة المسار الديني، وأصبح الإسلام دين الدولة. وعمد النظام الحاكم، وفقاً للحقبة وطبيعة جدول الأعمال، إلى استخدام الإسلام من أجل الحصول على الدعم لسياساته وإيديولوجياته، وترسيخ حكمه؛ وتحييد معارضيه، وصدّ مَن يرفعون التحدّي في وجهه، ومنعهم من استغلال الدين؛ وحشد الجماهير؛ ومؤخراً، مكافحة التطرّف العنفي. غير أن تلك الجهود لم تكن بمنأى عن ردود الفعل المُعترضة، ولاسيما في مطلع التسعينيات. فقد اعتبرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولاحقاً مجموعات جهادية محلية، أن الدولة وأجهزتها طواغيت وغير قانونيين بموجب الشريعة. لكن منذ انتهاء الحرب الأهلية في البلاد، أعادت الدولة فرض سيطرتها القوية على الميدان الديني.
يتجلّى احتكار الدولة للدين في نواحٍ عدّة، فهذه الأخيرة هي التي تتولّى تشييد المساجد ومنح التراخيص لها وإدارتها وتنظيمها، كما تُشرف الدولة على إدارة المساجد، ونزاهتها واستقلالها، وبناء المساجد تتولاّه الدولة، أو أشخاص أو كيانات (أي مجتمعات المساجد) مخوَّلة من الوزارة جمع الأموال لتشييدها، وينبغي على الجهات الساعية إلى جمع التبرعات أن تُقدِّم طلباً للحصول على إذن مسبق من مديرية الحرية العامة والشؤون القانونية التابعة لوزارة الداخلية، الأئمة، والمفتّشون، والقيّمون على ممتلكات الحبوس، والمرشِدات الدينيات، وخبراء التعاليم القرآنية، ووكلاء المساجد هم جميعهم موظفون في الخدمة المدنية تابعون للإدارة العامة. وتُحدّد وزارة الشؤون الدينية والأوقاف مسار التدريب الذي يخضعون إليه، ومضمونه، فيما تُنظِّم وزارة العمل رواتبهم.
وحدها المساجد الحائزة على تراخيص من الدولة تستطيع تقديم خدمات إسلامية. ووحدهم الأئمة الذين يمتلكون أذوناً من الحكومة، والذين تقوم الدولة باستخدامهم وتدريبهم، يستطيعون أن امامة المصلّين في المساجد، ويشدّد التدريب الذي تقوم به الدولة على القواعد المتعلقة بالمذهب المالكي، المستند إلى القرآن وتعاليم النبي محمد، ولاسيما أساليب القياس، والمصالح المرسَلة. ويقول عيسى موضّحاً: "لا تنظر الجزائر إلى المذهب المالكي كهوية، إنما كطريقة لخدمة المجتمع".
يتعرّض الأئمة غير الحائزين على أذون، إلى العقوبات، ويمكن أن يُفرَض عليهم تسديد غرامات، وقد يُحكَم عليهم بالسجن لمدّة تصل إلى ثلاث سنوات، ومؤخراً، عمدت الدولة إلى تنظيم درجة الصوت ونوعه في آذان الصلاة خلال أيام الأسبوع ويوم الجمعة، لأنه اعتُبِر أن هناك إفراطاً في الحماسة في بعض الحالات، ولاسيما خلال آذان الصباح.
تتحرّك الأجهزة الأمنية لمراقبة المساجد والمدارس القرآنية خلال مراحل دقيقة، وفي أماكن مهمة، نظرياً تتمتّع الدولة بسيطرة شبه تامة على هذه المؤسسات الدينية، لكن ميدانياً، تبدو الأوضاع أكثر تعقيداً. فمن الصعب ضبط آلاف المساجد ومراقبتها مراقبةً شاملة. ويزداد هذا التعقيد مع وجود مساجد خارج سيطرة الدولة، وغير موالية بالضرورة للنظام.
وزير الأوقاف الجزائري
• الاجتهاد والإرشاد:
إلى جانب السيطرة المباشرة على المساجد والأئمة وسواهم من موظّفي الخدمة المدنية، تقدّم الدولة التوجيهات في العديد من المجالات الأخرى. فهي تؤمّن الإرشاد حول القوانين الأسرية، وتُطبَّق صبغة من الشريعة على الأحوال الشخصية. يُشكّل قانون الأسرة الذي ينظّم الزواج، والطلاق، والميراث – من جملة أمور أخرى – مصدراً للسجال العام والخلافي لأنه يستند أساساً إلى الشريعة، تستخدم الدولة مجموعة متنوّعة من الوسائل لتقديم اجتهادات دينية، وبالتالي للسيطرة على الميدان الديني. من هذه الأدوات المجلس الإسلامي الأعلى المسؤول عن جميع المسائل المتعلقة بالإسلام، وعن تنقيح المدركات المغلوطة، والاجتهاد الإسلامي. يُعيّن الرئيس أعضاء المجلس ويشرف على عملهم. وبإمكان المجلس أيضاً إصدار الفتاوى عند الضرورة.
في مايو 2017، أُنشِئ المجلس العلمي الوطني التابع لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف – والمؤلَّف من أئمة وفقهاء وباحثين وعلماء من الولايات الثماني والأربعين في البلاد – كي يكون المؤسسة الرسمية التي تتولّى إصدار الفتاوى. تجدر الإشارة هنا إلى أن المجلس أصدر ثلاث فتاوى حتى الآن. كذلك أنشأت الوزارة بنك الفتوى، وهو عبارة عن منصّة إلكترونية تُصدر فتاوى حول مواضيع متنوّعة، من ضمنها رمضان، والصلوات، والتجارة، والطلاق، والزواج، واللباس.
ومواصلةً للمساعي الهادفة إلى كبح تعدُّد الأصوات خارج سلطة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، أعلنت الوزارة عن إنشاء هيئة للتدقيق في نسخ القرآن الكريم، والتحقق منها. والهيئة مسؤولة أيضاً عن الإشراف على الكتب الدينية الأخرى، والموافقة على عرضها وبيعها في معارض الكتب. في العام 2014، حظّرت الوزارة نحو 250 كتاباً من معارض الكتب بسبب "تبريرها للتشيُّع والتطرف والإرهاب".
وبالمثل، تحدّد الدولة، من خلال الوزارة، نسب الزكاة التي يتوجّب على الناس منحها لمسجدهم. إذ تصدر الوزارة تعليمات إلى أئمة المساجد، بالتعاون مع لجانها الدينية، لجمع الصدقات. وفي موازاة ذلك، يمكن الحصول على أموال أخرى من العامّة عن طريق حساب مصرفي رسمي يمكن الوصول إليه من جميع المناطق، ثم تعيد الدولة توزيع المال على الأسر الفقيرة، والأرامل، والمطلقات اللواتي يربّين أطفالاً. وفي بعض الأحيان، تأخذ إعادة التوزيع هذه شكل قروض صغيرة بلا فوائد للمزارعين والشباب العاطلين عن العمل وغيرهم.
كما تسيطر الدولة على عملية الحج من خلال الديوان الوطني للحج والعمرة، الذي يحدّد الإجراءات الإدارية المنهكة التي يجب على الناس المرور بها لتأدية هذه الشعائر المقدّسة؛ وتشارك أيضاً في اختيار وتقييم الموظفين المسؤولين عن الحج. للحفاظ على احتكارها لتفسير الدين، تبثّ الدولة برامج دينية عبر التلفزيونات والإذاعات الرسمية، وتنظّم محاضرات دينية وطنية، مثل ملتقى الفكر الإسلامي والمسابقة الدولية السنوية لتلاوة القرآن.
ومع ذلك، يصعب الحفاظ على هذا الاحتكار حين يكون بمقدور الجزائريين الوصول إلى مجموعة من الدعاة، والمستشارين، والمفتين عبر القنوات الفضائية والإنترنت. ووفقاً لدراسة أجرتها شركة Interface Media في الجزائر في العام 2018، فإن الجزائريين مهتمّون بشكل خاص بالدعاة الأجانب - وتحديداً المصريين، والسعوديين أيضاً الذين يحظون بمتابعين جزائريين أكثر من مواطنيهم أنفسهم. وتحظى صفحة الشيخ السعودي المتطرّف محمد العريفي على فيسبوك بمليوني متابع جزائري، مقارنةً بمليون و300 ألف متابع سعودي، بعبارة أخرى، 16.3 في المئة من المعجبين بالعريفي هم من الجزائريين مقابل 8 في المئة من السعوديين.
لكن لاتزال بعض الشخصيات المحليّة تحظى بشعبية على الرغم من كونها سخيفة، مثل المدعو "الشيخ شمس الدين". فعندما سألته إحدى المشاهدات عن حقّها في الطلاق بعدما اكتشفت أنّ زوجها كان متزوّجاً من تونسية ومغربية، أجابها جهاراً بأنّ زوجها "يؤمن باتحاد المغرب العربي... ويجب عليه الآن أن يتزوّج من ليبية لينجح في توحيد المغرب العربي ككل"، وهذا قبل أن يبرّر في الآونة الأخيرة اشتهاء الأطفال جنسياً (أو البيدوفيليا) عبر الإذاعة الوطنية. كما أصدر داعية آخر، هو عبد الفتاح حمداش، "فتوى" على صفحته على فيسبوك في العام 2014 دعا فيها إلى قتل صحفي اعتبره "مرتدّاً"، فحكمت عليه محكمة مدينة وهران بالسجن لمدّة ستة أشهر وبدفع غرامة مالية قدرها 400 دولار أمريكي.
وفي مناسبات عدّة، دعت وزارة الاتصالات القنوات التلفزيونية الخاصة إلى الامتثال لقواعدها المتعلقة بالمرجعيات والبرامج الدينية، إلا أنّ الدولة لا تستطيع، على الرغم من ترسانتها القانونية والتقنية، ضمان اعتماد الناس على الشخصيات والهيئات الرسمية لتوجيههم دينياً. هناك قطاع آخر تستخدمه الدولة للتحدّث بسلطوية عن الدين، وهو التعليم الذي تم تأميمه في المادة 66 من دستور العام 1976. ومنذ ذلك الحين، بدأ تعليم التربية الإسلامية في كلّ المدارس، وبات يتوجّب على المدارس الخاصة اتّباع مناهج دراسية تتماشى مع المعايير الوطنية، خصوصاً في ما يتعلّق بتدريس الإسلام. وفي العامين 1999 و2003، أزالت وزارة التربية الوطنية مقاطع من الكتب المدرسية التي تدعو إلى التعصّب والجهاد والعنف.
على الرغم من أنّ النظام شديد المركزية ويشترط موافقة وزارة التربية على الكتب، إلا أن شبكة غير رسمية يمكن من خلالها لمجموعات تعليمية ومدارس قرآنية أن تعطي دروساً لا تتوافق بالضرورة مع صيغة الدولة الرسمية للإسلام. وفي العام 2016، كان يُعتقد، وفق محمد عيسى، أنّ 139 مدرسة قرآنية تقع خارج نطاق سيطرة وإشراف الدولة، إضافة إلى ذلك، تعدّ الكتيّبات الرسمية لتعليم الدين في المدارس متباينة، إذ حتى عندما تزعم الدولة أنّها تكافح السلفية، يبقى الخطاب في كتب التربية الدينية الجزائرية مخلصاً للروح السلفية.
وبينما تحارب الدولة ما تراه تعصّباً، لا تدرس كتبها المدرسية مختلف المدارس الفقهية، مثل الصوفية التي تستخدمها الدولة على نطاق واسع لمعالجة التعصّب والتطرّف العنيف، ومنذ أن أصبح عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للجزائر في العام 1999، روجت السلطات لصيغة أكثر تقليدية من الإسلام وشجّعت التصوّف، وتمّ تنظيم العديد من المؤتمرات لدعمها. وفي العام 2011، على سبيل المثال، وفي إطار تظاهرة "تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية"، تمّ عقد 11 ندوة وطنية ودولية في البلاد لتعزيز التصوّف. وفي العام 2016، تمّ تنظيم مؤتمر دولي صوفي في مدينة مستغانم لتعزيز التصوّف كبديل للإيديولوجيا السلفية الجهادية، إلا أنّه لا يوجد أي ذكر للتصوّف أو أي مدرسة فقهية أخرى في الكتب المدرسية التي لاتزال انتقائية وغامضة في تفسيرها للإسلام.
تعمل الدولة، التي تحاول محاربة الاستخدام الإيديولوجي للدين، على تعزيز ما تريد محاربته من خلال طرح خطاب ديني إيديولوجي. ونتيجةً لذلك، يخلق التعليم الديني الرسمي أفراداً "لا يستطيعون التمييز بين الدين كإيمان وبين استخدامه الإيديولوجي"، كما شرح عالم الاجتماع جيلالي المستاري.
• نشاز الفتاوى:
على الرغم من آليات الدولة للسيطرة، تُعتبر هذه المؤسسات عبارةً عن "بيروقراطيات ضخمة يسمح لها حجمها وتعقيدها ببعض الاستقلال الذاتي"، كما كتب الزميل غير المقيم في مؤسسة كارنيغي ناثان ج. براون في دراسة عن العالم العربي. فالمؤسسات الدينية الرسمية متعدّدة الأوجه، ولديها في بعض الأحيان أجندات متعارضة.
مثال جيّد على هذا التعقيد، هو فشل الدولة في تعيين مفتي للجمهورية، وهو أعلى مسؤول فيها عن الشريعة الإسلامية، نتيجة للمعاركة المتواصلة والأجندات المتباينة بين المجلس الإسلامي الأعلى، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف، ورابطة العلماء التي كان لها دور سياسي وديني حاسم عندما كانت الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي ولازال لديها تأثير مهم في المجال الديني. وقد فتح عدم قدرة هذه الجهات على تعيين "شخصية مُجمع عليها" الباب أمام تكاثر أصوات العلماء غير الرسميين، وبالتالي الفتاوى.
ونتيجة لذلك، يتم التصدّي للفتاوى المرّخصة من قبل الدولة بأخرى "مستوردة" من خارج الجزائر أو يصدرها "مشايخ" أصبحوا مشاهير محليين على الرغم من افتقارهم للمؤهلات والمعارف، الأمر الذي تسبّب في نشاز الأصوات وكذلك التعصّب. مثال جيّد على ذلك، هو الجدل الدائر حول القروض الحكومية للشباب من خلال "الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب". إذ استنكر الأئمة سيئي السمعة الذين عيّنوا أنفسهم بأنفسهم ويظهرون على شاشات التلفزيون، كشمس الدين وغيره، قرار الدولة بتزويد الشباب بالقروض، وشجبوا هذه الخطوة باعتبارها غير شرعية لأنّه يمكن تصنيفها على أنّها ربا.